كعادتهِ غادرَ سعيد أصدقاءه مُلتحقًا بحديقة عمِّه عبد الرحمان. هناك سيجده جالسًا مستظلاً بدوحة جميلة وديعة مثله، كأنه يستمد منها رزانته وحِلمَهُ. في يَدهِ سُبحة، وعلى رأسه عمامة خضراء، تفوح منها رائحة المسك.
لا يدري الطفل ما حبَّب إليه هذا العَمّ، هل ثوبُه النظيفُ رغم قِدَمه، أمْ لحْيته التي أخذ الشيب يهجم على أطرافها بتأنٍّ، أمْ وجهه المتألق بنور فريد.
اقتربَ سعيدٌ منه مُسلِّمًا، ردَّ عليه السلام وسأله عن أمه وأبيه وأصدقائه، وبعد أن طمأنه على أحوالهم حمد الله وشكره، وعاد إلى وضعه متأملاً في إبداع خالق كتاب الكون: الطيور المختلفة الألوان والأحجام والأصوات، النحل العامل طيلة النهار من أجلنا، الأزهار والأشجار التي تفيدنا ولا تنتظر الشكر من أحد… خلائق وعوالم تنطق بالتسبيح والتبجيل لخالق بديع رحمان رحيم.
جلسَ الطفل بجانب العَمِّ وقد بَدتْ له من ملامح وجهه أسرار لا تبدو لغيره. تراءى له أن يقلده في وضْعه كيْ يُشيع في كيانه بعضَ ما ينجذبُ إليْه فيه. عدَّل من جلسته، ركز بصرَهُ على ما يجْري أمامه وهو يذكر الله محَرِّكًا شفتيه الغضتين، وبعد حين هم بمساءلة عمِّه لكن هذا الأخير سبقه سائلاً:
– متى خرَجْتَ من المدرسة؟
– بعد الظهر بساعة.
– اقرأ عليَّ بعضًا مما حفظته من سور القرآن الكريم.
أخذ الطفل يبحث في ذاكرته عن سورة يستطيع أن يستظهرها كاملة مخافة أن يتهم بالقصور وعدم الاجتهاد، ثم تلا سورة الماعون كاملة، وحين انتهى من قراءتها صافحه العم وقبَّل رأسه قائلاً:
– أحْسنت، أحسَن الله إليك.
– عمي، هل تحفظ القرآن كاملاً؟
– حفظته وعمري خمسة عشر عامًا.
– أكُنت تلعبُ مع أصدقائك وأنت في مثل سني؟
– طبعًا، كنت منظِّمًا لوقتي بدقة، حددت واجباتي اليومية وصنفتها بين أمور الدين والرياضة والدراسة وحفظ القرآن… اللعب ليس حرامًا، بل قد نجعله مثمرًا مفيدًا، فقد يكون مصدر لتقوية البدن و التفكير فيُعِدُّ مُمارسَه لتحمُّل أعباء الحياة علاوة على مساعدة الآخرين، لكن اللعب قد يكون عبثًا ومضيعة للوقت حين يلهيك عما يجعل منك فردًا متزنًا يحوز فضل العاجلة والآجلة.
تذكر سعيد سر اتّزان العمِّ، وسرّ مَلمَح الطمأنينة والسعادة التي لا تفارق محياه، ثم بادره بالسؤال:
– هل تشعر بالسعادة يا عم؟
– أنا سعيد يا سعيد، فهل أنت سعيد بالفعل أم سعيد بالاسم فحسب؟
– لنْ أخفيك بعضَ تعاستي، تساؤلاتي كثيرة وأهدافي كثيرة أسبحُ في حُلم تحقيقها فتتفرق بي السُّبُل، يتعكر مزاجي فأشعرُ بالضّيق والاضطراب، لا أدري ما أؤَوّل وما أؤَخّر.
– ذاك سر شقائقك بلا نقاش يا سعيد.
– فما العمل؟
– وحد أهدافك تصر هدفًا واحدًا تسيطر عليه فتهدأ نفسك وتعم الطمأنينة كيان.
– وهل يستطيع المرء توحيد أهداف متنوعة؟
– ليكن هدفك في حركاتك وسكناتك إرضاء خالقك.
– كيف؟
– ألم يقل تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون* ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون)؟
– بلى، آيتان حفظتهما وكثيرًا ما رددتهما ورددهما غيري. فهل هذا يعني أن أنصرف إلى المسجد فأعتكف هناك منخرطًا في الذكر والصلاة حتى الموت؟
– يا سعيد، الإسلام دين الدارين، ودين العَمَل بامتياز، فقطْ حينَ تعْمَلُ شيْئًا اضبطه بميزان الشرع، فإن كان لعبك في سبيل تقوية بدنك لأداء الواجبات فهو عبادة، فقوي البدن يستطيع أن يؤدي واجبه ويعين غيره في أداء واجبه، والعامل من أجل إسعاد أبنائه وتربيتهم وفق الشرع عابد يستحق الجزاء الأوفى…
أعْجِب سعيد بحديث عمِّه فودَّعه شاكرًا إياه.. وفي مَنْزله أسْرع إلى كراسته فوضع جدولاً لأعماله، رتب أهدافه وجعلها وفق توجيهات عمِّه،كان يشعر ببعض سعادة عمه الذي لن ينسى زيارته يوميًّا.