لم تخطط “إيفا ميروفيتش” (1909- 1998) لتكون حياتها بهذا الشكل، ولم تتوقع أن يتحول مسارها لتصبح كاتبة ومترجمة، وتبني جسورًا حيوية بين الشرق والغرب. لقد كانت سيدة نحيلة القوام، لكن ذات إصرار وعزم لا يلين،وامتلكت عقلاً متميزًا، وفكرًا نيرًا، وحماسًا بحثيًا نادرًا، وتشبّعت عقلاً وروحًا بمعاني الكونية والإنفتاح، والأخلاقيات والتعايش، والاجتهاد والإستقلالية، فكانت ثمارها مفعمة بالإخلاص والجمال.
ولدت “إيفا لامارك” بالضاحية الباريسية بفرنسا وترعرعت فى أسرة نبيلة، وتابعت دراستها داخل المؤسسات الكاثوليكية حتى إجازتها في القانون. ثم سجلت لنيل الدكتوراه في الفلسفة “الرمزية عند أفلاطون”، وفي الثانية والعشرين من عمرها.. تزوجت “لازار ميروفيتش” من أصل يهودي. وقامت بإدارة مختبر “فريدريك جوليو- كوري” الذي رافقها مع عائلتها في رحلتها هربًا من الإحتلال الألماني لباريس سنة 1940، وقد كان زوجها آنذاك في صفوف القوات الحرة الفرنسية ومع نهاية الاحتلال، تعرفت إلى المستشرق الكبير “لويس ماسينيون” الذي ساعدها عبر مراحل حياتها خصوصًا بعد الموت المفاجيء لزوجها سنة 1950.
“أود أن أدفن بقونية كي أبقى بجوار بركات مولانا”
وخطت السيدة “إيفا” أول خطواتها العلمية نحو الإسلام وتعرّفتُ عليه أكاديميًا. حيث أهداها زميل باكستاني كتاب: “تجديد الفكر الديني في الإسلام” “Reconstruire la pensée religieuse de l’Islam” فوجدت فيه جوابًا لأسئلة كانت تشغل فكرها. ثم طافت بمؤلفات الشاعر الفذ، والفيلسوف الكبير “محمد إقبال” فدرستها بعمق، وترجمت بعض مؤلفاته وأشعاره إلي الفرنسية مثل: “رسالة الخلود”، و”تطور الميتافيزيقا في فارس”، وديوان “الأسرار والرموز”، وديوان “رسالة المشرق”، وكانت ثمة صلة مُنعقدة بين “إقبال”، و”ماسنيون”.. فاستفادت “إيفا” من ذلك، وقدّم “ماسينون” لبعض ترجماتها وأثنى عليها.
بعد دراسة “إقبال”.. جاء دور “الرومي”
من المعلوم تأثر “إقبال” بمولانا “جلال الدين الرومي” حيث يقول: “صيّر الرومي طيني جوهرا، من غباري شاد كونًا آخراً…. وأنا أثر من آثار جلال الدين الرومي”. فبعد دراسة “إيفا” لأعمال “إقبال” تابعت المسار نحو “الرومي”، فظهرت دراستها: “الرومي، والتصوف” (1977). كما ترجمت له ديوان “شمس تبريزي” بالتعاون مع الأستاذ “محمّد مُقري”، العالمٌ الكُرديٌّ الذى كتب بالفرنسية عن أساطير “النور والنار”. ثم وضعت كتاب “فيه ما فيه”- وهو عمل نثري ونسخة مختصرة ومفتاحية لقراءة “المثنوي”- في متناول القارئ الفرنسي. كما قدّمت مختارات من رسائل “الرومي” التي تشير للدور الاجتماعي والسياسي للصوفية في “قونية”. وترجمت بالإشتراك مع “جمشيد مرتضوي” (ولد نامه) وهو نصّ تأريخي كتبه الوارث الحقيقي لمولانا وهو ابنه “سلطان ولد”، ومن خلاله يُمكن التعرف بدقة على تاريخ “الرومي، والمولوية”.
يقول مولانا: “لم أنظم لك المثنوي لتحمله أو تردد ما فيه، بل لتضعه تحت قدميك وتطير بصحبته”
واستمر اكتشافها عالم مولانا “جلال الدين البلخي (الرومي)/ (المولوي)” (604-683هـ) (1207-1273م) جعلها تتعمّق في دراسة كلماته وعباراته، وثنائياته وأشعاره، وترجمتها للفرنسية. فذاق حلاوتها كل الناطقين بالفرنسية من المسلمين (بخاصة في القارة الإفريقية)، ومن غير المسلمين على حد سواء. والمتأمل في “ثنائيات الرومي” يجدها جيدة الكلمات، ولطيفة العبارات، وعميقة المسارات، وصافية الدلالات، وناضجة الإشارات. “فلسفة روحية رمزية” تربط الحاضر بالماضي، وتجلب عبق التاريخ فتتماهي مع الكثير من نفوس مُريديها المُحدثين. أولئك الذين يُحلقون باحثين عن “ملاذ آمن” من “قلق، وسطوة مادية” القرن الحادي والعشرين، لقد كانت “فلسفة” عكس ما آلت إليه الإنسانية اليوم من “فقر روحي، وجفاف وجداني”.
