لا جدال في أن الرقمية أسهمت إلى حد كبير في القضاء على الأمية بمعناها التقليدي، ونقلت مَن يشتغلون على التكنولوجيات الحديثة إلى مصاف المعرفة والوعي إلا بالنسبة للذين لم يتمكنوا بعدُ من التحصُّل على الهواتف الذكية والحواسيب وغيرها، أو يرفضون ذلك خوفًا من غزوها لعالمهم التقليدي. فقد أصبح بإمكان الجميع اليوم -حتى الذين لم يرتادوا المدرسة- أن يقرؤوا الرسائل وأن يكتبوا الأرقام التي تتصل بهم على الهاتف، وأن يشتغلوا بالآلة الحاسبة وأن يردوا على الرسائل.. بل أصبح مِن هؤلاء مَن اشتغل بصيانة الحواسيب والهواتف الذكية وعلاج مشاكلها، بشكل لا يجيده العلماء وخريجو المدارس العليا.
إن هذا بالضرورة يدعو إلى طرح السؤال: هل بقي أميٌّ في عالم اليوم؟ الحال أن الأغلبية العظمى -إن لم نقل الكل- أصبح يمتلك القدرة على الكتابة الرقمية، وعلى تدوين الاسم، والتعليق على الصور، والرد بالإشارات والأيقونات الدالة على الفرح والغضب والحب والحزن في الرسائل الإلكترونية.. وما إلى ذلك من أمور تجعل في الواقع الجميع قادرًا على الكتابة والقراءة بوسائط الاتصال الحديثة.
الرقمية وتغيرات الكتابة والقراءة
إذا كانت الأمية في العُرف هي عدم القدرة على القراءة والكتابة، فإننا في الواقع أمام أشكال جديدة للتعبير والكتابة، حيث إن الإنسان اليوم تجاوز التقليد الذي يعتمد على القلم في التعبير، والأغلبية -حتى المثقفين الذين يكتبون- قد استهوتهم الرقمية، بل إنها أصبحت ضرورية، بحيث إنك تجد الكاتب والصحفي قد لا يستعمل القلم طيلة أسبوع أو أسبوعين ولا يوظف إلا الكتابة الإلكترونية.. وذلك حال الناس الذين كنا نعدّهم أميين، حيث أصبحت لديهم القدرة على التعبير والكتابة باستعمال أدوات كتابة متنوعة ومتعددة تعتمد الأيقونات والصور والإشارات، فضلا عن لغة استهلاكية قد لا تحترم القواعد اللغوية إلا أنها معبرة ومفهومة من طرف المتلقي.. وهو ما يدعو إلى التفاعل مع المعاني الجديدة للكتابة، والتي يشتغل بها الأفراد اليوم بعيدًا عن الأساليب التقليدية، ويدعو أيضًا إلى إعادة النظر في لغة الكتابة نفسها.
والواقع أن هؤلاء الذين كنا نعدّهم أميين، أصبح بإمكاننا اليوم أن نسمّيهم حداثيين بخلاف عدد من المثقفين، من خلال تعاملهم الدائم مع الآلة الحاسبة واستثمارهم في الاقتصاد الرقمي، وتعاملهم تجاريًّا مع الرقمية عبر عقد الصفقات التجارية عن بعد، واستثمارهم ماليًّا في البورصات العالمية عن بعد، واستعمالهم الحواسيب في التعامل مع الزبائن والعملاء التجاريين والشركات التي يتعاملون معها.. وذلك كله دون أن يسبق لهم ولوج المدرسة، مما يدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الأمية، ومفهوم القراءة والكتابة.
أمية التعامل مع الرقمية
لقد صرنا اليوم أمام أمية جديدة تتمثل في أمية التعامل مع الرقمية من خلال عدم القدرة على الاندماج مع أشكال التواصل الإلكترونية الجديدة عبر بواباتها المتعددة، مثل الفيسبوك (facebook) والتويتر (twiter) والانستغرام (instagram) والواتساب (whatsApp)، وأشكال التراسل الإلكتروني، والكتابة الإلكترونية، والاشتغال على الوورد (Word)، والاعتماد في الحساب والمحاسبة على الإكسيل (Excel)، وتنظيم الإدارة بالأكسيس (Access)، واعتماد تقنيات العرض بالباور بوينت (PowerPoint)، والقدرة على توظيف واستثمار التكنولوجيا الحديثة من قبيل الداتاشو (Data show)، وعلى معالجة مشكلات الحاسوب وصيانته، وعلى التحكم في برامج العقل الإلكتروني (Logiciels)، وعلى معالجة المعلومات.
إن البعض -للأسف- ما زال غير قادر على استعمال الحاسوب والهواتف الذكية واللوحات الإلكترونية بشكل صحيح، بل إن البعض من المثقفين والأساتذة، يفتخرون بعجزهم عن تشغيل الحاسوب بله توظيفه في مهامهم الإدارية والمهنية، وذلك بدعوى أنه يفضل الكتاب الورقي وإن كان الكتاب بدوره قد تغير مفهومه، وأصبحت الكتب الأكثر رواجًا ومقروئية هي الكتب الإلكترونية.. بل يمكن الحديث مستقبلاً عن عهد نهاية الكتاب الورقي وتعويضه بالكتاب الإلكتروني الذي غزا اليوم المدارس والجامعات العالمية، وأصبح صديق الطالب والأستاذ والباحث والعامل لتوافره وسهولة حمله.
