إذا كان ثمة شيئ يمكن للإنسان الحديث أن يتشبت به ويسعى لبلوغ أعلى مراتبه، فهو التفكير النقدي الذي يمنح للعقل حريته لولوج عالم المعاني الرمزية المستكنهة من اللغة الدينية، لكون الإنسان لا يحقق أعلى درجات التسامي في الإيمان إلا من خلال عقلنة المعتقد الديني ومعرفة حكمه وأسراه المستودعة في عقائده وشعائره، بحيث يصير يتبناه عن دراية وعلم، لا عن غواية وجهل، وبذلك يطرح كل أغلال الوصايا المنقوصة التي فرضتها المتغيرات التاريخية عليه، مما يسمح له بالتفكير خارج السياجات التي تحجب عنه عقل الحقائق وإدراكها.
ولا شك أن الإنسان المعاصر يحتاج إلى سبر أغوار كثير من القضايا التي يطرحها السياق المعولم؛ من أبرزها ما يرتبط بالتفكير الفلسفي في المسائل الدينية، بهدف تجاوز كثير من الترسبات التاريخية التي أضحت لها قدسية تضاهي قدسية الوحي، ومن ثم تحليل العقائد والمقدسات الدينية على وجه يتيح له مواجهة التحديات الراهنة في مختلف المجالات. وهنا يمكن أن نتساءل عن الحقل المعرفي الذي يمكن أن يعيد للعقل الإنساني رشده المعرفي ويرجعه إلى صوابه المنهجي.
من المعلوم أنه منذ عصر الأنوار انتقلت الساحة الفكرية من طور علم اللاهوت إلى ما يسمى ب”فلسفة الدين”. فماهي فلسفة الدين؟ وماهي القضايا التي تعالجها؟ وهل جميع القضايا الدينية يمكن التفلسف حولها ومحاكمتها فلسفيا، أم يقتصر ذلك فقط على المسائل ذات الصبغة العقلية؟ وما المقولات التي تضمها؟ وماهي الإسهامات التي يمكن أن تخدم بها الدين؟
علاقة التفكير الفلسفي بالمسألة الدينية :
لم ينفك البحث الفلسفي تحليل المسائل الدينية منذ نشأته حتى الآن، وهذا ما يطرح السؤال عن علاقة الفلسفة بالدين؛ لكون الساحة الفكرية الآن تعيش تجاذب وصراع بين قطبي الفلسفة والدين، خصوصًا أن هناك فئة من المشتغلين بعلوم الدين يتحرجون من استعمال الملَكة الفلسفية للخوض في قضاياه، وهذا ما دفع سبينوزا إلى القول بأن : “حرية التفلسف لا تمثل خطرًا على التقوى أو على سلامة الدولة بل إن في القضاء عليها قضاء على سلامة الدولة وعلى التقوى ذاتها في آن واحد”.
وهذا يؤكد على أن سبينوزا أراد أن يتجاوز التصديق الساذج القائم على الخوف والرجاء بهدف الإبقاء على النعم الزائلة، إلى الإيمان المعقلن، لكون الأول -أي التصديق الساذج- لا يعكس حقيقة الدين لاعتماده على القصص الخرافية من أجل تفسير الطبيعة، ويتضمن من الخيال والهذيان والأحلام أكثر مما يتضمن من الحكمة، في حين أن الثاني –أي الإيمان المعقلن- يتجاوز سلطان العرافين والأحكام الجاهزة إلى استخدام النظر العقلي في المسألة الدينية.
كما أن كانط أراد أن ينفتح العقل على الدين والدين على العقل لكونهما يدوران حول مركز واحد، واعتبر أن الوحي يتضمن في ذاته دينا عقليا محضا.
وفي نفس السياق يقول هيغل في بداية كتابه محاضرات في فلسفة الدين : “لقد بدا لي أنه من الضروري أن أجعل الدين بذاته موضوع النظر الفلسفي وأن أضيف إلى هذا دراسته في شكل جزء خاص للتفلسف ككل”.
