إن من أهم ما يساعد المتحدث على توسيع دائرة تأثيره في السامعين، أن يتوخى تبسيط عروضه، ولا يعني التبسيط التسطيح -هنا- كما هي حال كثرة كاثرة من الوعاظ والقصاصين، وكان القاص هو الواعظ في القرن الأول الهجري. فعلى قدر ما تنفر النفوس من الحذلقة الخطابية، والتقعر اللفظي، والإعضال الأسلوبي، فإنها تنفر على نحو أسوأ من المبتذل المستهلك، وذلك حين تجد أن ما يعرض أمامها وما يقدم لها، هو فطير غير ذي سُمك ولا عمق.
إن النفوس تشيح سريعًا عن أي خطاب لا تجد فيه ما يشدّها ويستهويها.. وللموقف سلطان وأجواء تحكمه؛ فموقف الهزل لا يحتمل أن تكون مادته باردة، وكذا موقف الجد لا يستسيغ أن يمازجه استهتار، وتنتهي خلوصية فن التبليغ والتوصيل إلى ذروتها، حين يكون المقام مقام توحيد وتذكير.
الفقه يحدد للعبادات مقوماتها الشرعية، ويرسم للمعاملات قواعدها العقدية، والأخلاق تحدد للسلوك مسطرته، وتضبط للتصرف ضوابطه وآدابه.
العصر ليس عصر القصاص والواعظين
وإذا كانت مجالس الوعظ قد ظلت -طيلة القرون الماضية- تتأدَّى بخطاب يحفل بفذلكات الكلاميين ومسكوكات القصاص والشراح، ممن فتئوا يقولون ويعيدون القول على القول في توصيف ذات الله وصفاته، راغبين بالنفاذ إلى القلوب وغرس الإيمان بوجود الخالق، فإن تحولات العصر الحديث، بما عرف من توسعات مذهلة في مجال التمدن والتجهيز، وما استتبع ذلك من انتشار الثقافات والمعارف، ومن تَطورٍ عقلي باتت به البشرية أكثر موضوعية في فهم الكون واستكشاف مجاهيله المادية، وفقه غوامضه الحسية، الأمر الذي جعل مسائل الروح والماوراء تتراجع من حيث التداول، إذ أوشكت دوائر البحث أن تتركز على الموضوعات ذات الطبيعة التجريبية، بسبب ما رسخته الفلسفة الوضعانية من انفتاح عقلي على التجريب العلمي والمادي، وإغفالٍ بل ورد ما ظل يعرف بمعارف الماوراء.
من هنا أضحى الخوض في مضمار الروحانيات خاصة، يستعصي على الطرح ويتعسر على التناول ما لم يكن المذكِّر -وما كلُّ واعظ مذكِّر- يتوفر على مواصفات عليا من الإيمان أولاً، ومن العلمية ثانيًا، ومن الروحانية ثالثًا.
روحانية الداعية
إن روحانية الداعية ليست ميزة معرفية، أو علمية، أو اعتبارية يتحصلها بملازمة الدرس، أو المرابطة أمام المشايخ السنوات الطويلة كي تتوج رحلته بالإجازة.. إنما روحانية الداعية أنوار باطنية تلحظها فيه العيون للوهلة الأولى، وفيوض فكرية تتذوقها الحواس بلا تردد، ومعروضات تفقيهية تتفتح عليها الأنفس بكثير من النهم، ومبتكرات تسديدية تتشربها الجوانح باستعذاب كاستعذاب الظمأى حين يغاثون بالماء الزلال.
فمن كانت روحانيته قد استوفت نصابها واستوت على سوقها، كان كل ما يصدر عنه من قول أو فعل أو حال، يجد سبيله إلى الناس بلا دعاية ولا استئذان.
ذلك لأن ما يترجم عن تلك العلاقة بين الباث (الكامل)، والمتلقي (المهيأ)، هو علاقة المحبة وما يتفرع عن المحبة من عواطف الإكبار والتبجيل والامتنان.
سلطان الفكرة
ينحني المثقف الألمعي أمام الفكرة الصميمة، يلقطها في نص لم يلق صاحبه، أو لمفكر لم يعرف جنسيته. ومن ثم تتأسس الروابط والمذاهب والتيارات والفِرَق، على هذا النحو الذي يجعل إعظامَ الفكرةِ يتحول إلى مبايعة لصاحبها، وإلى عشق وافتدائية، تاريخ الفِرَق في الاسلام -مثلاً- هو تاريخ لعلاقة الفكرة مع محتضنيها، والقيمة العقلية أو الروحية مع متعاطيها. هناك طاقة من الأسْلَبة غير عادية ولا قِبَل للمُسْتَلَب بها، تَحْكم صلتَه بخطاب له من القوة ومن السيطرة على النفوس، ما يجعلها تتخلى عن كل ما تتغالاه، لقاء أن تظل على اصطفافها وراء الخطيب، تلتقط ما يُلقى في رحابه من نفائس، لا أروع ولا أبهر.
وحين يكون الداعية في محل الاجتباء والصديقية، تكون له تلك القوة، وذلك السلطان الذي يمتلك النفوس ويستولي على الأرواح.
