عن مجاهد أن أبا هريرة كان يقول: “والله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر فلم يفعل”.
ضرب الجوع أطناب أبي هريرة رضي الله عنه.. فخرج يبحث عمن يسكت له جوعه.. فوجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى قدح من اللبن.. ومن هنا بدأت الحكاية. كان أبو هريرة رضي الله عنه من فقراء الصحابة، مثله مثل أهل الصفة رضي الله عنهم.. وذات يوم خرج من بيته باحثًا عن صديق يرأف لحاله ويحن له.. وعندما رأى أبا بكر انفرجت أساريره وظن أنه وصل لمبتغاه، فعرَّض له عن جوعه بسؤاله عن آية من كتاب الله لعله يرى وهن حروفه وضعف كلماته من الجوع فيدعوه إلى طعام يفك به الحجر المربوط على بطنه.
أبو هريرة رضي الله عنه كان فقيرًا ولكنه كان عفيفًا، ولقد كان بإمكانه أن يطلب مباشرة من أبي بكر ولكنه لم يفعل.. هذا دائمًا حال الفقراء المتعففين الذين أعوزتهم الظروف وضاقت بهم الدنيا، لا يعرفهم الناس بسبب حيائهم.. إنهم المساكين حقًّا.
إن طاعة الله ورسوله في نفس المؤمن منبتها الأصلي هو اعتقاد المسلم أن تقدير الله وسوله له خير من تقديره لنفسه، وأمرهما لن يكون أبدًا ضررًا له في عاجل الحال أو مآله.
وإن كان الذين لا يسألون الناس إلحافًا هم الأولى بالصدقات ونيل احترام الأغنياء والفقراء لعفة يديهم، خاصة مع كثرة الكاذبين والمدعين في سؤال الناس، والمتفننين في اختراع حاجات ومشكلات لاستخراج الأموال من المحسنين.. إنْ كان هؤلاء هم الأولى بالصدقات، إلا أن الرحمة بالسائلين الآن واجبة، فالأحوال صعبة والمعيشة صارت في جُلها ضنكًا على الكثيرين.
فإن كنت ترى فيمن يسألك أنه كاذب أو مدعٍ، فلا داعي أن تهينه بكلماتك اللاذعة أو نظراتك الحادة، سواء أعطيته أم منعته، فربما صادفت كلماتك قلبًا صادقًا متألمًا من ضيق يده فقطعت أوصاله وضاعفت آلامه النفسية، وأنت في غنى عن دعوة صادقة من قلب ملذوع بالفقر والحسرة.
ومن هنا يتضح أهمية التوجيه الرباني الجليل في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى)(البقرة:264)؛ فلا خير في معروف مادي يتبعه أذى نفسي، فإن كنت معطيًا فأعطِ عن طيب خاطر مبتغيًا الأجر عند الله، وإن كنت مانعًا فامنع بلا تهكم أو أذى بكلمة أو نظرة، ولا تقلق إن كان من تعطيه لا يستحق، فأجرك عند الله تعالى.
خبرة المربي وفطنته
ثم قابل أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم.. وقبل أن يتفوه بكلمة، عرف النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة ما يريده أبو هرّ وما الذي أخرجه في هذه الساعة.. نظرة من المربي الحاذق في عين مريده، تكفيه ليعرف ما يريد وما يشغل باله.. فقد بنيت العلاقة بينهما على الود والصفاء والصدق، فصاروا يتعارفون بتعبيرات الأوجه ولحن القول.. كما عرف أبو هريرة من قسمات وجه النبي صلى الله عليه وسلم أن رسالته قد وصلت.. وهذا سر عجيب من أسرار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وعلاقته بأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، علاقة فريدة وعميقة إلى أبعد الحدود.. إنه النموذج الأرقى للعلاقة بين المربي والمتربي، الذي نفتقده كثيرًا هذه الأيام.