الرقمية والتعليم
فضلاً عن مساهمة الرقمية في محو الأمية، فإنها أسهمت بشكل كبير في النهوض بالتعليم، وذلك من خلال الوسائل الحديثة التي تُعِين على تجويد التعلمات وتشغيلها، بحيث تجعل المتعلم أكثر ارتباطًا بما يدرسه؛ فأصبحت هذه الوسائط جزءًا لا يتجزأ من حياته، وصارت مشاهدة شريط أو الاستماع إليه، أو مشاهدة أفلام تربوية أجدى بكثير من إملاء ملخص من قبل المدرس، ذلك أن الصورة تعتبر -دون شك- أكثر جاذبية من غيرها، ولذلك فضلت كثير من الدول المتقدمة الارتقاء بالمدرسة إلى الرقمية.
فضلاً عن ذلك، فإن الوسائط الحديثة قد أسهمت في تطوير بناء الدرس، من خلال السيناريوهات البيداغوجية التي عوضت عن جذاذات تحضير الدروس، وهو ما يمكن معه الانتقال الرقمي في وسائط التعليم والتعلم من خلال خلق ما يمكن تسميته “التعليم التفاعلي”، حيث يربط المدرس التعلمات المنجزة مع عوالم متعددة تجمع وسائط متعددة تشارك في العملية التعليمية التعلمية، بحيث يمكن في درس للتاريخ -مثلاً- أن ننقل التلميذ إلى مشاهد تاريخية حية عبر الصورة، وإلى أفلام قصيرة تاريخية، وإلى لقطات متعددة، وشهادات وربورطاجات وسيناريوهات، ومشاهد تتفاعل فيها الكتابة، والصورة، والصورة المتحركة، والفيديو.. وتتعدد فيها الحواس الموظفة في التعلم، مما يوجِد إقبالاً أكبر على التعلم.
التعلم الرقمي وبناء شخصية الطفل
لا شك أن الرقمية -رغم مخاطرها- قد أسهمت في تعليم الأطفال الصغار، من خلال دخول الطفل عبرها إلى عوالم جديدة للتعلم قبل التحاقه بالمدرسة، بحيث إن المعينات الحديثة حببت إلى الأطفال التعلم لا سيما تعلم اللغات؛ فقد أسهمت القنوات التلفزيونية في بث الدروس اللغوية عن بُعدٍ في أشكال تنخرط فيها فنون متعددة أبرزها الموسيقى، كما عملت مواقع التواصل الاجتماعي على بث فيديوهات تعلم اللغات والرسم والقرآن وغيرها من الفنون والعلوم، فأصبحنا نجد أطفالًا نابغين في إتقان اللغات الأجنبية، وفي تعلم الرسم والموسيقى وغيرها بفضل الوسائط التكنولوجية الحديثة.
هكذا أصبحنا اليوم أمام مدرسة حقيقية لدى الطفل قبل دخوله عالم المدرسة، بحيث يكون قادرًا على تكلم أكثر من لغة، وقادرًا على إتقان فنون متعددة، وأصبحت لديه القدرة على التواصل مع غيره عبر الوسائط الحديثة، فضلاً عن إتقانه الكتابة والقراءة وإن كان الأمر في الواقع يتطلب ترشيدًا لهذه العملية لتجنب المخاطر الممكنة على صحة الأطفال، وعلى نموهم النفسي والعقلي والجسدي.
الرقمية ونشر الوعي
لقد أسهمت الرقمية في نشر الوعي الإنساني بشكل غير مسبوق، وذلك من خلال الانفتاح على عالم المعلومة والدخول من بابه الواسع. فقد صار بإمكان الجميع اليوم، التعرف على المستجدات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، بدون تزييف أو تشويه، وأصبحت الحقيقة تصل إلى الجميع قبل أن تصل إلى وكالات الأنباء الإخبارية، وذلك بفضل الهواتف الذكية التي أصبحت الرفيق الدائم للإنسان. وهو ما يعزز الشفافية والديمقراطية كمبدأين أساسيين من مبادئ الرقمية.
لم تعد المدرسة والجريدة المكتوبة والكتب وحدها هي وسائل نشر المعلومات، بل أصبح بإمكان كل مَن لديه هاتف ذكيّ أن يصور أو ينشر.. وهو ما أسهم في نشر الوعي، بحيث أصبح بإمكان المرء أن يتعرف على ما يجري في العالم بضغطة زر؛ عبر استخدام محركات البحث ودخول مواقع التواصل الاجتماعي.
بل إن الارتقاء المعرفي والعلمي قد صار ممكنًا للجميع بفضل الرقمية، فأصبح بإمكان الجميع ولوج العوالم الإلكترونية، والاطلاع على الفيديوهات وغيرها، لمعرفة الواقع والحقائق، وللتعلم والمعرفة من خلال المحاضرات والدروس المبثوثة على اليوتيوب وغيره من المواقع؛ فصار بإمكان المرء أن يطور معارفه بمشاهدة ومتابعة الدروس عن بعد، وهو ما أسهم في نشر الوعي، وفي تنمية المعرفة لدى الجميع.
إن الرقمية، رغم بعض سلبياتها التي تسجل على مستوى تحولات القيم، والتي ترجع بالأساس إلى القصور في التوعية والترشيد بمخاطرها، إلا أنها في الواقع قد أتاحت فرصة التعلم للجميع والوعي والمعرفة، وهو ما يدعو إلى الإشعار بأهميتها، وترشيد التعامل معها، من خلال دروس توعوية يمكنها أن تكون عبر الرقمية ذاتها من خلال متخصصين، كما ينبغي أن تسهم الدولة في ذلك من أجل الأخذ بحسناتها وترك ما يمكن أن يسيء إلى المجتمع وإلى قيمه وأخلاقياته.
(*) مفتش تربوي للتعليم الثانوي / المغرب.