بيداغوجية التشكيل
هناك سطوة نافذة للخطاب الدعوي مبعثها التواصل الروحي حين تَتمَحَّض له نورانيةٌ وفتحية ومقبوليةٌ، أو ما يمكن أن نسميه “بيداغوجية التعبئة والصهر والتشكيل”.
أهل الخير يتمرسون في الحياة بما لهم من قابليات تنبع من فطرتهم وإنسانيتهم، فهم يكدحون على الرزق والتوسعة، ويحدبون على الزوج والولد، ويُؤمِّنون المستقبل ويضمنونه بما لهم من حكمة وتدبير.. لكن أرواحهم في كل ذلك تظل متعطشة إلى المدد، متطلعة إلى الإسناد، يشعرون -أينما كانوا- كأنهم في غير موقعهم وفي غير دورهم ووظيفتهم.
قد يكونون من أهل الطاعة، وقد يكونون من الغافلين أو من الملابسين للعصيان.. إنما الخير كامن في الأعماق، فسواء أكانوا من هؤلاء أم من أولئك، فإنهم جميعًا يعيشون متمرسين في الحياة بطبيعتهم، متطلعين إلى ما يملأ جوانحهم من توق إلى الرضى الذاتي، فلذا تراهم على شيء من التوتر المبهم الذي لا يعيرونه أهمية، فهم في تلك الحال مثل زهرة “طراد الشمس”، تتبع طيلة النهار قرصَ الشمس، وتميل معه حيث مال، كأن عامل المشابهة الشكلية واللونية يجعل ذلك الانجذاب الفطري، يقوى ويتحول إلى فعل.
كثير من فصائل الزرع هي على هذا الغرار، تسكنها الأشواق إلى النور، فتتعلق بمصادره، تزدهر بازدهاره في رابعة النهار، وتنكمش ويتلبسها الانطواء إذا أمست، وجَنَّها الليلُ، وكذلك دأب أهل الحسنى.. إنهم يفتشون عن المرتكز الذي تسْترْفد منه نفوسُهم سكينتَها.. هناك شيء خارج نطاق المال والولد، وخارج دائرة المتعة والشهوة، يستهوي النفس الزكية، تنشده وتهيم بصورته، سواء اتضحت لها ملامح هذه الصورة، أم ظلت مجرد هالة من إشراق تسكن الأعماق كالحلم الجميل، من حيث تظل النسائم القلبية تنعش الروح وتُحلِّق بالوجدان.
أهل الزكاوة لهم توق إلى الكمال، لا يفتأون يجسدونه في أحوالهم وأفعالهم، يؤدونه كالنوافل، ويغدقونه محبة على المحيط، كشجرة المسك تنشر أعباقها فيما حولها وتضيء الليل، هناك تَـفَـتُّـقٌ عن مكارم إنسانية لا يزال يتقوى ويتسع، يطبع ذوي النفوس النجيبة، فطرتُهم كالذهب الخالص، ينماز عن الرمل وهو مغمور فيه، الكلمة الطيبة تستثير أرْيحيتهم، فيردون على القول بالفعل وبما تملك اليد، لا زالت الكلمة هي الكوة، من حيث يتطلَّع أهل الفلاح إلى الأفق وإلى المعارج، إن البساطة في تسويق الخطاب، والسلاسة في الأداء والتبليغ، هي حِلْية الخطاب الناجح، شريطة ألا تكون البساطة جوفاء بلا مضمون يشد، ولا محتوى يجذب، ولا رسالة تستقطب، من هنا تَفاوَتَ أهلُ الدعوة من حيث القدرة على التأثير والاستمالة، إذ موضوعات الوعظ واحدة عندهم جميعًا، إطارها العام “العبادات والأخلاقيات”، الفقه يحدد للعبادات مقوماتها الشرعية، ويرسم للمعاملات قواعدها العقدية، والأخلاق تحدد للسلوك مسطرته، وتضبط للتصرف ضوابطه وآدابه.
ولقد ظلت الأخلاق تستمد من السيرة النبوية وأخبار السلف الصالح قيمها وعِبَرها، فهي المورد الذي طفق أهل الدعوة يفاعلون به المستمعيَن، والاحتياط الذي لبثوا يحشدون بواسطته الأتباع ويستقطبون المريدين، من السيرة الشريفة وأخبار الأخيار لبثوا ينشئون أفكارهم، ويرسمون مناهجهم، فهي النبع الذي يردونه بالمتلقين والمثابة التي يجيشون إليها الأشياع، وتأتي الجدارة والنبوغ والتوفيقية، والمقبولية في تمييز خطاب داعية عن داعية آخر، ويأتي الفتح الإلهي والنورانية التي تتحقق للخاصة من عباده العاملين.. فمن ثم ترى التباين في اختيار المادة المنتخبة والموضوع المقدم، والتفاوت في طريقة العرض، والتمايز في ما يلقى على الأسماع، وما يطرح في المجالس والحلقات.
وإنك لتجد الموضوع نفسه يُلقى في قناتين على يد واعظين اثنيـن، فيشدك عرض هذا وينفرك عرض ذاك، بما للأول من بساطة في الأداء، وعمق في التحليل، ووجاهة في الإقناع، وما للثاني من سماجة في التوصيل، واجترارية وجعجعة بلا طحين.