قيل إن المدخل العاطفي والمحبة الأخوية، هي أفضل طريق للقرب من المتربي ومعرفة طباعه وصفاته النفسية والوقوف على خصائص شخصيته.. فعندما يثق الفرد في مربيه فإنه يصبح كتابًا مفتوحًا بين يديه.
فلمسة رقيقة لولدك مصحوبة بنظرة حب صادقة في عينيه، تقطع الكثير من المسافات بينكما وتشعرك بحلاوة الأبوة وجمالها.. ونظرة حانية منكِ في عين ابنتك، تذيب تلالاً من الثلج غطت علاقتكما لفترة من الزمان، وتعيد إليكما ذكريات الطفولة البريئة.. فلا تبخل على أبنائك بمشاعرك الصادقة وعواطفك الجياشة، فإنها التربة الخصبة التي تنبت فيها أزهار القيم.
الحديث عن البركة في حياة المسلم، لا يعد ضربًا من الدروشة واللجوء إلى الغيبيات هربًا من الواقع، إنما هو حديث لا يفهمه إلا من ذاق وعرف وشاهد في سكك الحياة ما يؤكد له محورية هذا المفهوم في الشريعة،
وبعد أن ذهب النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هريرة رضي الله عنه إلى منزله ليطعمه مما أفاء الله عليه، لم يجد في بيته إلا قدحًا من اللبن أهداه له أحد أصحابه.. تهللت أسارير أبي هريرة، حيث فاز بقدح مبارك من اللبن من بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلن يشبع جوع بطنه فقط، وإنما سيكون طعامه مباركًا، فهو من يد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ثم تسرب القلق إلى قلبه، فقد تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم له عادة لا يقطعها مع ما يهدى إليه من طعام ونحوه؛ إنه يبعث بجزء منه إلى أهل الصفة وهم أشد أهل المدينة فقرًا عددهم سبعون أو أكثر، فيشركهم فيه قدر الإمكان.. ولم يدم قلقه طويلاً، فقد ابتسم له النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلب منه أن يذهب ليحضر أهل الصفة ليتشاركوا جميعًا في قدح اللبن.. لقد تحول القلق إلى واقع في نفس أبي هريرة رضي الله عنه، بعد أن كان سيشرب من قدح اللبن وحده الآن سيتشاركه سبعون رجلاً وامرأة.
ولكن يستدرك أبو هريرة نفسه ويطمئنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لن يضيعه، ويتذكر أن طاعة الله ورسوله في المنشط والمكره واجبة.. فكيف يخالف أمر حبيبه ومربيه الذي استشعر حاجته دون أن يبوح بها، وربت بيديه الحانيتين على ألمه.
إن طاعة الله ورسوله في نفس المؤمن ليست متعلقة فقط بطلب الثواب والخوف من العقاب، وإنما منبتها الأصلي هو اعتقاد المسلم أن تقدير الله وسوله له خير من تقديره لنفسه، وأمرهما لن يكون أبدًا ضررًا له في عاجل الحال أو مآله. فإن كان المؤمن واثقًا في حكم الله وتقديره له، متيقنًا من علم الله عز وجل بحاله وما يصلحه ويفسده، يمتلئ قلبه بحب الله سبحانه وتعالى؛ لم تتردد جوارحه عن تنفيذ أمر صريح صحيح من أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.. إن هذا المزيج العجيب من الثقة والعلم والمحبة، الذي يتبعه صدق الاتباع، يورث العبد رضا بقضاء ربه، ويعطي لصبره على مشاق الحياة لذة وأنسًا لا يستشعره إلا من ذاقه وعرفه.
بين الأخذ بالأسباب وطلب البركة
يقول أبو هريرة: فأتيتهم، فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأَذِن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت..
الآن أهل الصفة في بيت الرسول صلى الله عليه وسلم في انتظار عطيته التي وعدهم بها أبو هريرة حين دعاهم إلى المنزل.. يقترب أبو هريرة من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيعطيه المصطفى صلى الله عليه وسلم قدح اللبن ويطلب منه أن يمر على أهل الصفة فردًا فردًا ليشربوا ويرتووا.
