وقتَ الضحى حملتُه، ولم أكن أدري حين حملته أنه هو الذي سيحملني، ليُطوِّف بي عالمًا لم يسبق لي أن زرته، ولا أن عرفته، ولا أن حُدِّثتُ عنه.. عالمًا مزج بين الحقيقة والخيال، وبين التاريخ والحاضر والمستقبل؛ فيه طيف من حزن، مع طيف من شجن، مع طيف من ألم، مع مسحة من أمل.. بسمة ثم دمعة، ضحكة ثم أنّة، رعشة ثم رجفة، وهكذا.. حملني بعيدًا حتى أسمعَني صوت الجماد، وفهّمني منطق الطير، وجعلني أرى ما لم أكن أنتظر أن أراه، وأسمع ما لا يمكن سماعه.. ذاك هو كتاب الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله تعالى: “عودة الفرسان، سيرة محمد فتح الله كولن رائد الفرسان القادمين من وراء الغيب”، ولعل من يعرف الشيخ فريد الأنصاري وقرأ له، يدرك جيدًا قدرة هذا الأديب على الأخذ بمجامع القلوب حين يخط بمداده، ويعلم قدرته على استثارة العواطف وتهييج الأحاسيس، وبراعتَه في سلب القارئ قدرته على التحكم في نفسه وعواطفه، فيجد نفسه مرغمًا على السير كما أراد له الأديب، يأخذ بيده خطوة خطوة، فيرفعه كلما ارتفع، ويخفضه كلما وضع.. حتى إنك لتشعر إذ يصف أنه يشِفُّ، وكأنك تتجول برفقته، ويريك المشاهد مشيرًا بسبابته، كأنما هو دليل سياحي يبكيك متى أراد، ويضحكك وقتما يشاء، وما لك أيها المسافر في رحلة كتابه إلا أن تنقاد.
كنت أعرف أسلوب الشيخ قبل أن أقرأ الكتاب، لكن الذي كنت أجهله، أنه لن يقف التأثير عند حدود زمن القراءة، بل سيمتد بي مدة أطول، أكون فيها على كل أحوالي هائمًا بما قرأته، فيتراءى لي في غدوتي وروحتي، وأسمع خيالاته، وأرى علاماته، حتى خفتُ على نفسي إذ تكاثرت عليّ. أجل، لقد استطاع بسهولة كبيرة أن يفقدني سيطرتي على نفسي، ويخرجني من الشعور بالزمان والمكان.. كنت مغيبًا عن الواقع، أقرأ سطور الكتاب في السماء، وفي زرقة الماء، وعلى سقف غرفتي، وفي قبلة مسجدي.. في السوق أسمع كلماته، لا تتوارى خلف ضجيج الزحام، ولا تضيع بين كثرة الوجوه.. لقد أسرني حقيقة، وجعلني مشدوهًا متفرسًا في صفحة فتح الله كولن، لا أفكر إلا في الكتاب، راحلاً بين محطاته، تدق بها نبضات قلبي، وأسمع لأصواتها صدى في أعماقي يهزني.
نعم وللحقيقة أقولها، لقد أثر فيَّ هذا الكتاب كما لم يفعل كتاب من قبل. ولربما كان سبب ذلك، أنه صادف فترة من حياتي كنت في أشد الحاجة فيها إلى مثل هذا الشعاع، وإلى هذا الفتيل المنير، وإلى هذا القدوة العظيم، حتى يقودني إلى الهدف الذي كنت أُكِنُّه في تابوتي مدة من الزمن، فقد جاء على قدر، وبقدر، ولقدر علمه الله.. نعم هكذا كانت قصتي معك يا دكتوري العزيز.
يتحدث الكتاب عن داعية تركي معروف اسمه “محمد فتح الله كولن”، ولد سنة 1938م. ومعنى “كولن” بالتركية: “الضحاك”، وهذا كما قال الكاتب من عجائب الأضداد؛ لأن فتح الله لم يُعرَف إلا باكيًا، ولذلك كرر الكاتب هذه المقالة كثيرًا بين تضاعيف الكتاب:
“فتح الله لديه سر ليس يبوح به!
فتح الله لديه سر تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحدًا!
