“كم ترك الأول للآخِر”؟ وكم فوّت الآخِر من إبداعات الأول؟ فلا الأولون أغلقوا علينا مجالات الإبداع، ولا المتأخرون أدركوا كثيرًا من إبداعات الأولين.
وكما لم يجز إغلاقُ باب الاجتهاد، لم يجز إهمالُ ما بناه الأولون من الاجتهاد.
وكما خسرنا كثيرًا جدًّا في السابق جرّاء التقليد وإغلاق باب الاجتهاد (الإبداع)، فإننا ما زلنا نخسر من إهمال الصرح العظيم القديم لاجتهادات و”إبداعات” الأولين.
والحقيقة أن الانغلاق الفكري وضمور القدرة على الإبداع كما شجّعا على التقليد ردحًا من الزمن، فهما نفسهما شجّعا على عدم إدراك إبداعات المتقدمين، حتى في ظل الدعوة المعاصرة للإبداع والتجديد ونبذ التقليد!
إن “الحقيقة” بحد ذاتها هي الإبداع، والواقف على “الحقيقة” مبدِع، سواء كان سابقًا أو مسبوقًا، بشرط أن يعرفها بمنهج علمي لا تقليدي.
فنحن في حاجة إلى أن نعرف حاجتنا الماسة للإبداع أولاً، ثم أن ندرك بعمق حقيقة الإبداع ما هو، والتي هي الحقيقة نفسها. ثم ندرك أن إدراك الحقيقة لا يكون إلا في سياق الحرية الفكرية والخيال الواسع، لكي نكون مبدعين.
فليس الإبداعُ مقصورًا على الإتيان بالجديد، ولا كل جديد إبداع، ولا كل قديم ليس إبداعًا.. فكما كان من الإبداع أن تسبق إلى الحقيقة التي لم يعرفها أحد قبلك، فقد يكون من الإبداع أيضًا أن تكتشف أنت باستقلال استدلالك الخاص الحقيقة التي سبقك إليها الآخرون.
وهذا يؤكد حقيقة مهمة وهي أن “الحقيقة” بحد ذاتها هي الإبداع، والواقف على “الحقيقة” مبدِع، سواء كان سابقًا أو مسبوقًا، بشرط أن يعرفها بمنهج علمي لا تقليدي. كما أنه لا فرق بين مبدع وآخر، إلا بقدر حجم “الحقيقة” المكتشفة، وأن حجمها يوزن بقدر ما كان مجهولاً منها، وبقدر ما تفيده في اكتشاف الحقائق الأخرى.
وفي زمن الثورة المعاصرة على الجمود والتقليد -كما نخشى على هذه الثورة من هجوم التقليديين ضدها ومن اغتيالهم لها- فإننا نخشى أن تصبح هذه الثورة أداة هدمٍ لإبداعات السابقين، وإهدارًا لمنجزات عظيمة كان يمكن أن نبني عليها منجزاتنا، وأن نكمل إبداعاتهم بإبداعاتنا؛ لأن كل إبداعٍ لا يمكن إلا أن يكون وليدًا لإبداعٍ آخر سابق، ولا يمكن أن يكون الإبداع وليد عدمِ الإبداع إلا عند الخالق الذي يبدع من العدم.
فمن أراد أن يبدع بلا تأسيس إبداعه على إبداعات السابقين، فقد نازع الرب خاصية من خصائص الربوبية، فهو إما ملحد أو مجنون، وإما مبدع في الفشل وفي المثابرة والإصرار على عدم الإبداع.
كل إبداعٍ لا يمكن إلا أن يكون وليدًا لإبداعٍ آخر سابق، ولا يمكن أن يكون الإبداع وليد عدمِ الإبداع إلا عند الخالق الذي يبدع من العدم.
والحق يقال إن من أسباب ظهور جيلٍ من طالبي الإبداع من غير تأسيس على الإبداعات السابقة، هو وجودُ جيلٍ من أناس ترأّسوا باسم العلم، وباسم حمايته، فأعطَوا تصوراتٍ مغلوطةً عن اجتهادات السابقين، فزَهِد فيها بسببهم طالبوا الإبداع، لظنهم عدمَ صلاحية التأسيس القديم في أن يكون قاعدةً لانطلاقتهم الإبداعية.
فنحن في حاجة ماسة لمن يبدع حقًّا بالتأسيس على إبداعات السابقين، لحاجتنا إلى الإبداع أولاً، ولكي نعطي النموذجَ الحيَّ للإبداع الصحيح ثانيًا، ولكي نُثبت أخيرًا أن الإبداع الحقيقي لن يكون بالتنكُّر للإبداع القديم، بل باكتشافه من معادنه الأصلية، من دون الاعتماد على الوسائط غير الأمينة عليه (لعدم كفاءتها) من كثير من المتأخرين والمعاصرين، ثم ببناء إبداعنا على إبداعهم.
فهل آن الأوان لترشيد حمايةِ التراث ولترشيد الإبداع معًا؟
(*) كلية الدعوة وأصول الدين، جامعة أم القرى / المملكة العربية السعودية.