البيوت الدمشقية.. تواضع الظاهر وثراء الباطن

حرص المعماري الدمشقي على أن تكون البيوت راحة لأهليها وجنة لساكنيها، وسترًا من فضول الآخرين، وسكنًا من ضجيج العابرين.. فيها تتواصل الأجيال في واحة ود وعمل وعيش غنّاء صيفًا وشتاء. لذا تتميز بتوزيعها الداخلي، وتشكيل مساحات جميلة من الفراغ. تبدو متشابهة بسيطة متجردة، متواضعة من خارجها (مراعاةً لشعور الفقراء)، بينما تباينها الكبير وتمايزها الواضح وثراؤها الباهر، يظهر داخلها وكأنها تشي بوحدة الظاهر وثراء الباطن وبساطة المظهر وعمق الجوهر.

إنها شبه مغلقة فيما عدا شرفات متناثرة، ولا تبوح أبوابها -بأقواسها نصف الدائرية- بما تخفيه خلفها، كما تجبر عابريها (فرادى) على التواضع للمرور عبر باب صغير (الخوخة) مفتوح في جسد بابها الكبير (الزقاق). وحين تدق باب خوخة بمطرقته المعدنية (السقّاطة) يتولد إحساس بالألفة والحنو قبل الولوج. ثم مرور مفرد عبر دهليز ضيق معتم مرصوف بحجر، يُفضي فجأة إلى باحة سماوية كبيرة، وينقلب الشعور -بحبس الأنفاس- للمرور عبر ضيق الدهليز إلى سعة أرض الديار.

واحة غنّاء

تشرق الشمس في “أرض الديار” لتضيء ليس فقط ما بالداخل، بل ما حولها. وفيها بركة بنوافير مياه (وبخر المياه يُرطب المكان). ولا تخلو هذه الباحة من النباتات والخضرة، والأشجار المثمرة، وتوظيف ظلالها، حيث تنتشر أغراس الياسمين الدمشقي، والفل، والجوري، والقرنفل، واللبلاب المتسلق.. وتشخص أشجار الليمون، والنارنج الدمشقي، والتوت، والمشمش الهندي، ويوسف أفندي، وعرائش العنب الباسقة.. روضة عاطرة غنّاء تُغني عن الحدائق الخارجية. ويفيض البيت بالماء الوافر الجاري عبر أنابيب للماء العذب، وأخرى لغير الصالح.. بينما تزدان أرضيات وجدران أرض الديار بالأحجار -الأسود البازلتي، والوردي، وغيرهما- المزخرفة بزخارف نباتية وهندسية. ويعكس الرخام الملون رونقًا خاصًّا.

وفي هذا الفناء السماوي توضع أرائك ومقاعد مريحة، ومزخرفة.. كما يتناغم حفيف الأشجار وثمارها المدلاة، وعبق الياسمين، وألوان الأزاهير، مع صوت نوافير المياه ونسمات الهواء العليل، مما يبعث على الهدوء والاسترخاء، وراحة البال. وفي هذا الصحن كثيرًا ما يجتمع الأهل والأقارب والأصدقاء في السهرات الصيفية، والحفلات العائلية.

تناغم داخلي

كالأسوار تحيط بأرض الديار أجزاء البيت المكون غالبًا من طابقين؛ ففي صدارتها تظهر غرفة الضيوف (القاعة)، بينما على أطرافها أبواب غرف النوم واسمها “مربع”، إذ لكل فرد من العائلة مربعه الخاص. ويقع في جهتها الرابعة الإيوان (الليوان). تتألف القاعة من جناحين أو ثلاثة (طزر)، ويتألق خشبُ سقفها (الحلقة) وحيطانها بالزخرفة الرائعة. وقد تمتد تلك الزخارف لتكسو الأركان بالسراويل، وقد تحتوي القاعة على بحرة صغيرة تسمى “الفستئية”.