فلعشر سنين.. سخرت “إيفا” طاقتها وموهبتها، وترجمت “مثنوي” مولانا “الرومي”. خمسون ألف بيت شعري ذي جمال باهر، ونشيد للحب عاطر، وتحليق فى الوجد ناضر، وكما يقول مولانا: “لم أنظم لك المثنوي لتحمله أو تردد ما فيه، بل لتضعه تحت قدميك وتطير بصحبته”، لذا حاولت “إيفا” إيصال هذه الكنوز بحُلّة جديدة قشيبة، ومناسبة للعصر الحديث، واختتمت حياتها بنُشر ترجمتها الكاملة للمثنوي عام 1990.
ومن آثار شاعر الصوفية الأكبر.. “الرباعيات”، وهى أكثر ضروب الشعر الفارسي أصالة، وأكثر تجليات الروح إشراقاً، وأروع صنوف الفكر جاذبية وبساطة. وكانت أول ترجماتها إلى الفرنسية عام 1946 بإسطنبول، وتضمنت مائتين وستة وسبعين رباعية. لكن السيدة “إيفا” وبمشاركة “جمشيد مرتضوي” بترجمة نسخة تضمنت أكثر من ألف رباعية نشرت بفرنسا عام 1987، ثم أعيد نشرها عام 1993.
واعتمدت السيدة “إيفا” في ترجمتها للرباعيات من الفارسية على نشرة العلامة “بديع الزمان فروزنفر” التي تضمنت نحو ألفي رباعية، كما أنها اكتفت بترجمة بعضها لصعوبة تقديم النصوص كاملة دون فقد الكثير من جمالياتها الأصلية، وتقول: “هذا النوع من النظم الشعري يختلف عن نظم المثنوي أو الغزليات، ويصعب عليك بشدة ترجمته، ليس فقط إيصال المعنى للمتلقي، حتى وإن كان عميقاً، فإنه يظهر دائماً بشكل مفهوم، بل حول الأسلوب والإبداع الأدبي، فلقصر أبيات الرباعية، تتكثف فيها مجموعة صور وإيحاءات تنتمي لثقافة معينة، ويصعب تمريرها بسهولة إلى لغة ثانية”.
“سفيرة” بين الشرق والغرب
لقد أهَّلها تحصيلها العلمي لتكون عضوة في “المركز القومي للبحث العلمي” في فرنسا، إذ حصلت على دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1968 عن: “التصوف والشعر في الإسلام”، ودرست الفلسفة والعلوم الإسلامية، واللغة الفارسية. ولكي تتعرّف ـ بعمق على الإسلام ـ قرأت لحُجة الإسلام “أبو حامد الغزّالي”، وغيره، وتابعت البحث عن المخطوطات المتصلة بدراستها ولخصتها ونقلتها للقارئ الفرنسي بلغة مبسّطة وجزلة، وبعد حصولها على الدكتوراه طلبت الإعفاء من مهام وظيفتها الإدارية لتتفرّغ للبحث العلمي، والإشراف على تلاميذتها.
وكانت الحكومة الفرنسية قد قامت بإيفاد السيدة “إيفا” في بعثات علمية إلى: المغرب، وتركيا، ولبنان، ومصر. وفي مصر.. قامت بالتدريس في جامعتي الأزهر، وعين شمس. وتوطّدت صلتها بعميد الأدب العربي الدكتور “طه حسين” الذي كان له دور بارز في العناية بآداب الأمم الشرقية، وأشرف على نقل كثير من عيون الأدب الفارسي إلى العربية، وكان لقاء “إيفا” بشيخ الأزهر وقتها (فضيلة الدكتور محمد الفحّام) ووزير الأوقاف “عبد العزيز كامل” مثمرًا للغاية، إذ أصبحت عضوًا بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وظلّت تكتب مقالات دورية باللغة الفرنسية في مجلة “منبر الإسلام”، كما قُدّمت إليها منحة تفرّغ من المجلس لستة أشهر لإستكمال أبحاثها عن الإسلام. وفي كلية البنات بجامعة الأزهر ألقت العديد من المحاضرات التي ركّزت فيها على الجوانب المشتركة في الحضارة والثقافة الإسلامية، وسجّل لها المركز الثقافي الفرنسي بمصر محاضرة عن (التصوف في شعر إقبال)، وفي “جمعية نساء الإسلام” التي ترأستها وقتئذ الأستاذة “مفيدة عبد الرحمن” حاضرت عن التصوف الإسلامي. وبدعم من الأستاذ “محمد توفيق عويضة” أسست في فرنسا “الجمعية الفرنسية الإسلامية”، التي رعت التبادل العلمي بين الأزهر وفرنسا.
