مما تميزت به الثقافة الإسلامية أن رؤيتها لقضايا الإنسان والحياة والكون مؤسسة على عقيدة راسخة، تتسم بالوضوح والملاءمة والجلاء، ذلك أنها:
أولاً: تنظر لتلك القضايا في دائرتين اثنتين، دائرة الإرادة الكونية القدرية التي يخضع فيها الإنسان للسنن الإلهية، وينتظم مع جميع المخلوقات في العبودية لله الواحد الأحد الفرد الصمد، المهيمن المؤمن السلام العزيز الجبار خضوعًا جبريًا لا اختيار له فيه، (كل له قانتون).
أما الدائرة الثانية فهي دائرة الإرادة الشرعية الاختيارية، التي تكون له فيها حرية العمل بأن يعمل أو لا يعمل، ثم هو مخير في أن يعمل الخير، ويدور مع الحق ويسابق في الخيرات، وقد يعمل العكس فيتورط في الشرور والآثام، ويدور مع الباطل ثم يجزى من جنس عمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معًا، وفقًا لسنن الله في النفس والكون والحياة، يقول تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(الزلزلة:7-8)، وقال كذلك: (فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(الكهف:29) (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(البقرة:256)، (وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى)(النجم:39).
والنصوص في ذلك كثيرة جدًّا من الكتاب والسنة في بيان هذه الإرادة والاختيار؛ والشاهد من ذلك أن الأحداث التي تمر بالأمة، والموقف منها وتنزيل النصوص عليها ينبغي أن يفرق بين الإرادتين، ويدرك ما يندرج تحت كل إرادة وما بينهما من تداخل وتمايز ومطابقة ومخالفة، وذلك بإعمال النصوص الشرعية الواردة في هذا الصدد، وعدم إهمال بعضها لتعزيز بعضها الآخر، وإنما الجمع بين النصوص بإعمال كل نوع فيما ينطبق عليه من مقتضيات الدائرة الأولى أو الثانية. فهناك أحداث قدرية كونية تأخذ مجراها وتنتهي لمنتهاها وفقًا لسنة الله؛ (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً)(فاطر:43)، (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(فاطر:43)، وهناك أحداث تندرج تحت اختيار الإنسان وتحدث نتيجة عمله فما كان من هذا النوع فهو مضمار العمل والنقد واللوم والمحاسبة ويخضع للمواصفات والمقايسة ويكون مجالاً للتنافس والابداع والسبق والمسارعة وقد وصف الله المؤمنين بأنهم (يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)(المؤمنون:61).
ثانيًا: هناك تداخل بين الإرادتين فيما يعمل الإنسان كون عمله يؤثر في السنن الكونية والنفسية والاجتماعية، هذا التداخل حقل دراسات واسعة في مجال تفسير التاريخ. ومن يتتبع القصص في القرآن الكريم يجد حشدًا هائلاً من هذا التداخل والأسباب والمسببات؛ ولئن جاء القصص في القرآن الكريم لأخذ العبرة بخبر الغابرين وأنباء المتأخرين: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ)(يوسف:111)، فإنه أبان عن ثلاث حقائق مهمة:
الأولى: أن الكون والحياة والإنسان كل ذلك محكوم بسنن إلهية دقيقة منضبطة.
الثانية: أن هذه السنن منسجمة متداخلة يتصل بعضها ببعض ويندرج بعضها في بعضها الآخر.
الثالثة: أن عمل الإنسان يؤثر فيها جميعًا تأثيرًا إيجابيًا إن استقام على شرع الله واتبع صراطه المستقيم قال تعالى: (وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)(الجن:16)، ويؤثر فيها جميعًا تأثيرًا سلبيًا إن تفلت من شرع الله، ونكص عن صراطه المستقيم قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(الروم:41).
ثالثًا: بما أن حياة الإنسان تتجاوز عمل الفرد إلى عمل المجتمع -والإنسان مدني بطبعه- فكذلك الأحداث تتجاوز مسؤولية الفرد إلى مسؤولية المجتمع، وبذلك يرتبط الفرد بمجتمعه ارتباطًا قويًا؛ فيلزمه واجب خاص به يؤديه وواجب آخر ضمن المجتمع.
ومن هنا نشأت جدلية فيما هو خاص، وما هو عام وما يترتب على الخاص والعام، وما يتحتم من التكامل بينهما والتوازن، وما يتكون من تشريعات تنظم حياة الفرد وحياة المجتمع. وقد تفردت الشريعة الإسلامية بتحقيق التكامل والتوازن بين الفرد والمجتمع في انسجام ومواءمة، ينعم الفرد بحرياته الأساس، ويتمكن المجتمع من سلطته، تلك السلطة المحكومة بالعدالة والمتسمة بالرحمة والإحسان… وإذا كانت مجريات الأمور وأحداث الحياة قد تميل في جانب على حساب الآخر، فإن شرع الله يقيم العوج، ويفرض الاستقامة بأحكامه العادلة وأقضيته الملتزمة بأخلاقيات الإسلام وقيمه السمحة.