ومما تقدم يمكن القول أن الاهتمام بالمسألة الدينية وإعطائها جهدًا من النظر الفلسفي، يشير إلا أن الدين لم ولن يغادر التفكير الإنساني أزلاً وأمدًا، مهما تقدم الإنسان وارتقى في أطوار البحث والمعرفة، وفكرة موت الإله التي أعلن عنها نيتشه سرعان ما تتبددت وحل محلها التفكر حول الدين، كما أن فريديريك شلايرماخر دافع بشدة عن التجربة الدينية، وذلك يظهر جليًا من قوله عندما خاطب أصحاب الأنا المتعالية على النزعة التقليدية في الفكر، المأخوذين بوميض موضة العصر ومساراته العقلانية لإهمالهم (الدين) لكونه موضوعًا مهملاً ومحتقرًا بالنسبة إليهم. كما خاطبهم بقوله :”أنا على يقين من أنكم أيها المثقفون لستم على علم بكيفية التعامل مع اللحظة العفوية المباغتة القاضية بتمجيد الإله في حضرة صمت مقدس سيواجهكم حتمًا إذا ما زرتم معبدًا مهجورًا” ويقول في موضع آخر “وعيكم بالدين، ومزاعمكم عنه، وما تدعون خاطئ وبعيد عن الموضوعية، إذ جعلتموه منبعًا للأحقاد والضغائن، ووصمتموه بمقاييس تبتعد عن اليقينية، ثم صيرتموه مصدرًا للنزاع بين المجتمعات وإراقة الدماء. عليكم أن تتهموا أولئك الذين دمروا الدين وكبلوه بأغلال ومقاييس كمية..”.
وهكذا يتبين أن التأمل الفلسفي العميق مقترن بالدين في مسيرته التاريخية، وأصبح التفلسف حول الدين موضوعًا يثير اهتمام الباحثين في عصر العلمانية وما بعدها.
مفهوم فلسفة الدين :
يظهر من قول هيغل السابق أن فلسفة الدين عبارة عن نظر فلسفي في الدين، وقدم مجموعة من الباحثين تعريفات لفلسفة الدين وبعض القضايا التي تتناولها من بينها، ما يأتي:
جون هيك : “فلسفة الدين ليست وسيلة لتعليم الدين، وفي الحقيقة لا ضرر لتناولها من منطق ديني. من لا يؤمن بوجود الله، ومن لا يملك رأي حول وجوده من عدمه، ومن يؤمن بوجوده، جميعهم يستطيعون أن يتفلسفوا في الدين. وهو ما يحدث الآن بالفعل. إذًا فلسفة الدين ليست من فروع الإلهيات، أي التدوين الممنهج للعقائد الدينية، بل هي من فروع الفلسفة. تتكفل فلسفة الدين بدراسة المصطلحات والأنظمة العقائدية، وممارسات من قبيل : العبادة، والتأمل، والمراقبة، التي تبتني هذه الأنظمة العقائدية عليها، ومنبثقة منها”.
جان غروندان : “تفكير في الحديث الديني، في دلالته وعلله، دون تجاهل المعنى المزدوج الذي تحمله عبارة فلسفة الدين”.
عثمان الخشت : “هي التفسير العقلاني لتكوين وبنية الدين عبر الفحص الحر للأديان، والكشف عن طبيعة الدين من حيث هو دين، أي عن الدين بشكل عام من حيث هو منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة، ومن حيث هو نمط للتفكير في قضايا الوجود، وامتحان العقائد والتصورات الدينية للألوهية والكون والإنسان، وتحديد طبيعة العلاقة بين كل مستوى من مستويات الوجود، والبحث في الطبيعة الكلية للقيم والنظم والممارسات الدينية، ونمط تطور الفكر الديني في التاريخ، وتحديد العلاقة بين التفكير الديني وأنماط التفكير الديني الأخرى، وبغرض الوصول لتفسير كلي للدين، يكشف عن منابعه في العقل والنفس والطبيعة، وأسسه التي يقوم عليها، وطبيعة تصوره للعلاقة بين المتناهي واللامتناهي، والمنطق الذي يحكم نشأته وتطوره واضمحلاله”.
عادل ظاهر : “تتناول فلسفة الدين أسئلة تتعلق بإمكان معرفة وجود الله ومعرفة صفاته وكيفية تحديد العلاقة بين الله والعالم وكيفية فهم طبيعة الله (ماهيته) والعلاقة بين وجوده وماهيته. كذلك تتناول فلسفة الدين أسئلة تتعلق بطبيعة الدين نفسه وطبيعة اللغة الدينية بالإضافة إلى أسئلة تتعلق بمعنى العبادة الدينية ودور الإيمان فيها وعلاقة الأخير بالعقل”.
