منعه سفره لتجارة خارج المدينة أن يشهد بدرًا مع حبيبه المصطفى ﷺ، فتقلب في آلام هذه المفارقة عامًا كاملًا، كيف يفوته هذا المشهد العظيم وهو الذي لم يكن يفكر بمفارقة الرسول الأكرم ﷺ حتى في منامه؟
كيف يغيب عن أول مشهد في الإسلام؟ لقد كان لديه العذر، لكن الهم الذي نزل به لا يضارعه أي هم، فلبدرٍ مكانة خاصة ومتميزة، حتى الذين اشتركوا فيها لهم مكانة خاصة بين أصحاب رسول الله ﷺ. بل إن من اشترك فيها من الملائكة لهم مكانة خاصة بين سائر الملائكة كما حدَّث بهذا جبريل عليه السلام الذي كان على رأس الملائكة يـوم بـدر.
إنه أنس بن النضر، عم أنس بن مالك رضي الله عنهما، يحدثنا سيدنا أنس رضي الله عنه عن هذا الهم الذي أرَّق عمه بعد غيابه عن هذا المشهد المبارك كما ورد في صحيح مسلم قائلاً: “عَمِّيَ الَّذِي سُمِّيتُ بِهِ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بَدْرًا، قَالَ: فَشَقَّ عَلَيْهِ، قَالَ: أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غُيِّبْتُ عَنْهُ وَإِنْ أَرَانِيَ الله مَشْهَدًا فِيمَا بَعْدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيَرَانِي الله مَا أَصْنَعُ، قَالَ: فَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا، قَالَ: فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ لَهُ أَنَسٌ: يَا أَبَا عَمْرٍ وَأَيْنَ ؟ فَقَالَ: وَاهًا لِرِيحِ الْجَنَّةِ أَجِدُهُ دُونَ أُحُدٍ، قَالَ: فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.. ”
ويعلق الأستاذ كولن في النور الخالد على هذا بالقول: “عندما تتداعى ذكريات معركة أُحد لا نستطيع أن ندفع الإحساس بهذه الغصة التي تنشب في حلوقنا… فهي المعركة التي استشهد فيها سبعون صحابيًّا. ومن يدري فقد يكون هذا هو السبب الذي قال من أجله النبي ﷺ وهو يمر من أمام جبل أُحد: “أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ” (رواه البخاري) لكيلا نَحمِل أي ضغينة تجاهه.
لقد صدق أنس بن النضر وعده، وصدق الآخرون -من أشباه أنس- وعودهم، ذلك لأنهم تربوا في مدرسة الحبيب محمد ﷺ فمثلما كان الحبيب صادقًا أمينًا كان أصحابه وتلامذته صادقين أمناء.
في هذه المعركة كان أنس بن النضر يصول ويجول هنا وهناك يحاول أن يبر بوعده الذي قطعه للرسول ﷺ قبل عام. ولكن سرعان ما امتلأ جسده بضربات السيوف وطعنات الرماح فهوى إلى الأرض مضرجًا بدمائه… كان قد اقترب من النهاية، وعندما مرّ به سعد بن معاذ قال له وهو يبتسم بوهن: “واهًا لريح الجنة أجده دون أُحد.”
في هذه المعركة صعب التعرف على كثير من الشهداء مثل حمزة ومصعب بن عمير وعبد الله بن جحش، وأنس بن النضر الذي ما تعرفت عليه أخته إلا من بنانه، فلعلها المكان الوحيد الـذي لـم تصبه الجـروح.
ولندع سيدنا أنس بن مالك يكمل رواية استشهاد عمه:” فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ، قَالَ: فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ مِنْ بَيْنِ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ، قَالَ: فَقَالَتْ أُخْتُهُ عَمَّتِيَ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ:” فَمَا عَرَفْتُ أَخِي إِلَّا بِبَنَانِهِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّٰهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ (الأحزاب:23).قَالَ: فَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ” .
كانت هذه الآية تشرح هذه الشهامة… لقد بَرّ بوعده الذي قطعه على نفسه من أنه سيقاتل حتى الموت… وقُتل، ولم يستطع الموتُ دفعَه لِنكث وعده.
نعم لقد صدق ما عاهد الله عليه. والآية الكريمة عندما تثني على مثل هؤلاء الشهداء تريد أن تقدمهم لنا قدوة حسنة يجب أن يحتذِي بها كل من شهد أن “لا إله إلا اللّٰه” لكي لا يضيع الدين ولا ينتكس الإيمان ولا تُمتهن شرائع الله.
لقد صدق أنس بن النضر وعده، وصدق الآخرون -من أشباه أنس- وعودهم، ذلك لأنهم تربوا في مدرسة الحبيب محمد ﷺ فمثلما كان الحبيب صادقًا أمينًا كان أصحابه وتلامذته صادقين أمناء.
إن تقلبه في الهم عامًّا كاملاً ختم اليوم أحسن ختام، نسأل الله تعالى أن يرزقنا بعضًا من هذا الهم في جنب الله تعالى.
يقول الأستاذ كولن: “إن العيش في آلام هذه الأمة المنكوبة البائسة، والتفكر في أحوالها، والتألم لآلامها، دعاء عظيم وتضرع كبير قد يفوق أجره أجر ألف ركعة من الصلاة حتى في مكة المكرمة، وأفضل من الطواف حول الكعبة. أجل، قد لا تكون فتحت كفيك وتضرعت إلى الله تعالى قائلًا: “يا رب!” ولكنك أرقت وتقلبت في الفراش حتى الصباح، وحُرمت عيناك النوم وأنت تفكر في أحوال الأمة الإسلامية. إن تجرع مثل هذه الآلام يعد دعاءً عظيمًا وكبيرًا، وعند التوجه إلى الله يقول أهل السماء: “آمين”، وهي لحظة يصل فيها المؤمن بآلامه هذه إلى مرتبة سامية، وتتزين هذه المرتبة أكثر إن صحبتها الأدعية.. تلك اللحظة التي يحس فيها المؤمن بصداع في رأسه، ويضع يده على خاصرته وهو يتلوى من الألم، لأنه يكون آنذاك مع إخوانه الذين يقلق من أجلهم.”.