من منا لا يريد أن تنتظم حياته الروحية؟ من منا لا يريد أن يكون لقلبه وجبات أثناء اليوم يتغذى بها كما يتغذى جسمه بوجبات الطعام؟ هل يوجد بيننا من لم يحلم بسكينة قلبية وعلاقة قوية مع الله؟ كم من مرة انطلقنا في ترتيب حياتنا الروحية فأخفقنا فيها بعد حين؟
في الحقيقة كلنا ذلك الإنسان. كلنا نريد ذلك، لكننا نفشل في التنفيذ والثبات على خط معين، ومن ثم فرمضان فرصة ذهبية لتنظيم حياتنا الروحية واكتساب سلوكيات تبقى معنا وتكون رفيق دربنا بعد رمضان كذلك.
ضياء التهجد
أول تلك السلوكيات المواظبة على الصلوات؛ ففي معمعة الحياة اليومية وسرعتها قد تفوتنا بعض الصلوات بقصد أو بغير قصد، لكن لأجواء رمضان سحر غريب يغمر الناس جميعًا، فنجد أنفسنا نسير مع الركب نحرص على ألا تفوتنا صلاة واحدة. ثم إننا قد نتخلى –في الأيام العادية- عن النوافل في الصلوات فنحرم أنفسنا من ثوابها، لكن رمضان يذكرنا بأهمية السنن ويدربنا على كثرة الركوع والسجود. فها هي صلاة التراويح أو صلاة القيام كما يسميها بعض العلماء فرصة ذهبية لكي نعوّد أبداننا على كثرة السجود.
من منا يواظب على صلاة التهجد طوال العام؟ بصراحة قليل منا من يُحيي ظلمة الليل بصلاة التهجد مع أنها ستكون ضياء المؤمن في ظلمة قبره كما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة، فليالي رمضان تفتح لنا الباب على مصراعيه لكي نخوض تجربة التهجد، إذ إن الغالبية من الناس لا ينامون في رمضان حتى وقت السحور، ومن ينام منهم يصحو لكي يتناول بعض اللقيمات استعدادًا لصيام اليوم التالي. فما المانع من إطعام الروح بعض الركعات من صلاة التهجد حتى تزداد رقة وشفافية وقربًا من بارئها.
تصوروا أنكم صليتم التهجد طيلة ليالي رمضان، ألن تكون النتيجة مذهلة؟ بالتأكيد، فإن الجسم سيتعود على الصحو في الليل والوقوف بين يدي الله تعالى. لذا ينبغي ألا تفوت على الصائمين هذه التجربة وهذه الفرصة للتدرب على قيام الليل، فمن أحيا ليله فقد أنار نهاره كله.
التفنن في الدعاء
من السلوكيات التي يمكن اكتسابها في رمضان كثرة الدعاء ومناجاة الخالق عز وجل، لأن الإنسان العادي قلما يدعو الله وسط ضوضاء الحياة وزحمتها، فالحياة تجرفه في تيارها السريع فتنسيه نفسه وتنسيه ربه، في حين أن الدعاء شفاء للروح والتقاط للأنفاس وتخفيف للأعباء ولقاء مع الخليل سبحانه وتعالى. رمضان يتيح لنا فرصة ذهبية لكي نعوّد أنفسنا على مناجاة الله تعالى في مواقف مختلفة، ومن ثم فهو فرصة لكي نثري من عبارات الدعاء ونتفنن في الأوراد والأذكار والتسابيح.
ولا ننس كذلك أن رمضان يمنحنا فرصة للمواظبة على صلاة الجماعة، في حين أننا في الأيام العادية قد لا نجد فرصة لصلاة الجماعة على الدوام، فها هي صلاة المغرب تقام جماعة على الأكثر في رمضان، وها هي صلاة العشاء والتراويح تقام في المساجد وسط روح جماعية لا مثيل لها. أي نعمة هذه! أي منحة عظيمة هذه التي تعيد الوصل بين العبد وبين صلاة الجماعة، كما تعيد الوصل بين العبد وبين المسجد وبين إخوانه في الإيمان والعقيدة.
التفاعل مع القرآن
من السلوكيات التي يثبتها رمضان في قلوبنا التفاعل المستمر مع القرآن المجيد؛ من منا يواظب على قراءة القرآن بشكل منتظم خارج رمضان؟ أعتقد أن العدد لن يكون كثيرًا، وأرجو ألا أكون سيء الظن. لكن عندما يحل رمضان في ديارنا نشعر وكأن القرآن بدأ يتنزل من جديد حيث تقام موائد القرآن في كل مكان، وينطلق الجميع في سباق محموم لختم القرآن والمشاركة في دروس فهم معانيه. رمضان فرصة لا تقدر بثمن لكي نعيد صلتنا بالقرآن ونصحح علاقتنا به ونتخذه رفيقًا ينير لنا درب الحياة في سائر أيام العام.
كل هذه السلوكيات، البدنية منها والروحية، قابلة للاكتساب والتطبع في رمضان، ولكن إذا أردنا ذلك، وألححنا في الطلب، أجل، إذا أدركنا رمضان بهذا الوعي، إذا سلّمنا أنفسنا لبرنامج رمضان طوال شهر كامل مع حرص تام على المواظبة والتزام كامل بما يطلبه منا.
إذا فعلنا ذلك فسنخرج من رمضان بغير الحال التي دخلناها، سنخرج أفرادًا آخرين. سنخرج وقد اكتسبنا عادات وسلوكيات يستحيل اكتسابها في وقت آخر، وسنبلغ العيد فائزين، نعم، فائزين بغفران من الله وعتق من النار، وفائزين بعادات تثبّت أقدامنا على الصراط المستقيم على امتداد العام.