هى رمز القوة والشموخ ، يبلغ أرتفاعات بعضها آلاف الأمتار، وتبلغ ضخامتها ما يجعل أضخم الحيوانات، التى تدب على الأرض تبدو تحت سفوحها كأنها شيئ ضئيل، أنها مظهر فريد من مظاهر قدرة الخالق عز وجل، نظمها وإقامها ميزانًا دقيقًا يحفظ توازن الأرض، ويشهد فى نفس الوقت بوجود الموجود الأعلى، ليدرك العقلاء من أهل المادة أن فوق كل ذى علم عليم، ونتعرف عبر هذه السطور على الجبال وما تحوى من أسرار كونية وكنوز طبيعية لم يكتشفها العلم الحديث سوى من وقت قريب .
الجبال وتوازن الأرض
وللجبال وظيفة أساسية هى أن تمنع الأرض من أن تميد أو تضطرب، ولقد تعددت آيات القرآن الكريم ، التى ذكرت هذه الوظيفة الأساسية للجبال ، كما فى قول الخالق عز وجل ” وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا “( سورة فصلت 10) “وجعلنا فيها رواسى شامخات “( سورة المراسلات 27) ” وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ”(سورة الحجر 19) “أأَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا*وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ” ( سورة النبأ 6-7 ) فهذه الآيات الكريمة، أكدت على أن الجبال هى التى تحفظ توازن الأرض، وهى بمثابة الأوتاد التى تمنع الأرض من أن تميد أو تضطرب، وهذا الأمر إن دل على شيئ فأنما يدل على أن الأرض لم تكن مستقرة، بداية قبل إرساء الجبال عليها، وهذا ما أكد عليه العلم الحديث حيث كشفت الأبحاث الجيولوجية أن للجبال أمتدادات عظيمة الشأن، تحت قارة القشرة الأرضية.
ولقد ثبت من الدراسات الجيولوجية أن متوسط جذور الجبال فى كتلة الأرض يبلغ بين 10، 15 أمثال أرتفاعاتها البارزة فوق السطح، حيث وجد أن سمك القشرة الأرضية تحت القارات نحو خمسة كيلو مترات، أما سمكها تحت الجبال فيصل إلى خمسة وتلاثين كيلو متراً، وبهذا العمق تتخذ الجبال شكل الأوتاد الراسخة فى العمق، وهو ما يعرفه علماء الجيولوجيا بأسم “التوازن الأبزوستاسى ” ولولا جذور هذه الجبال المنغرسة فى طبقات السيما، لطفت القشرة الأرضية وأنعدم توازنها وثباتها فوق الطبقة التحتية السائلة المنصهرة ونظرة مدققة إلى أطلس القارات توضح أن حكمة الله تتجلى فى توزيع الجبال على القارات كلها، حتى لا تميد الأرض ، ونحن نرى قمم هذه الجبال.
ومن حكمة الخالق عز وجل ، أنه يقابل هذه الأثقال على القشرة الأرضية أحمال أخرى من الماء فى المحيطات والبحار، وتتجلى الحكمة هنا فى جعلها أكثر غورًا فى القشرة الأرضية، لأن كثافة الماء أقل كثيرًا من اليابسة، لكى تتوازن أحمال الماء مع أحمال الجبال، وبهذا التوازن بين أوزن الجبال وأحمال الماء أنتظمت سرعة دوارن الأرض حول محورها، وبالتالى أنتظم إيقاع أختلاف الليل والنهار حسب أختلاف الفصول وهذه الحقائق عن الجبال ووظيفتها فى تثبيت قشرة الأرض لم يتوصل إليها العلماء إلا فى عام 1956م.
تكوين الجبال
يرى العلماء أن تكوين الجبال تم بعدة طرق منها
1ـ بفعل حركات باطنية كالجبال الأنكسارية أو الألتوائية
2ـ كما أن هناك نوعًا منها تكون بفعل النحت ، الذى كان له دور كبير فى تكونيها حيث تقاوم الصخور الأكثر صلابة عوامل التآكل والتجويه، (العوامل المناخية ) والتعرية حيث تنصاع الصخور الهشة المجاورة متهاوية متأكلة
3ـ وقد يكون نشأة وتكوين الجبال بفعل عوامل بركانية أو تراكمية ، وهى الأخرى تبدو منعزلة، ولا توجد فى شكل تجمعات أو سلاسل بركانية
أشهر هذه الجبال
تعد الجبال الملتويه أو الألتوائية الحديثة من أشهر هذه الجبال، ويرى علماء الجيولوجيا أن هذا النوع من الجبال يمثل مناطق من القشرة، تكونت من طبقات رسوبية مضغوطة بفعل زحف الكتل القديمة على البحار التى كانت مملوءة بهذه الرواسب، الأمر الذى جعلها ترتفع ملتوية على سطح الأرض.