والحديث عن ذلك مستفيض بالنصوص والشواهد التطبيقية في تاريخ الأمة؛ من الأمثلة ذلك:
- العناية بتربية الفرد تربيةً راشدة، تعتمد على ربطه بخالقه عز وجل فيما يقول ويفعل، وما يأتي ويذر بنيةٍ صالحة وعمل مخلص، تربيةً تغرس في وجدانه أهمية العمل الصالح، وأنه لا يتأتى إلا في مجموع هذا المجموع محكوم بحكم إلهي صارم، مستهل بقسم الله العظيم وحكمه الماضي الأكيد (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)(العصر:1-3). يُروى أن الشافعي قال : “لو لم ينزل على الناس إلا هذه السورة لكفتهم”؛ لا غرو فقد رسمت المنهج وحددت المسار بالحكم القاطع الأبدي على الإنسان بالخسر، ثم الاستثناء من ذلك الحكم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، فلا فكاك للفرد عن مجتمعه ولا نجاة له بمفرده.
- بما أن صلة الفرد بالمجتمع بهذه المكانة، وارتباط صلاحه بصلاحه وكون صلاحهما منوط بالعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فإن ذلك يفرض نوعًا من المسؤولية الاجتماعية على الفرد وعلى المجتمع، ذات أوجه متنوعة وجوانب عدَّة يضطلع ببعضها الفرد وبعضها الآخر يضطلع بها المجتمع، مرجعيتهما فيها إقامة مبادئ الحق وقيمه، وزادهما في القيام بها الصبر، وبذلك تستقيم الأمور، وتسير عجلة الحياة في الاتجاه الصحيح.
- تأسس تحت يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم وتحت نظره مجتمع مدني غير مسبوق، يستند إلى خطابٍ أدبي فكري بلغ درجة الإعجاز في بيانه وبلاغته، وانتهج أسلوب الحوار الراقي والتفكير في قضايا الوجود والحياة والاجتماع البشري وتاريخه. احتل هذا الخطاب مرجعية ذلك المجتمع، وبنى قوته الثقافية منذُ البعثة النبوية المباركة وما صاحبها من أحداث، وتبعها من معالجات، لمواقف قريش وصلف صناديدها في تقبل الرسالة والدخول في دين الإسلام أو السماح له بتبليغه ونشره حتى أجبرته بممانعتها المتسمة بالغضبية والصلف والكبرياء، والتآمر المشين على الخروج من موطنه مكة، فهاجر إلى المدينة المنورة وقبل هجرته الميمونة هاجر بعض أوائل من دخل الإسلام من دكتاتورية أبي لهب وجبروت أبي جهل لعدالة النجاشي وديمقراطيته.
- شرع المصطفى صلى الله عليه وسلم منذ وطئت قدماه أرض طيبة الطيبة في تكوين المجتمع المدني، من خلال مؤسساته الدينية والمدنية، المتمثلة في بناء مسجد قباء ومسجده الشريف، وما تلا ذلك من تشريعات ونظم تعليمية وتربوية واقتصادية وسياسية أقامت كيان الدولة والوطن وأنشأت العلاقات الداخلية والخارجية وحررت المعاهدات والمراسلات وقامت بإرسال الوفود واستقبالها. ومن اللطائف الدالة على تكوين المجتمع المدني كونه غير اسم المدينة من يثرب؛ اسمها القديم إلى المدينة ونهى أن تسمى يثرب. وفي هذا بالغ الدلالة على أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا مدنيًا في أسلوب حياته وفي أنظمته وتشريعاته وعلى هذا المنوال كان المصطفى الكريم يؤسس المجتمع المدني ويعزز فكرته وتطبيقاته في شتى الميادين والمجالات، حتى غدا على أكمل وجه وأتم صورة متوجًا بفتح مكة المكرمة:
مضت العداوة وانقضت أسبابها
ودعت أواصر بيننا وحلوم
وعليك من علم المليك علامة
نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبةٍ برهانه
شرفًا وبرهان الإله عظيم
توج ذلك المجتمع وتلك المرجعية ما تضمنته حجة الوداع من مبادئ السلام، وقيمه ونظمه في الحياة والأحياء في إطار الحقوق والواجبات؛ حقوق الإنسان بعامة وحقوق المرأة بخاصة، وربط فاعلية المسلمين الحضارية بالزمن والأخلاقيات الإنسانية السامية، وخطبه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع زاخرة بقيم المجتمع المدني وتشريعاته ونظمه.
ختامـًا
فإن الدارس لنصوص الإسلام من الكتاب والسنة وتطبيقاتها في السيرة العطرة، يقف على تكوين المجتمع المدني في أكمل صورة وعلى أفضل مثال؛ تكوينه على الإيمان والعلم والمعرفة، وعلى قيم التسامح والتعاون والتكافل والتعايش السلمي، المؤسس على الحب والرحمة في شبكة العلاقات الاجتماعية، وقيم الحق والخير والجمال في فاعليته الحضارية.
وعلى الرغم مما حدث بعد أن انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى من أحداث كادت تفرق الأمة وتعيدها لحالة التمزق والشتات والعداء والاقتتال، إلا أن رسوخ مفاهيم المجتمع المدني، وسيادة التشريعات والنظم المتكاملة كان هو الخيار الأمثل الذي استطاع خليفة المصطفى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوة ثقته في الله، وإيمانه بموعوده، ومضاء سنته في النفس والحياة والكون التي شكلت قوة الثقافة، لا ثقافة القوة التي هي مرجعية ذلك المجتمع المدني الفريد، أن يقف في وجه تلك الأحداث وأن يثبت قواعد العدالة وسيادة النظام العام بطابعه المدني الإنساني، ثم انتشر الإسلام وعمت الرحمة وشاع السلام، وترسخت نماذج هذا المجتمع في تاريخ الأمة الإسلامية الحضاري بما يرشحه لأن يكون خيارها الأمثل في واقعها الراهن ومستقبلها الواعد.
(*) أستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية / المملكة العربية السعودية.