تُعد “إيف آنسلر” من كبار كتاب المسرح، وبالإضافة إلى ذلك فهي مناضلة، ومؤدية، وناشطة مجتمعية، كرست حياتها للنضال ضد العنف، خاصة الذي تتعرض له النساء. وتتصف مسرحياتها بالإنسانية، والعذابات المؤلمة؛ لأنها تستقي غالبية قضاياها من الواقع المزري.عرضت المسرحية عام 1996، ونشرت في عام 2001. وعرضت بعد ذلك في مختلف الولايات الأمريكية. بُنيت المسرحية على قصص النساء اللواتي قابلتهن الكاتبة في البوسنة، وكان دافعها للكتابة، صبر وصلابة اللاجئات البوسنيات، وقدرتهن على الحب والتسامح، ورفض الانتقام.
إنَّ الهدف من المسرح كما تقول إيف، هو:
“السماح للحقيقة بالظهور بكل أَحزانها ووحشيتها”… فالمسرح يوحِّدُنا فيما نراه ونسمعه، ويزيدنا قوة، وإيمانا. وتقول إيف آنسلر، في مقدمة مسرحيتها «أهداف ضرورية» والتي تدور أحداثها حول مخيم للنساء البوسنيات إبان حرب البوسنة والهرسك:
“عندما نفكر في الحرب، نفكر فيها وكأنها شيء يحدث للرجال في الحقول والغابات. نفكر في القنابل اليدوية والصواريخ الخفيفة. نفكر في لحظة العنف، العاصفة، الانفجار. ولكن الحرب هي «نتيجة» كذلك، حيث لا تظهر آثارها كاملة على مدى شهور، سنوات، أو أجيال…”
تقع المسرحية في سبعة عشر مشهدًا، وتتضمن عدة شخصيات أهمها “جاي إس” و”ميليسا”.
السيدة “جاي” تدنو من الخمسين، وهي متحفظة وجميلة جدًّا، دكتورة متخصصة في الصدمات النفسية، وغنية ومرفهة في حياتها، أمَّا “ميليسا” فهي شابة قوية، تدربت لتكون كاتبة وأَخصائية نفسية، ولديها خبرة في التعامل مع المُعرَّضين لصدمات الحرب، فقد خدمت في هايتي ورواندا. تسافر “جاي” “وميليسيا” إلى البوسنة؛ لأنهما عضوتا اللجنة التي شكلها الرئيس.
إِنَّ الشخصيات تجد نفسها مضطرة إلى الاعتماد على اللغة، كأداة تعبير عن الانفعالات، وفي هذا السياق لا يقف الحوار عند تخوم الدلالة الزمانية والمكانية.
مكان المسرحية الرئيس هو مخيم لاجئين الذي يعاني من نقص الاحتياجات الضرورية حتى من حمام صحي.
ومن الشخصيات أيضًا “يلينا” وهي امرأة بسيطة في الأربعينيات من عمرها، “وزلاتا” وهي امرأة مميزة ومثقفة وتقترب من الخمسين، “ونونا” فتاة مراهقة ومتأمركة وعاشقة للأفلام الأمريكية، و”سيدا” فتاة صغيرة وجميلة، “وأزرا” عجوز من القرية.
اتصفت اللاجئات البوسنيات بالسخرية والتهكم، فعندما تخبرهن “جاي” أنها قَدِمَتْ من أمريكا لتسمع أحاديثهن، تقول “زلاتا”: “هل قطعت الطبيبتان الأمريكيتان كل هذه المسافة؛ لتساعدا اللاجئات الفقيرات على الحديث عن الحرب؟ ” عَمَّ كنا نتحدث إذن قبل مجيئكن؟ عن ملابسنا الداخلية، عن حفلات العشاء…”. أمَّا “نونا” فتقول: “لا، عن عمليات شد الوجه…”.
لا تجد اللاجئات العون من العالم، فكل ما قَدَّمَه لهن أنْ يحضرَ بشرٌ من كلِّ العالم للاستماع للتفاصيل الدموية دون أَيِّ فعل إيجابي؟
تشعر “جاي” بالعجز، تحزم أَمتعتها، وتريد العودة إلى أمريكا، وعندما تحاول “ميليسا” منعها، تقول “جاي”: “اسمعي، ليس بوسعي مساعدة هؤلاء السيدات. يحتجن إلى مساكن، إلى وطن، إلى رعاية”. في الأثناء تدخل “نونا”، وتخبرهما أَنَّ “سيدا” لا تكف عن البكاء، يسرعن نحوها في محاولة لتهدأتها.