وعوامل التعرية التى سخرها الخالق عز وجل، شقت فيها سبلاً فجاجاً وممرات وأودية ، وفجرت فيها أنهارًا مثل جبال الألب فى أوروبا، التى تقطعها ممرات توجد بين مرتفعات يصل أرتفاعها فى بعض الأماكن إلى أكثر من عشرة آلاف قدم، وهناك ممرات بين مرتفعات تبلغ ضعف ذلك، وقد عبر الإنسان فى أنتشاره على سطح الأرض هذه الممرات وسلكها، وتسلكها الآن سبل الموصلات المختلفة ، وصدق الحق عز وجل إذ يقول “وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْوَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ” ( سورة الأنبياء 31 )
الجبال ومنفعة الإنسان
والجبال كنوز من الثروات الطبيعية لمنفعة الإنسان، وأن هذه المنفعة ناتجة من اختلاف اشكالها وتباين ضروبها ، وتنوع أصنافها وتفنن أحجارها، فالجبال صخرية لكونها غنية برواسب النحاس وصخور الكبريتيد وخامات الزنك، والفضة والذهب والرصاص والجبس والفوسفات والمنجنيز والنيكل والقصدير والفحم، وغير ذلك من المعادن التى يستخدمها الإنسان فى الصناعات المختلفة وتعود عليه بالنفع والفائدة،
أمّا الجبال هشة السطح و المغطاة بوشاح ناعم الحبيبات فهذه تستغل فى الزراعة والرعى، حيث تستغل سفوحها ومدرجاتها فى العديد من دول العالم، التى بنت عليها إقتصاديات كبيرة.
وكون الجبال شامخة فهى تصيد المطر وتجمع الثلوج، حيث يقول العلماء: إن الكتل الهوائية تضطر إلى الأرتفاع إذا قابلتها تضاريس مرتفعة كسلاسل الجبال أو حافات الهضاب، وهذا الأرتفاع يؤدى إلى تكاثف بخار الماء الذى تحمله سفوحه فى شكل مطر فوق السفوح المواجهة لخط سير الكتلة الهوائية،
فهذه صور ونماذج لتسخير الجبال لمنفعة الإنسان ، ففيها الأحتياطى العظيم من المعادن ، وعلى سفوحها قطع من سندس أخضر ، وفوق مرتفاعاتها تتهاطل الأمطار ويرقد الجليد .
للجبال ألوان
ومن عجائب صنع الخالق عز وجل، أن للجبال ألوان وأشكال مختلفة، وقد تأمل العلماء هذا التنوع فى ألوان الصخور الجبلية، وأدركوا أن وراء هذا التنوع فى الألوان أسرارًا تكمن فى النسيج الصخرى وتركيبها المعدنى، ونسبة هذا التركيب المعدنى ومدى قابليتها للاتحاد مع الأكسجين،
وذكروا أن اللون الأبيض وراء تغلب نسبة الجير والأملاح على النسيج الصخرى، واللون الأسود وراءه تغلب نسبة أكسيد الحديد على النسيج الصخرى أو وراءه تغلب نسبة الرماد البركانى على النسيج الصخرى، وهذه الألوان الصخرية الجبلية تشير إلى التميز بين أنواع هذه الصخور الأرضية؛ فوجود الأكسجين يكسب الصخور التى يدخل فى تركيبها صفة الأكسدة، فالحديد المؤكسد يصبغها باللون الأحمر، والصخور البيضاء هى الجيرية والملحية فى السبخات، وكذلك قلانس الجليد فوق قمم الجبال عند خط الأستواء وفوق السهول فى المناطق الباردة والقطبية، وهذه الألوان الصخرية ذات صلة وثيقة بالقشرة الأرضية ، التى تتغير عبر آلاف وملايين السنين، ولهذا السبب تتغير ألوان الجبال ، وقد دعانا القرآن الكريم إلى التأمل فى أسباب هذا الأختلاف فى قوله تعالى “وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌأَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ” (سورة فاطر 27) والجدد هى الطرق فى الجبال التى تتعرى لتصبح بيضاء أو حمراء اللون أو سوداء مثل الغربان ، وهذا ما أكده علماء الجيولوجيا بأن عوامل التعرية أو التجوية التى تتراوح بين الأمطار والرياح والشمس، تقوم بتعرية أجزاء من الجبال وتكشف ألوانها بعد أكسدتها، فتظهر مسالك وطرقًا ودوربًا بين طبقاتها لها أشكال مختلفة.
تسبيح الجبال
ولا ننسى أن نشير فى النهاية، إلى أن الجبال خلق من خلق الله عز وجل تسبح بحمده وتشكر فضله، وذلك من عجائب القدرة الألهية، وقد ورد ذلك فى أكثر من موضع من آيات القرآن الكريم، فى قوله تعالى “وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَوَكُنَّا فَاعِلِينَ” ( الأنبياء 79) وقوله تعالى “إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّوَالإِشْرَاقِ” ( سورة ص 18) وكذلك قوله تعالى “وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ” ( سبأ 10 ) ويظهر تسبيح الجبال واضحاً فى قوله تعالى “أوبى معه ” أى رددى معه ، لندرك الحقيقة الكبرى بأن كل ما فى الكون يسبح بحمد الله ، ويسبح بعظمته “تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْفِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَتَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ” (الأسراء 85 )
المصادر
- الجبال أوتاد الأرض ورواسيها ، محمد الطيب عربى ، مجلة الضياء الأماراتية ، عدد أكتوبر ـ نوفمبر عام 1994م
- فصل المقال فى حركة الجبال ، د/ كارم السيد غنيم ، مجلة الوعى الإسلامى ، العدد 406 ، اكتوبر عام 1999 م
- الجبال بين علم التكنونية والشريعة الإسلامية ، د/ رضا عبد الحكيم إسماعيل ، مجلة الوعى الإسلامى ، العدد 395، نوفمبر عام 1998م
- الجبال كيف تمر مر السحاب ، سعد شعبان ، مجلة الوعى الإسلامى ، العدد 508م ، ديسمبر عام 2007م