بدأ أبو هريرة رضي الله عنه يمرّ على أهل الصفة يعطيهم القدح فيشرب أحدهم حتى يروي ظمأه، ثم يرده على أبي هريرة مرة أخرى ليعطيه لمن بجواره، وهكذا حتى ارتوى القوم كلهم.
إن هذا القدح الذي باركه النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليكفي فردين على الأكثر بما يحويه من لبن، ولكنها بركة رزقٍ استجلب ببركة طاعةٍ متحققةٍ بصدق المحبة والمعرفة بالخالق U مسبب الأسباب.
إن المدخل العاطفي والمحبة الأخوية، هي أفضل طريق للقرب من المتربي ومعرفة طباعه وصفاته النفسية والوقوف على خصائص شخصيته.. فعندما يثق الفرد في مربيه فإنه يصبح كتابًا مفتوحًا بين يديه.
والحديث عن البركة في حياة المسلم، لا يعد ضربًا من الدروشة واللجوء إلى الغيبيات هربًا من الواقع، أو عجزًا عن الأخذ بالأسباب، وإنما هو حديث لا يفهمه إلا من ذاق وعرف وشاهد في سكك الحياة ما يؤكد له محورية هذا المفهوم في الشريعة، ولِمَ لا وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: “..وبارك لي فيما أعطيت”.
فالبركة تدور معانيها حول النماء والزيادة، سواء في الأشياء المادية بأن تكون الزيادة محسوسة، أو في الأشياء المعنوية بأن تكون أنفع وأفيد من غيرها؛ فالعمر فيه بركة، والكلمات فيها بركة، والرزق فيه بركة، والزوجة والأولاد فيهم بركة.
إن إيمان المسلم بوجود البركة في حياته، لهو رسالة دائمة إلى نفسه المرهقة وقلبه الممتلئ بالهموم؛ أنْ اهدأ قليلاً ولا تتعلق بالأسباب تعلقًا كليًّا ينسيك خالق الأسباب ومسبباتها.. فيرتاح القلب بعد عناء الأخذ بالأسباب، وتقر العين بنتائج تفوق التوقعات ولا تساوي سعيك، وإنما تزيد عليه أضعافًا كثيرة، والله يضاعف لمن يشاء.. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: “البركة من الله”.
الله U هو الذي أمرنا بالأخذ بالأسباب في عدة مواضع من كتابه الكريم، فقال عز من قائل: (إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(التوبة:120)، فمن أحسن في عمله، فإن الله يعطيه أجره في الدنيا أو في الآخرة حسبما شاء، وقال في حق ذي القرنين: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا # فَأَتْبَعَ سَبَبًا)(الكهف:84-85)، فقد أعطاه الله تعالى من الأسباب الكثير، فأخذ ذو القرنين بتلك الأسباب، وهي صفة مدح في سياق الآيات التي يخبرنا فيها الحق سبحانه عن قصة ذي القرنين.
وحين اختصم المسلمون واليهود في أحقية دخول الجنة، قال الحق تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)(النساء:123)، فكانت رسالة واضحة للمسلمين، ألا تعتمدوا على كونكم مسلمين فقط، وإنما عليكم العمل بجدّ واجتهاد، لتحقيق رسالة الاستخلاف والعمران في هذه الأرض. وما تخلف المسلمون كثيرًا في العصور الحديثة، إلا بضياع مفهوم الأخذ بالأسباب، واعتماد الكثيرين على مخلص عبقري أو معجزة ربانية يهلك الله فيها الباطل وأهله، وينصر فيها الحق وأهله.
إن كنت ترى فيمن يسألك أنه كاذب أو مدعٍ، فلا داعي أن تهينه بكلماتك اللاذعة أو نظراتك الحادة، سواء أعطيته أم منعته، فربما صادفت كلماتك قلبًا صادقًا متألمًا من ضيق يده فقطعت أوصاله وضاعفت آلامه النفسية، وأنت في غنى عن دعوة صادقة من قلب ملذوع بالفقر والحسرة.