في المشهد الخامس والسادس وهما أجمل مشهدين في المسرحية، تتحدث فيه “أزرا” و”يلينا” حيث تتحسر فيه “أزرا” على بقراتها وعنزاتها التي تأكل الزهور، كانت تغضب عليهم، أمَّا الآن فتود لو يعودون، وإذا قاموا بأكل الزهور فلن تغضب، المهم أَنْ يعودوا.
أما “يلينا” فتتذكر حبيبها وأَيامها الجميلة معه، قبل أنْ يَتغيَّر ويتحول من الرقة والحنان إلى إِنسان غاضب طوال الوقت.
وفي المشهد السادس، تدخل “سيدا” وهي تحمل طفلتها غرفة “جاي” فيما “ميليسا” تصعد إلى سرير “جاي” وهي تخاطبها “يا أمي” وتعبِّر عن خوفها وفزعها، وعن شعورها بالبرد مع طفلتها، وتطالب أمها “جاي” أن تغني لها. “جاي” تتعامل معها بمهنية وتحاول أَنْ تبعدها عن السرير، ولكن “سيدا” تلقي رأسها على صدر “جاي” المتوترة.
“جاي” الثرية التي تلبس ملابس من صناعة “كريستيان ديور” ما تزال تتعامل بمهنية عالية مع اللاجئات اللواتي يشعرن أنها تتعامل معهن بفوقية.
“زلاتا” الطبيبة واللاجئة، كانت قبل الحرب تعيش بثراء، أمَّا والدها فهو من أصحاب النفوذ، وتشعر دائمًا أنَّ الجميع يسكنه وحش ينتظر الخروج. وفي نقاشها مع “جاي” تُخبرنا عن الكثير من تفاصيل حياتها السابقة عن الحرب، وهنا تقترب “جاي” منها وتحاول أنْ تكون صديقتها لا طبيبتها.
في جلسة ليلية يتخللها الشرب والرقص والغناء، نتعرف على والد “جاي” الموسيقي، وكذلك على هواية جاي الغنائية قبل أنْ تتوقف؛ لأنها شعرت أنَّها لن تكون مبدعة، ولكن في هذه الليلة تشرع بالغناء وكأنها تتحلل من قوانينها الداخلية الصارمة.
إنَّ الحربَ الطاحنة التي عاشتها البوسنة، والتطهير العرقي، لم ينجح في إطفاء جذوة الحياة، فالمجرمون القتلة “عابرون في كلام عابر” زمن قبيح وسيمضي.
“يلينا” تعود لتذكر حبيبها “دادو” الذي كان لطيفًا وشاعرًا قبل أنْ يُقطِّعَ الأعداء جسد والده أمامه. أمام يلينا، يحس بالضعف؛ لأَنها شاهدته يبكي، فيفرِّغ غضبه بضربها ضربًا مبرحًا.
“سيدا” التي تعرضت للاغتصاب، “تعاني الكوابيس كل ليلة. فهي في حالة هيستيرية أو اكتئاب حاد معظم الوقت”. وتعيش حالة إنكار تامة، بل تعيش في أكذوبة. فقد كانت تعيش في قرية “دونجي فاكوف” الصغيرة الجميلة، والتي تشبه الجنة مع زوجها وأمها وطفلتها، قبل أَنْ يحضر الجنود ويحاولوا اختطاف “سيدا” وعندما يحاول زوجها والأم حمايتها يتم قتلهما، وتهرب “سيدا” إلى البراري ليلا، تحمل طفلتها، ومن خلال أحاديث اللاجئات نعرف أنَّ ما تحمله “سيدا” ليس إلا خرقة قماش، فقد سقطت الطفلة أثناء هروبها دون أنْ تشعر.