علي أكبر رشاد : “التحقيق العقلاني الفَونَصِّي (النص المقدس) في حقيقة الدين وكيفيته وسببيته، ومقولاته وتعاليمه الأساسية، أو البحث الفلسفي في الدين وفي شأن الدين” .
مصطفى مليكان : “فرع من الفلسفة يقوم بتأملات عقلية حول حقيقة الدين والظواهر الدينية” .
محمد تقي الجعفري : فلسفة الدين هي تحليل عقلاني للدين بدون قصد الدفاع عنه أو مواجهته، وإن كانت –نهاية- نتيجة هذا التحليل العقلاني تؤدي إلى نفع الدين أو ضرره”
مصطفى النشار : “فلسفة الدين هي ذلك الفرع من الفلسفة المعني بدراسة وتحليل طبيعة المعرفة الدينية وما تنطوي عليه المعتقدات الدينية ونوع الأدلة والبراهين التي تستند إليها تلك المعرفة، وتحاول تحليل التجارب الإيمانية والبحث في منابعها وتجلياتها وأحوالها”.
كما جاء في الموسوعة الفلسفية العربية أن فلسفة الدين تعنى “بدراسة ما تنطوي عليه المعتقدات الدينية من مسائل عقلية تنشأ من تطبيق نظرية المعرفة على الدين ومن محاولة تبرير هذه المعتقدات تبريرا عقليا. وعليه تعالج فلسفة الدين من قضايا يمكن التحقق من صدقها على نحو ما يمكن التحقق من صدق القضايا العلمية، أم أن الدين مجموعة من التعبيرات التي تختلف عن القضايا العلمية؟ ما الأدلة والبينات التي تستند إليها المعتقدات الدينية الرئيسية مثل الاعتقاد بوجود الله وبخلود الروح؟”.
ويتضح من التعريفات السابقة؛ باعتبارها ترجع إلى مجالات تداولية متعددة، أنها تشترك في كون فلسفة الدين تفكير فلسفي حول المقولات أو القضايا الدينية بهدف تعميق فهم الدين، وبرهنة الإيمان، وإخضاع المفاهيم الدينية للنقد العقلاني، كما أنها لا تقصد الوعظ أو التبشير أو الدفاع عن الآراء اللاهوتية أو الكلامية.
وعلى هذا الأساس يمكن التمييز بينها وبين علم اللاهوت على طريقة رجال الدين من اليهود والمسيحيين لأنه “يقضي بأن تتولى فئة مأذونة ذات سلطة مخصوصة من رجال الدين النظر في ذات الإله وصفاته وعلاقاته بالإنسان والعالم من أجل توضيح مضامينها ومقاصدها للفئات الأخرى لكي تأخذ بها من دون سواها؛ بينما فلسفة الدين لا تتوسل بسلطة المؤسسة الكهنوتية، وإنما بسلطة العقل، ولا تتفكر في ذات الإله، وإنما في ذات الإنسان في علاقته بالإله؛ وبفضل استبدال فلسفة الدين سلطة العقل مكان سلطة الكهنوت واستبدالها النظر الإنساني مكان النظر الإلهي، فإنها تكون عبارة عن ثمرة من ثمار التحرر الفكرية التي اتصف بها عصر الأنوار.
كما أنه يتعين التفريق بين “فلسفة الدين” وعلم الكلام على طريقة النظار المسلمين، إذا كان هؤلاء يتولون رد الشبه والاعتراضات التي يوردها الخصوم المبتدعون على العقيدة الإسلامية، مدافعين عن مقوماتها بما أوتوا من الأدلة العقلية الملتزمة بقواعد المناظرة؛ في حين فلسفة الدين لا تقصد الدفاع عن العقيدة ضد خصم معين، وإنما تجديد الفهم لمكوناتها ومقتضياتها في سياق المستجدات الفكرية، ولا تشتغل بالمسائل النظرية المجردة وإنما بالمسائل العلمية المشخصة؛ وبفضل استبدال فلسفة الدين تقرير العقيدة مكان تفهيمها على المقتضى الحديث واستبدالها الاشتغال بالمسائل العملية مكان الاشتغال بالمسائل المجردة، تكون عبارة عن ثمرة من ثمار حركة اليقظة الفكرية التي يشهدها العالم الإسلامي في عصرنا هذا” .