اكتشفتُ أنه: “دينٌ حيّ، وأن التوحيد حقيقة لا مفر منها، وأن الإسلام وحده كفيل بتحقيق إيمانها”، ومن ثم دخلتْ في دين الله تعالي
وتوالت السنون.. وتنقلت “باحثتنا” من قارة لأخرى لتتعرّف على ملامح الإسلام عبر رجاله قديمًا وحديثًا، وتناقش أعلام المستشرقين الكبار، وتنعقد بينها وبين علماء كـ”محمد حميد الله” أواصر صداقة وطيدة ويجمعهما العمل العلمي والاجتماعي. وتتابع طريقها بخطى ثابتة نحو الإسلام، واكتشفتُ أنه: “دينٌ حيّ، وأن التوحيد حقيقة لا مفر منها، وأن الإسلام وحده كفيل بتحقيق إيمانها”، ومن ثم دخلتْ في دين الله تعالي، ورسالته الخاتمة للبشر، وتراها ترتدي زي السيدات العجائز في رحلة الحجّ فلا تظهر ملامحها الأوروبية ولا شيء يميّزها عن بقية النسوة. لكن بمجرد الحديث معها تجد أنك إمام امرأة مثقفة من الطراز الرفيع، ومريدة تحيا جمال التصوف والروحانيات بأسلوب فريد.
لقد تمكنت “إيفا” من ترجمة وتأليف عدة كتب، ونشرت الكثير من المقالات في المجلات والدوريات العلمية. لأنها كانت تحلم بتعرّيف الفرنسيين، وكل الناطقين بالفرنسية: “الرسالة الجمالية للإسلام”، وحققت حلمها وقدمت إشراقات روحية وثقافية، ولقد ساعدتها إجادتها للفارسية من تمكين قرائها، ليس فقط من الفهم، بل من تذوق المعاني العميقة لنصوص مولانا “الرومي”.
بجوار “مولانا” في “قونية”
بعد عقد ونصف من تاريخ حلمها الغريب الذي كان مسرحه “قونية”.. سافرت “إبفا” إلى “اسطنبول”. وقابلت أحد الدراويش الذي كان قد قدم ـ بدعوة منها، وتحت إشراف منظمة “اليونسكو”ـ عروضاً للسماع المولوي فى فرنسا. وكان يعمل ـ أيضاًـ مهندساً معمارياً يشرف على بناء متحف فوق دار من دور الدراويش القديمة. ودُعيت “إيفا” لزيارة موقع هذا المتحف، وأندهشت من جراء ما رأت!. حيث وجدت نفس شاهد القبر الذي مر بحلمها منذ سنوات، لكن دون نقش اسمها عليه. فسألت عن هذا الحجر الغريب، فأخبرت أنه شاهد قبر النساء المولويات، حيث كان هناك مساحة مخصصة داخل الدار لدفن مريدات مولانا اللائي عاصرنه تلبية لوصاياهن.
وصرحت “إيفا” في آخر محاضرة ألقتها في “قونية” ـ في 26 مايو 1998: “أود أن أدفن بقونية كي أبقى بجوار بركات مولانا”. وكانت هذه آخر رحلاتها إلى تركيا. حيث تُوفيت في 24 يوليو 1998، ودفنت بمقبرة Thiais بالقرب من باريس. ولم يُشع خبر وفاتها إلا في بعض الجرائد ووسائل الإعلام الفرنسية، رغم أنها شاركت في التعريف بالإسلام، ونشر قيمه الروحية فى الغرب.
وخلال المراسيم الأولى لمواراتها الثري.. لم تـُلب وصيتها في أن يكون مثواها في “قونية”. لكن إصرار بعض أصدقائها: “يلدز آي”، د. “عبد الله أوزتورك” نائب عميد كلية “قونية” آنذاك أعطى ثماره. فنقل جثمانها لقونية في 17 ديسمبر 2008 في ذكرى رحيل مولانا. وهناك تمت مراسيم الدفن على الطريقة الإسلامية، ووري رفاتها الثري بمقبرة “أوتشلر” المتواجدة أمام ضريح مولانا، وودعها هناك المئات من المحبين من جنسيات مختلفة.
لم تنل “إيفا ميروفيتش” حظها الكافي من التعرف إليها مقارنة بغيرها من المستشرقات البارزات أمثال الألمانيتان: “أنا مارى شيمل” و”سيغريد هونكه” وغيرهما. فمن النادر أن تجد دراسات صوفية حديثة تشير لمجهودها الكبير في نقل التصوف الفارسي إلى اللغة الفرنسية. ولعل هذه السطور قطرة تروي ظمأ المشتاقين للتعرف إلي أمثال هؤلات السيدات الفضليات.