يتم القبض عليها واغتصابها، وفي لحظة لا وعي، وتداعي أفكار تخرج “سيدا” ما يحطمها، “صدري يؤلمني يتوق إلى إرضاع صغيرتي، يفيض بالحليب من أجل دونا، بينما هم يمزقون قميصي، هذه الأصوات المرتفعة، الضاحكة، يلبسون أقنعة سوداء، تصعد روائحهم النتنة بالقاذورات واللحم، يمزقون قميصي المُبقَّع بالحليب…”.
تحضنها “جاي” وهي تنتحب، ثم تبدأ بترديد أغنية للأطفال، وتجد “جاي” روحها، وتنطلق بالغناء بقلبها وروحها، تتوقف “سيدا” عن البكاء، ويعجب الجميع بغناء “جاي”. عندما تعود “جاي” إلى أمريكا، تتذكر “زلاتا” وتأثيرها عليها، تخاطب ميليسا عبر جهاز تسجيل، قائلة: “لدي حالة فقدان ذاكرة. لم أعد جائعة قط. أنا فارغة، لقد فقدت الرغبة، لم أعد أفهم أمريكا. أنا ألاحق لا شيء. ماذا لو أنَّ هذه المرأة “زلاتا” كان قلبها يَقطُر في قلبي، وأنا كنت أنزف، وكان لنا أن ندمى معا؟”.
ويتضح ما يعتمل في نفس “جاي” شيئًا فشيئًا، فهي لم تكن سعيدة يومًا، ودائمًا ما تتطلع إلى المزيد من الإنجاز الذي سرق منها السعادة، فهي تسعى لأن تكون شخصية مهمة، ولكنها تشعر الآن بالتعاسة، تقول: “أنا بلا وطن، أنا بلا مهنة وبلا هدف، أنا بلا مبرر، بل بلا اتجاه…”.
وتجد نفسها الآن وسط اللاجئات زلاتا ويلينا وسيدا ونونا وأزرا، في الصباح الباكر، يشربن القهوة، ويحاولن أَنْ يثقن ببعض. لقد خرجت “جاي” من بيئتها النيويوركية، لتأخذ مكانها إلى جانب اللاجئات، بينما “ميليسا” امرأة مهنية، هدفت إلى تسجيل أقوال النساءـ للاستفادة منها في كتابها حيث دار النشر تنتظرها.
برعت الكاتبة في رسم شخصياتها المتنوعة، التي وهبت الإثارة والتشويق للمسرحية، خصوصًا في المشهد التاسع، حيث الحوار العميق بين جاي وزلاتا صاحبة الشخصية الغامضة منذ البداية.
إمتاز المكان بالضيق، وعدم ملاءمته للحياة البشرية، فهو ثكنة عسكرية قديمة، دون حمامات أو مياه نظيفة، وكأن المكان أَيضًا يحاصر اللاجئات، ويخنقهن، لم يتغير المكان إلا في مشهد واحد وهو المشهد العاشر، كانت النسوة يضحكن على ضفة النهر، “يدلين بأصابع أقدامهن في المياه”. وهن ينظفن بشرتهن بمستحضرات التجميل القادمة من فرنسا!
ومن خلال تداعي الأفكار تقارن الكاتبة عبر شخصياتها بين البوسنة ما قبل الحرب وبعدها.
وعن غياب الحدث في المسرحية، يقول الناقد نديم معلا: “إِنَّ الشخصيات تجد نفسها مضطرة إلى الاعتماد على اللغة، كأداة تعبير عن الانفعالات، وفي هذا السياق لا يقف الحوار عند تخوم الدلالة الزمانية والمكانية، ويبدو تعويضًا عن الإيماءات. والحركات بعامة”.
إنَّ الحربَ الطاحنة التي عاشتها البوسنة، والتطهير العرقي، لم ينجح في إطفاء جذوة الحياة، فالمجرمون القتلة “عابرون في كلام عابر” زمن قبيح وسيمضي.
في النهاية استطاعت الطبيبة “جاي” أنْ تبنيَ علاقات إنسانية مع اللاجئات، وهذا كان علاج أنجع من المعالجة النفسية المهنية، إنَّ الطبيبة النفسية “جاي” التي جاءت تغيّر وتساعد اللاجئات، وجدت نفسها تتغير، واللاجئات يساعدنها على إيجاد ذاتها الضائعة.