ويفهم من هذا الكلام أن فلسفة الدين تلتزم الحياد في ما يرتبط بالدفاع عن الدين من عدمه، إلا أنه لا يمنع أن يكون هناك جدل معرفي بين فلسفة الدين وبين علم اللاهوت وعلم الكلام، أو بينها وبين مختلف باقي العلوم الأخرى كعلم الاجتماع الديني، وعلم النفس الديني، وتاريخ الأديان المقارن، والانتربولوجيا الدينية.. بهدف الاستفادة منها من دون قبول نتائج هذه العلوم قبولا مطلقا إلا بعد فحصها وتمحصها واختبارها.
كما تتوسل بمختلف العلوم الحديثة مثل الجيولوجيا، والفيزياء، والفلك، وعلم الأحياء..، قصد فك ألغاز اللغة الدينية ودراسة هذه الظواهر ومقاربتها فلسفيا لإعطاء تفسير للإنسان والعالم، بالاتكاء على المنهج التحليل النقدي في سبر مسائل الدين ومقولاته.
ومن هنا يتأكد أن الدارس الفلسفي للدين أو الناظر بعين العقل في الدين أو المتفكر حوله في هذا العصر ينبغي أن يحيط بالعلوم وفلسفتها، وأن يزيح الفروق والفواصل بينها، حتى تصبح في ذهنه عبارة عن لحمة أو وحدة متكاملة ينظمها رابط منهجي دقيق، الذي من شأنه أن يزودها بمقوم الحركية المعرفية التي تنتج الأفكار وتولد الإبداع والابتكار.
ويلاحظ أن التعريفات السابقة أشارت إلى مجالات اهتمام فلسفة الدين والمواضيع التي يتم تناولها في هذا الحقل المعرفي، ويمكن إجمالها في عشر مقولات، تتلخص فيما يأتي :
مقولات فلسفة الدين :
بما أن فلسفة الدين عبارة عن تفكير في المسألة الدينية، فيلزم من ذلك أن تتناول جميع أبعاد الدين بالتحليل وأن لا تقتصر على جانب واحد منه، بحيث تتناول الدين بالبحث الفلسفي في جميع أبعاده وشاملة لجميع مسائله، وعلى هذا الأساس يلزم أن يتمحور البحث في هذا الحقل حول المقولات الآتية :
- معنى الدين : وذلك من خلال تحديد مفهومه ودلالاته، بإيجاد صيغة تعريفية جامعة لمفهومه تتضمن مختلف الجوانب السسيولوجية والسيكولوجية والأخلاقية وغير ذلك.
بالإضافة إلى الإجابة عن بعض الأسئلة من قبيل : ما الحاجة إلى الدين وهل يمكن أن يوجد شيء يحل محله أو أن يكون بديلا عنه؟ وما مجالاته ووظائفه؟ وهل يشمل البعد الدنيوي أم البعد الأخروي أم هما معا؟
كما يتم البحث في هذا الجانب عن خلود الدين وكماله شموله، وتطوره وحركيته (أي هل هو ثابت أم متحول؟) بالإضافة إلى انتظارات البشر من الدين، حيث يبحث حول هذا السؤال : ما الذي يجب أن يتوقعه البشر من الدين؟ وماهي الحاجيات التي يستطيع أن يلبيها للإنسان؟ وكذا تأثيره في حياة الأفراد والمجتمعات.
أ-باعث النزعة الدينية عند الإنسان : والمقصود بذلك البحث عن الدوافع التي تجعل الإنسان متمسكا بالدين، وهل هو فطري (أي مصدره من عند الله) أم مكتسب (أي أن يكون مصدره شيء آخر)؟ والشق الثاني من السؤال خصوصا، تتجاذب حوله نظريات تاريخية، ونفسية، واجتماعية، وأخلاقية، وأسطورية.. محاولة تفسير وتبرير وتعليل مصدر ظاهرة التدين لدى الإنسان، فهناك من يرجعها إلى الخوف الذي يصاحب الإنسان خصوصا في أوقات الأزمات والكوارث، وهناك من ذهب أن سببها هو الجهل، في حين هناك أرجعها إلى الطبقية، وغير ذلك من التفسيرات الى حاولت تفسير نشوء هذه النزعة لدى الإنسان.