وغرف الطابق الأرضي عادة، أعلى من مستوى فناء البيت، لتفادي تيارات الهواء البارد المتسربة من الأماكن المنخفضة، بينما يخصص الطابق العلوي للنوم، وتطل جميع الغرف على الفناء. أما الإيوان فغرفه دون جدار رابع، مرتفعة عن مستوى أرض الفناء بنحو 40 سم، وله قنطرة “تاج الإيوان” مزينة بأطر من أحجار منها الأبلق (مزخرف هندسيًّا بالحفر عليه)، يعلو سقفه زخارف خشبية ملونة. كما يحتوي الإيوان على قاعتين أو ديوانين، على يمينه باب لغرفة السفرة (مربع الأكل)، وبها طاولة خشبية منخفضة، وكراسي (قش) منخفضة الارتفاع كذلك. ويوجد في الإيوان درج يُفضي للطابق الثاني. كما يحوي درجًا للقبو (بيت المونة) لتخزين المؤن الغذائية السنوية.

تبدو على جانبي الإيوان فتحات جدارية (كوى أو مشاكي)؛ محاريب صغيرة لوضع الشمعدانات وقناديل الكاز (المصباح النحاسي القديم). كما توجد في جدر الغرف والدواوين فجوات ذات رفوف لوضع الكتب (الكتبية)، وأخرى ذات درفتين من الخشب أو الزجاج مخصصة لوضع التحف الثمينة.

سحر السكن ودفء المكان

غالبًا ما تضم البيوت الدمشقية عائلات كبيرة ممتدة، حيث يتواصل العطاء الأسري، ويمتد النهج التربوي وتبادل الخبرات والمهارات بين كافة أفرادها. لذا إنه بيت مصمم لتيسير كافة الأعمال اليومية مع حق جميع أفرادها في صون خصوصياتهم.

يحلو للبعض تقسيم البيت لقسمين، أحدهما للضيوف الرجال (السلامْلِك)، والثاني للنساء (الحرَمْلِك)، وكلاهما يحتوي على فناء داخلي تحيط به غرف وقاعات. يضم السلاملك المدخل (لا يتيح النظر إلى الباحة الرئيسة)، وجزء آخر هو الباحة الرئيسة للبيت (أرض الديار)، ويشمل الحرملك أرض الديار والنافورة والأشجار، ويتصل مباشرة بالمطبخ.

ولغرف الدار دكات وعتبات؛ تفرش الدكات أولاً بالحصير ثم فوقه الطنافس والبُسط، وعلى أطرافها توضع المقاعد الطواطي ومساندها المغلفة بنسيج موشى دمشقي يسمى “الدامسكو”. وهو نسيج مخملي أو صوفي أوقطني منقوش.

وفي الطابق العلوي منشر الغسيل (المشرفة)، وهو شبيه بالفسحة السماوية. وأعلى هذا الطابق غرفة واحدة تسمى “الطيارة”. وفي الأسطح، يفصل ملكية البناء جدار خفيف (الطبلة) مصنوع على نموذج البغدادى؛ ومكسو باللبن الطابوق أو الكلس العربي. وفي المطبخ المدخنة، والموقد، وخزائن الحبوب، ويوجد أسفل الدرج أو الجدران الداكونة أو الخرستانة.

أما وسيلة تدفئة البيت القديم فهي الموقد الحديدي أو النحاسي الذي يملأ فحمًا، ويوقد خارج البيت ليتطاير منه الغاز ثم يُحمل إلى الغرفة ليملأها دفئًا.

مشاريع اقتصادية وثقافية وتراثية

بيوت عتيقة، إحدى “أساطير الشرق الساحر”، مقصد سياحي وثقافي وتاريخي مُقدر، سجلتها منظمة “اليونسكو” ضمن التراث الإنساني. في هذا يبرز بيت جبري، وبيت الخوالي، وبيت الوالي، وبيت نظام، ومكتب عنبر، وبيت خالد العظم، وبيت العقاد، وبيت السباعي، وبيت القوتلي، وبيت الطيبي، ومنزل سيدي حميد.. لذا تنامى ترميم وتحويل بعضها إلى مطاعم ومقاهي كبيت جبري، ومطعم الخوالي.. ليجد فيها مرتادوها مأكولات ومشروبات دمشقية وغربية. فمع المحافظة على أصالتها وتقسيمها المميز تم تحويل باحاتها وأواوينها إلى أماكن لجلوس الزبائن، ليتناولوا ما لذّ وطاب، مع صوت خرير المياه والنوافير، والنسيم المعطر برائحة الياسمين الدمشقي الشهير.