وفي مقابل التأصيل العميق لمفهوم الأخذ بالأسباب في الإسلام، يأتي مفهوم البركة ليضيف لمسات باردة على قلوب البشر المرهقة، وحتى لا يتحول الإنسان إلى آلة وظيفتها العمل لتحقيق الأسباب فقط، وينسى في غمار ذلك حقيقة كونه عبدًا في ملك الله الفسيح، سائر بسنن الله التي وضعها في الكون، وهو قادر على إبطالها أو تعطيلها لمن شاء كيفما شاء في أي وقت شاء. وهذه من حقائق التسليم بالله U والرضا به سبحانه ربًّا.
إن الأمة الآن بحاجة ملحة إلى خطاب الأخذ بالأسباب، لتلحق بركب التقدم الذي تخلفت عنه كثيرًا.. بحاجة إلى خطاب ينسينا التواكل والاعتمادية على الأبطال المخلصين أو المعجزات الكونية.. بحاجة إلى كلمات ملهبة تحث الناس على العمل ثم العمل ثم العمل، إن أردنا رفعة لأوطاننا في هذه الدنيا.
وهي في ذات الوقت بحاجة من حين لآخر، إلى لمسات من خطاب البركة المفعم باليقين فيما عند الله، والذي يربط المسلم بربه في كل وقت وحين.. وهذا المزيج في الخطاب بين الأخذ بالأسباب وطلب البركة، مزيج مركب ومعقد، ولا يستطيع الكثيرون الآن إنتاجه للأسف، ومن أوتي القدرة على صياغة هذا الخطاب فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
لمسة حانية
يقول أبو هريرة: فأخذ صلى الله عليه وسلم القدح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسم فقال:
“أبا هِرّ”
قلت: لبيك يا رسول الله
قال: “بقيت أنا وأنت”
قلت: صدقت يا رسول الله
قال: “اقعد فاشرب”
فقعدت فشربت..
فقال: “اشرب”
فشربت فما زال يقول “اشرب”، حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكًا.
قال: “فأرني”..
فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة.
وفي المشهد الأخير من قصتنا، يقف أبو هريرة أمام النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن شرب القوم كلهم حتى ارتوى من اللبن، وارتوت نفس أبي هريرة بالرضا والسعادة.
ويأبى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يعطينا درسًا رائعًا في التربية بالقدوة؛ فلم يشرب النبي أولاً، وإنما دفع بالقدح إلى أبي هريرة ليشرب أولاً.
رسالة واضحة لأبي هريرة، أن الجزاء من جنس العمل، فكما آثرتَ أهل الصفة على نفسك طاعة لرسول الله فبدأتهم بالشرب، فها هو النبي صلى الله عليه وسلم يؤثرك على نفسه ويترك لك القدح لتشرب منه ما شئت.
ويشرب أبو هريرة رضي الله عنه من اللبن، ويشرب ويشرب حتى لا يجد له مسلكًا كما عبر رضي الله عنه.. ومع آخر مَذْقَة لبن ترتوي بها بطن أبو هريرة كان قلبه يرتوي بما تعلمه اليوم من حبيبه صلى الله عليه وسلم.
وكأني أرى أبا هريرة رضي الله عنه والابتسامة تعلو وجهه، يمد يده بالقدح إلى معلمه ومربيه وفي عينيه ألف رسالة ورسالة إلى نفسه الشريفة صلوات ربي وسلامه عليه..
رسالة امتنان أنْ فَهِم احتياجاته أولاً دون الحاجة إلى سؤال يستشعر منه نقصًا، ورسالة حب وتقدير أنْ قدَّم له يد المساعدة وأخذه إلى بيته على الرغم من ضيق وقته صلى الله عليه وسلم وكثرة مشاغله.
ورسالة شكر أنْ أتاح له فرصة التعلم والاستفادة من قدح اللبن الصغير هذا دروسًا في الحياة؛ فقد تعلم دروسًا في التربية والأخوة الإيمانية والبركة والإيثار وغيرها.