ب-اللغة الدينية : ويقصد بها اللغة الموجودة في مصادر معرفة الدين (أو لغة الوحي)، ويتم البحث في هذه القضية عن دلالات ألفاظها، من ناحية اكتنازها للمعنى (لها حمولة معرفية) أو عدم اكتنازها له (جوفاء وفارغة لا حمولة معرفية فيها)، وهل لها نفس دلالات اللغة الاعتيادية (المتداولة)، أم أنها لغة رمزية لها منطق خاص يميزها عن اللغة العرفية والعلمية والأدبية..؟ وهل تحمل دلالاتها على الحقيقة أم على المجاز؟
وتعتمد فلسفة الدين الهرمنيوطيقا (باعتبارها لا تقصر المعنى على تأويلات ماضية مكشوفة، بل تفتح الأفق لاستلهام معاني حية مكنونة) في تأويل النصوص الدينية وفك ألغازها، وإعادة صياغة المفاهيم الدينية، وترجمتها على نحو ينتج المعنى ويثري الدلالة، ويمَكِّن من إدراك وفهم الدين من خلال إدماج ذلك المعنى وتلك الدلالة في ذهن المؤوِّل على نحو يمكنه من استيعاب الخطاب الديني.
أ-روح الدين (جوهره) وصَدفه ( أو متنه وحاشيته أو الذاتي والعرضي في الدين) أو بصيغة أخرى هل يوجد ما هو أساسي وما هو ثانوي أو غير أساسي في الدين؟
ب- التجربة الدينية: وتعني البحث عن حقيقة هذه التجربة وعما يجده صاحبها في نفسه من إيمان بحقيقة متعالية ينقاد ويخضع لها، وهنا ينبغي الإجابة من مجموعة من الأسئلة من قبيل : هل هي تجربة حسية وإدراكية؟ أم أنها شعور ينقل الروح إلى عالم متسامي يتجاوز المادة؛ بحيث تبعث الارتياح وتولد الشعور بالاطمئنان لدى صاحبها؟ وهل تمثل هذه التجربة روح الدين؟ وهل هي واحدة أم أنماط متعددة؟
ج-التعددية الدينية: وتعالج مسألة وحدة الأديان وتنوعها، وهل تختلف الأديان في الجوهر أم في الأعراض؟ أو أن لها جوهرا واحدا غير أنها مختلفة الأعراض؟ بمعنى آخر : هل حقيقة الدين ودعوى الصدق ينحصران في دين واحد بعينه وما سواه باطل لا أساس له؛ ومن ثم فالخلاص والنعيم يقتصر على معتنقي هذا الدين بذاته؟ أم أن الأديان بتنوعها واختلافاتها تجلٍّ لحقيقة واحدة، تتعدد الأساليب والطرق للوصول إليها؛ وعلى هذا تكون النجاة شاملة للكل؟ وهل هذه التعددية الدينية هي شاملة لجميع الآفاق؟ أم أنها تشمل أفقا دون آخر كأفق الخلاص والنجاة، وأفق التعايش وحدود التقارب الذي يمكن أن يؤطر دائرة المشترك الديني؟
2-الاعتقادات الدينية :
أ-الألوهية : حيث يتم التطرق إلى أدلة وجود الله تعالى، وصفاته، وعلاقة الإله بالإنسان، والإنسان بالإله.
ب-الإيمان والوحي والنبوة : ويدور النقاش في هذه المسألة حول طبيعة الإيمان وحقيقته، وهل منبعه القلب أم العقل أم هما معا؟ وهل يمكن اعتباره حالة نفسية تشبه العلم أم لا؟ وإن كان حقيقة مختلفة فما هي الرابطة التي تربط الإيمان بالعلم والمعرفة؟ أي أنه إذا كان مرتبطا بالعلم والمعرفة فإن التراكمات المعرفية ستنعكس إما إيجابا أو سلبا على قوة الإيمان وضعفه، وإن كان منفصلا عنهما ومتجاوزا لهما فإن معيار القوة والضعف لا يتأثران بالتراكمات المعرفية والاكتشافات العلمية.