يعتبر “بيت جبري” من أشهرها (شُيد عام 1737م)، ومكّون من طابقين و23 غرفة مع البهو الرئيس، وتضيف بركة مائه ونافورتها والإيوان، لمسات سحرية. أما مطعم الخوالي فرمم عام 1867م، وأعيد ترميمه ما بين 2000 – 2003م، وسكنته عائلة “كبور” وحولته إلى مطعم. كما حول البعض بيوتهم -خاصة الطوابق العليا منها- لصالونات للندوات الثقافية والموسيقية، وصالات عرض للكتب المستعملة، ومعارض فنية وتشكيلية، بينما أصبحت بيوتًا أخرى، مكانًا مفضلاً لتصوير المسلسلات التلفزيونية.

أما “بيت الوالي” فأحد المنشآت (الفندقية) التي تجاوزت حدود البيت الدمشقي الواحد، لتجمع ثلاث بيوت مفتوحة على بعضها البعض، متشابهة ومتميزة في آن؛ فلكل فسحته السماوية، والبحرة الخاصة به، والغرف المحيطة به.

وهناك “بيت نظام” (بني عام 1772م) متميز بقاعته الرئيسة، ويحتوي ثروة كبيرة من الزخارف والطرز المعمارية الفريدة. أما “مكتب عنبر” (أقيم للسكن عام 1876م)، فقد تحول إلى دار للتعليم، ومقر لقصر الثقافة العربية، ويعد آبدة من أوابد دمشق، وأمجاده ما زالت حاضرة في كل زاوياه، فريد في عناصر عمارته، وزخرفته، وأعمدته الرشيقة، ورسوم جدرانه الفسيفسائية. وهو منبر من منابر العلم والفكر، إذ درس فيه مجموعة من أعلام دمشق، مثل “شكري الشربجي”، و”عبد القادر مبارك”، و”محمد البزم”، وغيرهم.

وفي سوق ساروجة يقع “بيت خالد العظم”، وتبلغ مساحته 3136 مترًا مربعًا، مبني بالحجر واللبن والخشب، وله مدخلان شمالي وجنوبي، ويُعرف الآن بـمتحف “التوثيق التاريخي” لدمشق القديمة، كما يعرض في قاعاته الستة صورًا عن الحياة الاجتماعية التي عاشها سكانه وأهل دمشق عمومًا. وقد شُيد في الفترة العثمانية (خلال القرن الثامن عشر)، وتم افتتاحه متحفًا عام 1980م، وقد أُلحقت به مديرية المباني التاريخية.

أما السفارة الدنماركية فاختارت بيت “العقاد” (في سوق الصوف الدمشقي القديم) كمعهد ثقافي لها، واستمرت في أعمال ترميمه لسبع سنين، ومن ثم استثمرته لمدة خمسين عامًا، وأثناء الترميم وجد أسفله بقايا المسرح الروماني الذي بناه هرقل الأول حوالي 100 ق.م، إضافة إلى أن حائط الإيوان فيه فريد ونادر كونه يعود لنهاية العصر المملوكي (حوالي 1470م).

تعج دمشق بالمآثر التاريخية التي تحكيها أبوابها وقبابها ومآذنها وخاناتها وحماماتها وبيوتها المرصعة بالفسيفساء والموزاييك. وعندما يجتمع الزمان والمكان، ويتعانق عبق التاريخ مع عطر الياسمين الدمشقي، فيرويان قصتها كمدينة عريقة في الحضارة والعمران. فبيوتها القديمة الرائعة ذات العمارة الفريدة المتفردة، معمار يعكس تحضرًا جميلاً، وعمارة مادية لا تجدي بمعزل من عمارة معنوية تغذي القيم والمشاعر والفكر في آن واحد.

سيبقي البيت الدمشقي مأثرة من مآثر العمارة العربية الإسلامية الأصيلة.. متحف مفتوح على كثير من ملامح فنونها الخالدة. فقد بلغ هذا الفن مبلغًا في التعمير المكاني، والإبداع الجمالي، والتوزيع الوظيفي. فضل تركه الأجداد دينًا في رقاب الأحفاد ليرفدوه بكل ما يحقق استمراريته، وتبقي البيوت الدمشقية العتيقة سحر وسر واجتماع ومودة وبهجة ومسرة.

(*) كاتب وباحث مصري.