بداية نؤكد على حقيقة هامة تتمثل في أن الوصول إلى الناضج من الأفكار والآراء لا يتم إلا عبر التفكير التسامحي، الذي يجعل من تعدد الرؤى واختلاف وجهات النظر ليس مجرد أهواء تتناطح، بل زهور تتلاقح وتتكامل بحثًا عن نبض فتي ينبثق منه النور فيبدد ظلمة التعصب للرأي الواحد، ولو ألقينا نظرة على حضارتنا الإسلامية في عصور ازدهارها سنجد أنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من قوة وسمو في الأفكار، إلا بسيادة التفكير التسامحي الذي ساد مجالس المناظرات والمحاورات التي عرفتها المساجد والمجالس بين أهل الفقة والعقيدة والحديث والتفسير واللغة والأدب والعلوم الطبيعية، وما تلك الكتب والمؤلفات، التي يظنها البعض لمؤلف واحد إلا ثمرة تلك المحاورات والمناقشات التي قامت على أساس متين من التفكير التسامحي وتقبل الآخر، دون أن يحجر أحد عن رأي أو يمنع من قول، ما دام ذلك يتم في ضوء حرية التفكير التى كفلها الدين للجميع بغية خلق جو من الروح العلمية التسامحية التي عكست ما وصل إليه المجتمع من رقي فكري قاد إلى تنوع الأفكار وتوثيق الصلات وتعايش الثقافات.
التفكير التسامحي
والتفكيرالتسامحي يقوم على أساس أن لكل شخص الحق في التعبير عن رأيه الخاص، وليس من الضروري أن نتفق مع وجهة نظره، نظراً للتنوع الغني لثقافات العالم وطرق وأشكال التعبير الخاصة التي نعبر بها عن إنسانيتنا دون أن نغير من جلدتنا ونفقد خصائصنا، فهو ليس تنازلاً أو تعطفًا أو تساهلاً، ولكنه قبل كل شيئ إقرار بحق الآخر في طرح أفكاره ووجهة نظره، بهدف إيجاد أرضية وقواسم مشتركة للتعايش والتفاهم تجمعنا وتوحدنا، تقوم على أساس الاحترام المتبادل والحرية في طرح الأفكار، بعيدًا عن أي شكل من أشكال التعصب والتحيز لفكر معين.
أهمية التفكير التسامحي
للتفكير التسامحي أهمية كبرى في أرساء دعائم الفكر المستنير القائم على الموضوعية والبحث عن الحقيقة المجردة البعيدة عن هوى النفس، بإزالة ما علق بها من أعوجاج، عن طريق أن يجود الإنسان بما عنده من أفكار، وأن يقبل فى نفس الوقت ما يجود به الآخرين تحقيقًا لمبدأ التنوع الفكري والاختلاف الثقافي، ومن هنا تأتى أهمية التفكير التسامحي في أنه:
أولاً:أساس المناعة الذاتية
هذه المناعة الذاتية التي تتوالد عن طريق تبادل الأفكار والآراء، في ظل الحوار الهادئ المستنير القائم على المناقشة وتقبل الآخر لا على مجرد تعصب لفكر ورأى معين، ويفقد الإنسان هذه المناعة الذاتية تحت سيطرة بواعث الخوف من الاستماع للآخر، وخاصة أننا نعيش فى عصر يشهد زلزلة حضارية وفكرية، وتدفق معلوماتي وإعلامي رهيب، ولا سبيل للتعامل معه إلا بالتفكير التسامحي الذي يورث المناعة الذاتية ويجعل الفرد ينفتح على ثقافة الآخر دون الخوف من الوقوع تحت تأثيرها و الذوبان فيها.
ثانيًا:التعامل الراقي مع الأخر
إن التفكير التسامحي يقوم على أساس تفهم كل طرف لوجهة نظر الطرف الآخر، حيث يعرض كل طرف أدلته التى رجحت تمسكه بوجهة نظره، ثم يتبصر الحقيقة من خلال الانتقادات التى وجهها الطرف الأخر إلى أدلته، بهدف تعاون الطرفين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها بعيدًا عن أي شكل من أشكال التعصب والمكابرة، ومن هنا يعد التفكير التسامحي أسلوبًا راقيًا في التعامل مع الآخر، يبتعد فيه الإنسان عن التجريح والطعن والسخرية من الآخر؛ فهو فكر يعلي من النقاش الموضوعي، بينما الغير المتأثر بعاطفة هوجاء تحجب نور الفكر الصحيح تؤدي في النهاية إلى العقم الفكري والجدب المعرفي.