وبالنسبة للوحي فأغلب الأديان تنبثق عن كتاب مقدس إما في شكله المقروء أو المسموع أو هما معا، وتجدر الإشارة إلى أنه توجد اختلافات بين الأديان في طبيعة الوحي ووسائله، ففي الأديان السماوية (اليهودية، المسحية والإسلام) الوحي عبارة عن رسالة من الله تعالى إلى نبي يتم اصطفاؤه (ولا يمكن بلوغ هذه المنزلة بالتسامي الروحي) ليكون مبلغا للرسالة، في حين أن بعض الأديان الأخرى كالبراهمية والفيدية فإن شكل الوحي الرئيسي يأخذ طبيعة أخرى تتمايز عن طبيعته في الأديان السماوية، حيث يتم استقبال الحقيقية التي تفسر الوجود عن طريق الحكماء، أو قد يكون كنوع الوحي في الأديان السماوية، حيث يقوم وسيط بتلقي رسالة سماوية من الإله، في حين توجد أديان لا تستند إلى الوحي إطلاقا كالبوذية، لكونها تنطلق من تجربة بشرية وإلهام الحكيم (بوذا)، وبعض الأديان الأخرى تستند إلى مبادئ مؤسسها الأسطوري.
أ-المعجزات والخوارق والكرامات : يتم البحث عن حقيقتها وطبيعتها، وأثرها في إثبات الدين وصدق الإيمان، وهل تعتبر خرقا للقوانين الكونية والفيزيائية؟ أم أنها تجعل هذه القوانين تتوقف مؤقتا أو تتعطل؟ أن أنها صادرة عن قوانين خاصة غائبة عن إدراك الإنسان؟
ب-البعث والخلود : يتم البحث في مفاهيم الموت والخلود (الروح أو الجسد أو هما معا) والجزاء والمصير (الكارما في الاصطلاح الهندوسي) بعد الموت، وهل يعتبر الموت نهاية الإنسان؟ أم أنه ينتقل من معيشة إلى أخرى؟ ومفهوم التناسخ في البراهمانية والهندوسية، وكيف يصل الإنسان إلى الخلاص والنجاة أو النيرفانا.
ج-مشكلة الشر وعالم الشيطان : من خلال الكشف عن سبب أو أسباب الشر، ومن المسؤول عن حدوثه، هل الشيطان هو المتسبب في حدوث خلخلة نظام الكون؟ ولاشك أن هذه المسألة في اختلاف واسع بين الأديان سواء في طبيعة الشيطان وتأثيره على عالم البشر، أو في تفسير حدوث الشر في العالم، فبعض الأديان تعتقد بوجود إله الشر في حين أن الأديان السماوية ترجعه إلى الشيطان أو عناصر أخرى.
د-العبادات الدينية : من خلال بيان ماهية العبادة ووظيفتها التي تؤديها، وموقف الأديان منها، وهل جميع الأديان توجد فيها عبادة وشعائر طقوسية؟ وماهي طبيعة العلاقة بين الله تعالى والإنسان؟
ه-الدين والأخلاق : من ناحية بيان علاقة الدين والأخلاق، وهل هي نابعة من الدين؟ أم أن الدين نابع منها؟ وهل الدين جزء من الأخلاق؟ أم أن الأخلاق جزء من الدين؟ أم أنهما مستقلان تمام الاستقلال؟ وإذا كانا حسب هذا الاعتبار هل يمكن أن يوجد بينهما بعض القضايا المنسجمة؟
و-الدين والعلم : حيث يقوم البحث في العلاقة القائمة بينهما، ومدى التأثير والتأثر المتبادلين بين المفاهيم الدينية ونتائج العلوم الإنسانية والكونية والطبيعية.. ومن ناحية الجمع والتكامل، أو الانفصال والتنافر بينهما، بالإضافة إلى إمكانية استفادة أحدهما من الآخر في تفسير أو تحليل بعض الظواهر أو القضايا، وتُناقش في هذا الجانب قضايا كثيرة؛ كحقيقة وجود عالم أو عوالم أخرى تسكنه الجن والملائكة أو مخلوقات أخرى.
