مدينة تندرج ضمن التراث العالمي الإنساني، وتضم أكبر مجال حضاري لا تلجه وسائل النقل الحديثة، وأكبر مدينة قديمة في العالم، وأول جامعة في الدنيا. مدينة اتخذها عاصمة الملوك الفاتحون، وسكنها العلماء والصالحون، وقصدها طلبة العلم والمفكرون، ووصف جمالها الشعراء والمادحون. إذا ذكر العلم فهي ساحته، وإذا ذكر التاريخ فهي بنته، وإذا ذكر العمران والفن فهي ملهمته، وإذا ذكر التعايش فهي حضنه، مدينة بهذه الأوصاف حري بها أن تبجل وتكرم، وأن يعرفها كل ذي عقل وفهم.
ابتدأ بناء مدينة فاس منذ سنة 172 هجرية، الموافق ل789 ميلادية بأمر من إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الذي فر من العباسيين، واستقر بالمغرب الأقصى حيث التف حوله سكانها عندما علموا أنه من سلالة النبي صلى الله عليه سلم، وأتم بنائها ابنه إدريس بن إدريس، كما عرفت زيادات هامة على يد سلاطين المغرب المتعاقبين على حكمه.
وتروي المصادر أنه لما عزم إدريس الابن على بنائها رفع يديه إلى السماء ودعا قائلا: “اللهم اجعلها دار علم وفقه يتلا بها كتابك، وتقام بها سنتك وحدودك، واجعل أهلها متمسكين بالسنة والجماعة ما أبقيتها” ثم قال: “بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين” ثم أخذ المعول بيده وابتدأ يحفر الأساس. فكانت مدينة فاس من أوائل الحواضر الإسلامية تشييدا في شمال إفريقيا، وسطع نجم المدينة منذ ذلك الحين فاستقطبت إليها الوفود والأهالي من شتى البقاع؛ حيث وفد إليها أهل القيروان من تونس واستوطنوا الجزء الشرقي منها فسمي بعدوة القرويين، ووفد إليها أهل الأندلس واستوطنوا الجزء الغربي فسمي عدوة الأندلس.
وهذا الاستقطاب الكبير للسكان هو ما جعل دور المدينة متلاصقة بعضها ببعض، وجعل أزقتها ضيقة، ذلك أن المدينة أحيطت أول الأمر بالأسوار، مما فرض على السكان البناء داخل الأسوار فاستغلت كل مساحة المدينة في البناء.
وكانت فاس عاصمة المغرب منذ تأسيس أول دولة إسلامية به (الدولة الإدريسية) وبقيت كذلك حتى بداية القرن العشرين، ولم تنازعها في تلك الصفة إلا مدينة مراكش.
وفيما يخص التسمية فقد ذكر في المصادر أن إدريس الابن كان يشارك العمال في حفر الأساسات بفأس من ذهب صنعه له بعض عماله، فسميت المدينة نسبة لذلك الفأس. وذكر أيضا أنه لما شرع العمال في البناء وجدوا فأسا كبيرا قديما، فسميت المدينة به وأضيفت إليه، وذكر كذلك أنه لما تم البناء قيل لإدريس الابن كيف تسمي المدينة؟ فقال أسميها باسم المدينة التي كانت قبلها في موضعها غير أنني أقلبه، وكان راهب قد أخبره عند بدء البناء أنه كان بهذا الموضع مدينة اسمها ساف.
أما جامع القرويين فشكل ولا زال معلمة فاس الأولى، وعنوانها الأبرز في العالم كله، والقلب النابض للمغرب، ومفخرة جميع المغاربة حتى قال فيه الدكتور المؤرخ عبد الهادي التازي: “وما المغرب إن لم يكن القرويين” جامع أدخل المدينة كتاب “Guinness” للأرقام القياسية كأول جامعة في العالم لا زال التدريس بها مستمرًا منذ تأسيسها سنة 857 م، على يد فاطمة الفهرية التونسية إلى يومنا هذا.
كان القرويين المركز الفكري والثقافي والعلمي الأول في الغرب الإسلامي لقرون مضت، حيث استقطب إليه – سواء للتعليم أو التعلم – كبار علماء المسلمين مغاربة ومشارقة وأندلسيين، فقد درّس فيه أبو عمران الفاسي فقيه عصره، وابن البناء المراكشي أشهر رياضي في زمانه، وابن العربي صاحب المؤلفات الغزيرة، وابن باجة وكان ممن نبغ في علوم كثيرة منها اللغة العربية والطب. كما زاره الشريف الإدريسي أبو الجغرافيا ومكث فيه مدة، وكذلك زاره الطبيب ابن زهر مرات عديدة، ودون النحوي ابن آجروم كتابه المعروف في النحو فيه. ومن العلماء الذين أقاموا بفاس ودرسوا بجامعتها ابن خلدون المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع، ولسان الدين بن الخطيب، وابن عربي الحكيم وابن مرزوق وغيرهم.
وبما أن الدراسة بالقرويين لم تقتصر على العلوم الشرعية، بل شملت كذلك العلوم التجريبية كالطب والفلك والرياضيات، فقد قصدها علماء من غير المسلمين، حيث درس فيها سيلفستر الثاني الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، ويقال أنه هو من أدخل بعد رجوعه إلى أوروبا الأعداد العربية. كما أن موسى بن ميمون الطبيب والفيلسوف اليهودي الذي كان يقول فيه اليهود “لم يأت في اليهود بعد موسى مثل موسى” قضى فيها بضع سنوات دارسًا ومدرسًا.
ولم تقتصر فاس على العلم والفكر والسياسة فقط، بل كانت كذلك من أهم وأنشط المراكز الصناعية والتجارية والاقتصادية في المغرب وإفريقيا، حتى أنها كانت من المدن الصناعية الأولى في العالم سنة 600 هجرية؛ حيث انتشرت بها مئات المعامل والمصانع (نسج الثياب، الجلد، الصباغة، تسبيك الحديد والنحاس، الورق، الفخار …)
ونظرًا لأهمية المدينة التاريخية دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وحضاريًا وعسكريًا، فقد ألفت في شأنها مئات الكتب والدراسات منذ القدم، سواء من المغاربة أوغيرهم. كما نظمت في وصفها قصائد شتى، وحظيت بشغف واهتمام المثقفين والعلماء والدارسين، ونالت منزلة متميزة في قلوب المسلمين حتى إن أهل السودان إذا ذكرت عندهم قالوا: “فاس فوق الراس”.