فتح الله يحمل في قلبه ما لا طاقة له به، ولذلك لم يزل يبكي؛ حتى احتار الدمع لمأتمه!
فتح الله وارث سر، لو ورثه الجبل العالي؛ لانهد الصخر من أعلى قمته، ولخرّت أركان قواعده رهبًا!”
فتح الله بكى كثيرًا، ولا زال على حاله تلك، لكنه يأمل في أن يضحك العالم كله، حتى يعيد بمجالس النور التي رسمها؛ نور الحياة الحقيقي، الذي درست معالمه واختفت خيوطه الذهبية لكثرة الغبار المتطاول عليها من زمن النبوة الأول.. هكذا وصفه الدكتور فريد، وبالغ في وصفه بكلمات الجمال والجلال، حتى استمكن حبه من قلبي، واحتار دمعي لدمعه، وبكت مقلتاي لمقلتيه الطاهرتين.
والحقيقة أن هذا الرجل البطل (فتح الله كولن)، تثار حوله أمور كثيرة اعتراضًا على مواقفه السياسية، ناهيك عما يلام به من أمور عقدية ومنهجية، ولكني ممن يعمل بالقاعدة القائلة: “خذ الثمار وارم الحطب بالنار”. لذلك لا أنصح المبتدئ في العقيدة، أو الشادي في علوم الشريعة أن يطالع كتبه، ولا كتب شيوخه، إلا إذا تمكن من تمييز السليم من السقيم، وجَلَّ من لا يخطئ، وكلنا ذاك المخطئ، هذا مع ما له في كتبه من روائع الحكم، وفتوحات أهل الصفاء الروحي.. ومن ثم احتفظتُ بصورة “فتح الله” كما رأيتها في الكتاب، وكما شاهدتها مرسومة على محياه الطاهر، لا كما شاهدتها في الإعلام.
الكتاب هو آخر ما جادت به قريحة الدكتور فريد رحمه الله، وقد كانت فيها بصمته الأخيرة التي بصمها عالم الغيب في نفسه، كانت ظاهرةً جلية، فيها مواجيده العتيقة، ودموعه الحرَّى، ومشاهداته العجيبة.. فلا أذكر أنني سَلِمتُ مرة من مداهمة دمعة حارة، أو زفرة حادة، أو شهقة عميقة وأنا أطالع رحلة الراوي خطوة خطوة، ومشهدًا مشهدًا.
ومن العجيب الغريب، أن هذه النسخة التي قرأت فيها ليست لي، ولا طلبتها من صاحبها! بل قد رأيت الكتاب مراتٍ ومرات على المكتبات وعلى أرصفة الطرقات، وكم سنحت فرصٌ وفرص لشرائه، لكن لم أفعل.. بل أتى إلي وكأنه يخاطبني من بين كومة الكتب المعدة للمطالعة فوق مكتبي، وكأنه قفز إلي وقال: هيت لك! أنا دواء سقامك يا سيدي، وأنا طبيب جراحك أيها المثخن، افتحني فستتدفق عليك أشعة النور لتغمرك ومَن حولَك، هيا لا تتردد، فأنا وارث سر عجيب.. فما إن أخذته لأتصفحه ولأقرأ أسطرًا منه، حتى وجدت روحي في عالم غريب على قلبي؛ فإذا هو لذة تتبعها لذة، وشوق يتبعه شوق، ودمعة تتبعها دمعة، وحزن يسليه حزن.. لم أستطع أن أفارق الكتاب، إلا وأنا هائم في التفكير في مشاهده، أسبح في تياراته، تأخذني يمنة ويسرة، في عالم لا أدري كيف أصفه.. كان الأسلوب أدبيًّا رائعًا، معتمدًا على الإشارة والهمس، فيه عبارات وعِبرات تؤسس معناها بمبناها، ساقتني بين مكناس وتركيا وأندلس الأشجان، فإذا بالتاريخ المنقضي يمضي منبعثًا من جديد، ليتعانق والمستقبل أمامي، في مشهد نادر جمع المتناقضات، واختلطت فيه الأحاسيس والمشاعر.. فلم أكن أدري هل أسرِّع القراءة حتى آخذ نهمتي، أم أبطئ حتى أشبع متعتي!؟ فكنت كما وصفتُ مسلوب الإرادة.. منفلت الزمام.. تقودني الكلمات وتغرقني الدمعات.