هذه أبرز المقولات التي يتم تناولها بالتحليل والدراسة في فلسفة الدين، وقد يلحظ القارئ نوع من التمازج أو التجانس بين هذه المقولات في فلسفة الدين وبين علوم أخرى، إلا أن فلسفة الدين لها منهج خاص في تحليل المسائل الدينية؛ يعتمد التحليل العقلي، ولا يسعى إلى الرد أو الدحض، كما لا يقبل نتائج هذه العلوم كعلم الاجتماع الديني وعلم النفس الديني.. إلا بعد سبرها وتخليصها مما يشوبها من مخلفات، ثم بعد ذلك الاستفادة منها في هذا الحقل، وهذا لا يعني أن هناك انفصال بينها وبين بقية العلوم، بل هناك تداخل صوري بينها وبين مختلف الحقول الأخرى.
ويتضح مما سبق أهمية هذا الحقل المعرفي، وضرورة العناية به والاستفادة منه على مستوى المعرفة والمنهج، خصوصا في مجالنا التداولي، لكون دائرة الاهتمام لا تزال في مرحلتها الجنينة ولم يتمخض عنها بعد ما يسهم في تحقيق عقلنة المعرفة الدينية، للدخول في حوار مع الذات أولا، ثم مع الآخر ثانيا.
المصادر والمراجع
- التفكير فلسفيا (مدخل)، كريس هورنر وإمريس ويستاكوت، ترجمة : د. ليلى الطويل، الهيئة العامة السورية للكتاب – دمشق، 2011.
- التعددية الدينية في فلسفة جون هيك المرتكزات المعرفية واللاهوتية، د. وجيه قانصو، المركز الثقافي العربي، ط:1، 1428ه -2007م.
- دراسات في الفكر الديني فلسفة الدين والكلام الجديد، محمد شقير، دار الهادي بيروت -لبنان، ط:1، 1429هـ-2008م.
- الدين في حدود مجرد العقل، إيمانويل كانط، ترجمة : فتحي المسكيني، جداول ، بيروت –لبنان، ط:1، 2012.
- رسالة في اللاهوت والسياسة، سبينوزا، ترجمة وتقديم : د. حسن حنفي، مراجعة : د. فؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، ط : الأولى 2005.
- سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء- المغرب، ط: 1، 2000.
- عن الدين، خطابات لمحتقريه من المثقفين، فريدريك شلاير ماخر، ترجمة أسامة الشحماني، دار التنوير – بيروت، ط :1، 2017.
- فلسفة الدين جان غروندان، ترجمة وتعليق : عبد الله المتوكل، مؤمنون بلا حدود، ط :1، 2017م.
- فلسفة الدين، علي أكبر رشاد، تعريب موسى ظاهر، مركز الغدير – بيروت، ط :1، 1432هـ 2011م.
- فلسفة الدين في الفكر الغربي، د.إحسان علي الحيدري، دار الرافدين لبنان –بيروت، ط:1، 2015.
- فلسفة دين، محمد تقي جعفري، مؤسسه فرهنكى انديشه، 1375هـ.
- فلسفة الدين من منظور الفكر الإسلامي، د. أبو يعرب المرزوقي، دار الهادي، ط:1، 1426ه – 2006م.
- مجلة قضايا إسلامية معاصرة، السنة السادسة عشرة – ع49-50/ 2012-1433.
- محاضرات فلسفة الدين، فريدريك هيغل، ترجمة وتقديم وتعليق : مجاهد عبد المنعم مجاهد، مكتبة دار الكلمة، القاهرة –مصر، 2001.
- مدخل إلى فلسفة الدين، محمد عثمان الخشت، دار قباء – القاهرة، 2001.
- مدخل إلى فلسفة الدين، د. مصطفى النشار، الدار المصرية اللبنانية، ط: 2، 1436هـ-2015م.
- موسوعة فلسفة الدين، تمهيد لدراسة فلسفة الدين، إعداد وتحرير : عبد الجبار الرفاعي، دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين بغداد، ط:1، 2014.
- الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير : د. معن زيادة، معهد الإنماء العربي، ط : 1، 1998.
- Philosophy of Religion, John H. Hick, PRENTICE HALL, Inc. Englewood Cliffs, New Jersey, 4th ed, 1990.