تنسب الكتابة البارزة لتعليم القراءة والكتابة للعميان في العصر الحديث، إلى الفرنسي “لويس برايل” (1809-1852م)، والتي عرفت في الأوساط العلمية بطريقة “برايل”، إلا أن حقائق التاريخ تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك؛ بأنْ كانت هناك محاولات رائدة لعلماء مسلمين في اختراع الكتابة البارزة للعميان سبقت برايل بقرون طويلة. ونتناول عبر هذه السطور، أشهر هذه المحاولات التي تؤكد على سبق وريادة العلماء المسلمين في هذا المجال الهام.
ابن كشاجم
وأولى هذه المحاولات ترجع إلى القرن الرابع الهجري، وكانت على يد أحمد بن محمود بن الحسين بن أبي الفتح كشاجم، وكلمة “كشاجم” منحوت فيما يقال من علوم كان يتقنها، الكاف للكتابة والشين للشعر، والألف للإنشاء، والجيم للجدل، والميم للمنطق، وقيل لأنه كان كاتبًا شاعرًا أديبًا جميلاً.. ومما ذكر عنه فيما يخص القراءة والكتابة للمكفوفين، ما عثر عليه في مخطوط يؤكد على أن ابن كشاجم كان يقرأ فص الخاتم باللمس دون الرؤية، وذلك قبل اختراع قراءة العميان بألف سنة”.
علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر
أما المحاولة الثانية، فكانت على يد العالم علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر. ومما ورد في ترجمته، أنه كان شيخًا مليحًا وهيبًا صالحًا ثقة صدوقًا كبير القدر والسن.. أصيب في أوائل حياته بفقدان البصر، ورغم ذلك احترف مهنة بيع الكتب واقتنائها، ولكي يعرف عناوين هذه الكتب وأسماء مؤلفيها وأثمانها، اخترع طريقة الكتابة البارزة لهذه العناوين وتلك الأسماء والأسعار، ويحدثنا الصفدي في كتابه “نكت الهميان في نكت العميان”، عن الطريقة التي اخترعها في القراءة وتميز الأشياء بعضها عن بعض فيقول: إنه كان إذا طلب منه كتاب وكان يعلم أنه عنده، نهض إلى خزانة كتبه واستخرجه من بينها كأنه قد وضعه لساعته، وإن كان الكتاب عدة مجلدات وطلب منه الأول -مثلاً- أو الثاني أو الثالث أو غير ذلك، أخرجه بعينه وأتى به. كان يلمس الكتاب أولاً، ثم يقول يشتمل هذا الكتاب على كذا وكذا كراسة، فيكون الأمر كما قال.. وإذا مر بيده على الصفحة، قال أسطر هذه الصفحة كذا وكذا سطرًا، فيها بالقلم الغليظ كذا، وهذا الموضع كتب به في الوجهة وفيها بالحمرة هذا وهذه المواضع كتبت فيها بالحمرة.. وإن اتفق أنها كتبت بخطين أو ثلاثة، قال اختلف الخط من هنا إلى هنا من غير إخلال بشيء مما يمتحن به. ويعرف أثمان جميع كتبه التي اقتناها بالشراء، وذلك أنه كان إذا اشترى أي كتاب بشيء معلوم، أخذ قطعة ورق خفيفة، وفتل منها فتيلة لطيفة وصنعها حرفًا أو أكثر من حروف الهجاء لعدد ثمن الكتاب بحساب الجمل، ثم يلصق ذلك على طرف جلد الكتاب من داخل ويلصق فوقه ورقة بقدر لتتأبد، فإذا شذ من ذهنه ثمن كتاب ما من كتبه، مس الموضع الذي علمه في ذلك بيده، فيعرف ثمنه من تثبيت العدد الملصق فيه”.
ونلمس من خلال هذا الكلام، أن علي بن أحمد بن يوسف بن الخضر، كان آية عجيبة بين العميان، وكانت له قوة عجيبة في اللمس.. وبذلك يكون من أوائل العلماء الذين فكروا في إيجاد تلك الطريقة النافرة في الخط، ليتمكن العميان والمكفوفين بواسطتها من القراءة بصورة مبسطة وسهلة.
أحمد بن محمد بن عبد الوراث الأندلسي
أما المحاولة الثالثة، فقد كانت في أواخر القرن الثالث عشر الميلادي، وهي لعالم أندلسي يدعى أحمد بن محمد بن عبد الوراث، وقد كشف عن ذلك العلامة ابن حزم الأندلسي في كتابه “التقريب لحد المنطق”؛ فقد جاء ما نصه: أخبرني مؤدبي ابن عبد الوراث -رحمه الله- أن أباه ولد له ولد أعمي، فأراد أن يعلمه القراءة، فصور له حروف الهجاء من مادة القير بشكل بارز، وألمسه أياها، حتى وقف على صورها بعقله وحسه، ثم ألمسه تراكيبها وقيام الأشياء منها، حتى يتشكل الخط ويقرأ بنفسه، وهو بذلك رفع عنه غصة عظيمة.
ونلمس من خلال ما أورده ابن حزم عن هذه الطريقة التي ابتكرها ابن عبد الوراث في عصره، كيف أن صاحبها كان صاحب أفق واسع في اختراع هذه الطريقة التي أخذت بها معاهد تعاليم المكفوفين في العصر الحديث، التي كانت تعتمد أساسًا في تعليم القراءة والكتابة على لمس حروف كبيرة مصنوعة من المعدن، الأمر الذي يؤكد السبق والريادة لعالمنا.
لعلنا هنا نكون قد ساهمنا في إماطة اللثام، على جانب مجهول من عطاءات علماء المسلمين في مجال الكتابة والقراءة للمكفوفين، الأمر الذي يؤكد على أنه كان لهم السبق في اختراع الكتابة البارزة، قبل الفرنسي “برايل” بقرون طويلة، ولعل الأيام تجود علينا بمثل هؤلاء العلماء الأفذاذ، فيحملون للعالم من جديد مشاعل العلم والحضارة، كما حملها أجدادهم من قبل.
(*) كاتب وباحث مصري.