جعلتُ أبحث عن الأسباب الأخرى التي دفعتني لهذا التيه الشديد، وأغرقتني في هذا الهيام الخاطف، فوجدتها متشابكة متداخلة، فمنها شَبهي الكبير بفتح الله آلامًا وآمالاً، واقعًا وحلمًا.. ومن الأسباب المهمة أيضًا، أن الرجل أذكى جذوة في قلبي وأججها وسعرها، ظللتُ زمنًا طويلاً أتعهدها خوفًا من أن تنطفي، وذعرًا من أن تختفي.. ومن ذلك أيضًا، تجديده لحنين الشوق إلى مجد الأمة المسلوب؛ فقد نبش الجرح الغائر في كبدي، ورد إلى مفكرتي ألم الأندلس الحزين، وواقع تركيا الأليم، ومأساة الأقصى الأسير، ورد التاريخ للواقع، فرسمه أمامي، فعادت نسائمه تداعب أنفي، أشم رائحتها تنبعث من بين دفتي الكتاب، تناديني صوامع المساجد، ودروب الأحياء، وخشخشة نعال الناس.. حتى لكأني فيه حقيقة، وفي شوارعه، أسمع بكاء المآذن، ونوح المنابر، وأرى حزن الحمام، وأسمع نوح اليمام، وصهيل خيول الفاتحين.. ومن ذلك أمور أخرى لا أجد طاقة للتعبير عنها بكلام.
هذا الكتاب بالنسبة إلي، محطة مهمة في طريق سيري إلى الله، جددت به إيماني وخشيتي وتقواي، وأعلنت -بسببه- أنني انخرطت فعلاً في قوافل فتح الله، وصرت من جنود الفاتحين، ولبست لأْمَتي، وامتطيت فرسي، وأخرجت سيف النور من غمده، مستعدًا للإغارة على جيوش الظلام، وقررت ألا أترجل عن فرسي إلى أن ألقى الله، وقراري هذا شرطه ألا يكون فارسه إلا من الكُمَّل من الرجال، أن يكون من الصالحين المتقين، لأن هؤلاء الفاتحين خيارٌ من خيارٍ من خيار.
ويكفي أن أشركك بجملة من الكتاب، حفرتْ كبدي إذ قرأتها، حتى سمعت لها أزيزًا بين أضلاعي، لتتبين بنفسك، وتتأكد أنني لم أبالغ في وصف الكتاب، ولم أكذب في وصف حالي كذلك، يقول الدكتور فريد متحدثًا عن فتح الله: “فتح الله لا يملك في هذه الدنيا سوى ملابسه القديمة، ومحفظة أحزان قديمة، تصحبه أنى حل وارتحل، لم يزل يحتفظ فيها بثلاثة مفاتيح عتيقة، الأول مفتاح “الباب العالي” في إسطنبول، والثاني مفتاح “باب الحِطَّة” في المسجد الأقصى، الثالث مفتاح “جامع قرطبة” في أندلس الأشجان”.. هذه الكلمات تلخص لك الكتاب كله، فهذه المفاتيح الثلاثة التي يحملها فتح الله ظل يبكي.. ويبكي.. ويبكي.. راجيًا أن يكون ممن يفتح تلك الأبواب، ويتشرف بإعادة الإسلام إليها كما كان.. فلا تعجب إن بكى فتح الله والناس يضحكون، ولا تعجب إن بكى فتح الله والناس يمرحون، ولا تعجب إن بكى فتح الله والناس في غمراتهم ساهون؛ إذا كان قد أدى ما عليه من واجب وزيادة، وفتحَ باب إسطنبول وإن لم يتم فتحه كاملاً بعد، فمن لبقية الأبواب الأخرى؟ متى سيولد فتح الله الجديد؟ ومتى سيولد صلاح الدين الجديد؟ ومتى سيولد عقبة بن نافع الجديد؟ حقيقة لا أدري، لكن الذي أدريه وأوقنه وأعقله، أنه لا بد من أن يولد، ولكن “لا ميلاد بلا ألم”.
(*) كاتب وأديب مغربي.