ثالثًا:محاربة التطرف الفكري
يقوم التطرف الفكري على أساس نزعة ذاتية أنانية نرجسية كامنة في كل كائن بشري، ولكنها أحيانًا تطفو إلى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ لها الجو الملائم من تقديس للأنا وأقصاء للآخر؛ فكل ما تقوله الأنا يدخل في أطار المطلق الصحيح، وكل ما يقوله الآخر يدخل في حكم الخطأ، ويقود في النهاية إلى موت لغة التواصل والحوار بين البشر، فهو إنغلاق وإنكفاء نحو الداخل، وارتداد على الذات، وتقوقع في زواية ضيقة ورؤية قاصرة، بينما التفكير التسامحي يحرر العقل من هذه الرؤية المتطرفة، ويسعى للبحث عن التماثل والخروج بأفكار جديدة قائمة على التنوع والاستقلالية الفكرية البعيدة عن كل صور وأشكال التشدد في الرأي تجاه فكرة بعينها بإعتبارها الحقيقة المطلقة الوحيدة وكل ما عداها خطأ فادح لا يقبل الناقش والحوار، وفي ذلك يقول الإمام الشافعى رحمه الله “رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب”.
رابعًا:التفاوت في المواهب والاستعدادات
كما أن التفكير التسامحي يرسخ مبادئ التفاوت في المواهب والاستعدادات لدى كل إنسان، ويجعلنا نؤمن بأن الناس ليسوا سواءً في قوة الذكاء ونفاذ البصيرة، والقدرة في تقديم الحجج والبراهين الواضحة، والتفاوت هنا لا يقاس بالمسافة الفاصلة بين عالم وجاهل، وإنما يقاس بالمسافة بين عالم وأعلم منه ولو في مسألة معينة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المبدأ في قوله تعالى (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ*فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)(الأنبياء:78-79)
ويقول ابن عباس في ذلك “يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا والله فوق كل عالم” ومن هنا يكون التفاوت في مراتب العلماء من حيث المواهب والاستعدادات سبب في اختلاف النظر وتباين الفهم، وهذا ما يسعى التفكير التسامحي إلى ترسيخه عبر لغة الحوار بطرح الأفكار وايجاد الحلول المتنوعة للمشكلات المختلفة.
خامسًا:التسليم بفكرة التجديد
والتفكير التسامحي يقودنا إلى التسليم بفكرة التجديد باعتبارها ضرورة عصرية، وإحدى سنن الخالق عز وجل في الكون فوقائع الحياة وواقعها رحم ولود بكل ما هو جديد لا يعرف التناهى ولا الحدود، والتفكير التسامحي يدعو إلى حرية ممارسة الأفكار، وطرح الرؤى والحث على الاجتهاد، بغية الوصول إلى أطروحات تواكب متطلبات العصر، وترسخ قيم وأسس الإبداع الفكري الذي يقضي على الجمود والتقليد الذي يقف حجر عثرة أمام سنن التجديد في الكون.
سادسًا:الوصول إلى نقاط إلتقاء
يهدف التفكير التسامحي الوصول إلى نقاط إلتقاء بين الآراء والأفكار لرسم خطوط الوحدة الفكرية بشأن قضايا المجتمع الإنساني المختلفة، بهدف إرساء دعائم التسامح وثقافة السلام والاحترام المتبادل بين الحضارات، من أجل مواجهة التأثيرات السلبية الناتجة عن نشر ثقافة الخوف من الآخر والدعوة إلى أقصائه.
سابعًا:التعددية الفكرية
يؤدي التفكير التسامحي إلى إرساء دعائم مبدأ التعددية في الآراء والأفكار والاجتهادات، وهذه التعددية دليل واضح على وجود عقول كبيرة ومتنوعة في التفكير تمتلك منهجية علمية راسخة قادرة على العطاء الفكري والإنتاج العلمي، ومبدأ التعددية هذا يقابل مبدأ الآحادية في الرأي والفكر وهو يؤدي في النهاية بالإنسان إلى صمم فكري ناتج عن جلد الأدمغة وفرض وصاية على الفكر والثقافة بسبب طمس بذور التنوع والتعددية، وهذا النوع من والأحادية يحصر الإنسان في نظرة آحادية ضيقة، بينما ديننا الإسلامي قد أقر منذ البداية مبدأ التعددية الدينية والثقافية، وصارت هذه التعددية من العلامات المميزة في التعاليم الإسلامية فقد تأسس مجتمع المدينة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم على التعددية الدينية والثقافية، وقد مارس المسلمون ذلك من بعد عمليًا على مدى تاريخهم الطويل.