الغد ُّعمره لا ينتهى أبدًا ،يخلع عباءاتٍ لا تنتهى أبدًا ويرتدى أُخريات ليظل دومًا اسمه الغد.
أطول المخلوقات والموجودات عمرًا ،مُحال أن يسبقه أحد، أو يَلغى وجوده أحد،هو خالدٌ كخلود الله غير أنّ الله ليس كمثله شئ.
ينتظره الكل، الشقى والسعيد والغنى والفقير والقوى والضعيف، الملوك والصعاليك، راغبون فى فضله وستره خائفون من بطشه وفضحه.
فكيف نربحه لنسعد ولا نخسره فنشقى؟
يعيش الفرد فى وطنه، له حقوق وعليه فروض، فإذا أدى فرائضه ونال حقوقه فستدور عجلة حياتهم نحو الإزدهار والرقى والسيادة، يبنون جنّتهم فيه لبنة لبنة، فينكشف عنهم وجه غدهم الجميل، أولئك الرابحون.
وإذا قصّر أحدهما أو كلاهما فى الفرائض والحقوق فستدور عجلة حياتهم نحو التخلف والإنحدار والشقاء، يؤجّج لهم الجحيم وينكشف لهم وجه غدهم القبيح، أولئك الخاسرون.
والتاريخ والأديان تكلموا عن أمم صال وجال طغيانهم، ثُمّ ما لبثت أن ذابت ولُعنت ليس بألسنة الأخرين فحسب، بل بألسنتهم هم،ثم دُونت فى مذابل التاريخ تتأفّف الأنوف من سيرها.
كما تحدثوا عن أمم عمّ وانتشر خيرها، فتعطّرتْ الأُنوف بطيبها وطَرِبتْ الأسماع بشدوها، ودُوِنتْ فى صفحات التاريخ الناصعة البياض فقُدِّّست وبُجِّلت.
كلٌ سلك الدربين، درب الخير ودرب الشر، ورنين الذهب ليس كرنين الفخار، فنالوا من الغد ما يستحقون، فربح من ربح وخسر من خسر.
فى كل الأحوال فالغدُّ غيب مجهول غير معلوم الملامح، لكننا قد نحدده، مجهول اسمه لكننا قد نكنيه، يحمل فى قسمات وجهه كل الأشياء ونقائضها، الشر والخير، الشقاء والنعيم، المنع والعطاء، الشمال واليمين،لكننا قد نتحاشى شره، ونركن الى خيره، فنملكه ولا يملكنا.
لكنّ الشئ الوحيد الثابت والخارج عن إرادتنا بالكلّيّة، أنّه خالد مفروض علينا كُتب لنا وكُتبنا له، فلا نستطيع أن نلغيه.
زهدنا الماضى فقد طُويتْ صفحاته، ونعيش صفحات الحاضر نسعد بأفراحه ونشقى بأوجاعه، ورغبنا الغدَّ نجاة من شر، وأملاً فى خير فهو المهيمن والمخيف على النفس لما يحمله من غيب ومجهول.
الكلُّ يخشاه”الغدّ” ،الكلُّ يرجوه، الكلُّ يتقرب إليه بقدرة الربِّ، جاعله وموجده.فهل احتمينا بالله من شرِّه، أو رجونا خيره تحت مظلة قدرة الإله.
أيُّها العالَم الواحد
أتخافونه؟ لا تخافونه إذا تحاببتم، اذا تراحمتم، إذا أخلصتم، تحازوا معًا ولا يَطغى أحدٌ على الأخر، قفوا له رحماء أعزّاء تجدونه مِطواعًا رؤوفًا.
يجب أن نتعلم من ماضينا الموجع لنستسقى ترياق اليوم فنبرأ فى الغدِّ، أو ماضينا الممتع فنستسقى المزيد من كؤوس اللذّة اليوم فننعم كذلك فى الغدِّ.
بينكم، بينكم كسّروا قيود الرقِّ، إفتحوا قضبان الحبس، واثقبوا طبول الحرب، وارفعوا رايات السلم، أحرقوا أجساد الشياطين، واركنوا على جُنبات الملائكة، هيّا لا تتردوا حتى لا يضنّ عنكم غدكم بالرحمة والنعيم والسعادة.
إمضوا نحو الشمس، وتزيّنوا بزينة القمر، وابذروا الزهر، واسقوا الزرع، واحملوا الكَلَّ، واكسبوا المعدوم، امسحوا عرق جبين المكدود، هيّا افعلوا ما تُؤمرون لنبنى هنا وهناك، نبنى عالم الغدِّ الجميل، عالم الفضيلة.
نعمل على الدرب متفائلين لا متشائمين، ننشد فى طلة الفجرالسِقاء، وفى نور الشمس الضياء، وفى قطرات السماء غيث السحاب، لابد أن نرى كل شئ فى الكون جميلاً حتى نحيا، حتى نعيش، حتى تستمر عجلة الحياة فى أمن وهدوء.
هيّا معاً، لنبحث عن الغدِّ الأكبر، كل أيامه الدنيا تتشابه، تطيب لنا تارة وتؤلمنا تارة أُخرى، تعزّنا وتذلّنا، تهبنا وتنزعنا، ترفعنا وتخفضنا، تسعدنا وتشقينا، لكنها كلها فيه”الغد”أو فيهم معانى لاتَحمل فى مضامينها إلا الرسم والشكل، حيث أنها بلا روح، كالجسد بلا روح حتى هو ذاك الغد جسد بلا روح، وإذا أردنا نحن جسده بروحه، فعلينا بالغدِّ الحقيقي، الغدُّ الأكبر؛ غد الخلود فى جنة النعيم،عندها فقط يكون جسدًا بروح ،يكون كيانًا واضح الملامح، معلوم الماهيّة تمامًا.
وأخيرًا، قدْ يأتينى الموت قبل أن أُخبركم عنه، وقدْ يأتيكم الموت قبل أن يصل إليكم خبره، قدْ اتعّظُ أنا به وتتعظون، وقدْ أجحده وتجحدون، فالنجدان لنا في شأنه من مراد الإله الرحمن، فمِنْ عزّة هذا الغدُّ أنّه دائماً وأبداً سابقنا وليس له خط نهاية، ولو افترضنا نهايته فنحن إذن عدم، ونحن لسنا عدم.