إن الإبداع فاعلية إنسانية، وخلق يتغيا تجاوز المعتاد وتخطي ما هو مألوف وسائد، بهدف إنتاج صور ورموز وأفكار مغايرة، واستشراف آفاق جديدة تبرهن على الملكة الخلاقة لدى الإنسان ككائن عملي يسعى دوما إلى تغيير واقعه، وصياغة علاقات أكثر ملاءمة لطموحاته في الحرية والعدالة والتقدم. ولعل هذه الرغبة العارمة في الإبداع التي تتملك الإنسان منذ بداياته، هي التي كانت الحافز القوي وراء صنع أشكال الحضارة والتقدم التي عرفتها كل المجتمعات الإنسانية. وهي التي تحفز على مختلف أشكال التعبير، لإنتاج ثقافة تعطي لعلاقات الناس فيما بينهم وبين واقعهم المادي والاجتماعي تلك الأبعاد السامية والمثالية التي تجعل الحياة قابلة لأن تعاش.
إن الإبداع رهين بمجموعة من الشروط الذاتية والمجتمعية التي توفر إمكانات الظهور والتحقق في العملية الإبداعية، إذ يتجلى تركيب خلاق بين الذاتي والموضوعي، بين ما هو موجود وما هو ممكن، بين الحاضر والمستقبل.. والإبداع بالتالي جدل متوتر لا يتحقق إلا ضمن سياق صراعي بين قوى المحافظة والاجترار، أو قوى التجاوز والتقدم.
ولقد شهد النصف الأول من القرن العشرين، الاهتمام بالذكاء وتحليله وتعريفه ودراسته، أما النصف الثاني منه فقد تميز بالاهتمام بالإبداع والمبدعين، وكانت ذروة المخترعات القنبلة الذرية وما تلاها من أسلحة للدمار هائلة. ثم إن حلول السلام لم تكن سلامًا بالمعنى الصحيح للكلمة؛ زج بالعالم في حمأة الحرب الباردة التي تطلبت جهودًا في مجال الاختراع والإبداع. ومن هنا كان الطلب المتزايد، على الأدمغة المخترعة التي لم يتوفر منها قط ما تحتاجه الأمم المشتركة في هذه الحروب الباردة والساخنة.
ثم بدأ عصر الفضاء، وتصاعد السباق بين العملاقين الكبيرين أمريكا والاتحاد السوفيتي، وكانت الصواريخ وغزو الفضاء والأدمغة الإلكترونية وسواها، وكان من جراء ذلك الطلب المتزايد على الأدمغة المبدعة، وبالتالي الإلحاح على علماء النفس في الكشف عن هذه الأدمغة، وتحديد معنى الإبداع ومكوناته وطرائق تكوينه.. ومن ثم كانت مطالبة الأمم لمربيها ومدارسها بتهئية أكبر عدد ممكن من المبدعين والمخترعين. ولقد كان من أهم الطرائق التي اتبعت في دراسة الإبداع وعوامله وعلاقته بالذكاء، طريقة التحليل العاملي Factorial Analysis على يد فريق من العلماء يرأسه العالم الشهير جلفورد، وذلك في جامعة كاليفورنيا الجنوبية.
لقد انطلقت هذه الدراسات من التنكر للنظرية السائدة عن الذكاء وعن قابلية واحدة موحدة، كما تنكرت للاعتقاد بأن المواهب المبدعة أمور خارجة عن نطاق الذكاء، وبدأت بافتراض أن ثمة عدة قابليات ممكنة التميز يشتمل عليها الإبداع، وافترضت كذلك أن المواهب الإبداعية ليست وقفًا على عدد قليل من الأفراد المحظوظين، وأنها ربما كانت موزعة على جميع الناس وبدرجات متفاوتة، ولذلك فإن من الممكن البحث عنها، ليس عند الموهوبين وحدهم، وإنما عند الناس جميعًا.
وفي بحوثه الباكرة عن الإبداع حاول جلفورد أن يعرّف الإبداع تعريفًا بسيطًا فقال: “إن الإبداع بمعناه الضيق يشير إلى القدرات التي تكون مميزة للأشخاص المبدعين، فالقدرات الإبداعية تحدد ما إذا كان الفرد يملك القدرة على إظهار السلوك الإبداعي إلى درجة ملحوظة، ويتجلى الإبداع من خلال السلوك، ويشمل السلوك الإبداعي الاختراع والتصميم والاستنباط والتأليف والتخطيط.. والأشخاص الذين يظهرون مثل هذه الأنواع من السلوك وبدرجة واضحة، هم الذين يوصفون بالمبدعين”.
إن الإبداع رهين بمجموعة من الشروط الذاتية والمجتمعية التي توفر إمكانات الظهور والتحقق في العملية الإبداعية، إذ يتجلى تركيب خلاق بين الذاتي والموضوعي، بين ما هو موجود وما هو ممكن، بين الحاضر والمستقبل.
ويرى جلفورد أن أهم القدرات الأولية التي تساهم في الجهود الإبداعية:
1- الإحساس بالمشكلات: إن قسمًا كبيرًا من نجاح العالم يتوقف على قدرته طرحَ الأسئلة الصحيحة والمناسبة.
2- الطلاقة (Fluency) في الموهبة الإبداعية: فالمبدع يكون صاحب حظ كبير في إيجاد أفكار ذات معنى، وتوجد ثلاثة عوامل متميزة للطلاقة، وهي الطلاقة الفكرية، والطلاقة الترابطية، والطلاقة التعبيرية.
3-المرونة (Flexibility): إن مرونة نفس الفرد أو سهولة تغييره لتهيئة النفس.
4- التجديد: يملك الإنسان المبدع أفكارًا جديدة متجددة.
الإبداع والعبقرية
فالمبدعون الذين قدموا إسهامات خالدة للثقافة الإنسانية، سواء أكانوا علماء أو فلاسفة أو كتابًا أو مؤلفين موسيقيين أو فنانين، هم من يقومون بصياغة الحضارة الإنسانية ويعملون على تقدمها ورقيها من أمثال أينشتاين، وجويس، وسترافنسكي، وابن النفيس،وابن الهيثم، والبيروني، والرازي، وابن سينا، وكبلر، وجاليليو، وبيكاسو، قد تركوا تأثيرًا دائمًا على أفكار عدد لا حصر له من الرجال والنساء وأحاسيسهم.
إن هؤلاء الأفراد البارزين من المبدعين يشتركون في امتلاكهم لخاصية العبقرية، وقد أدرك هذا منذ وقت مبكر “فرانسيس غالتن” في كتابه المعروف “العبقرية الوراثية” (Herediitary Genius) عام 1869م، وهو الكتاب الذي حاول فيه غالتن أن يضع أساسًا وراثيًا للإنجاز المتميز.
وقد كانت الأمثلة التي طرحها حول العبقرية تتضمن قادة مثل “دوق ولنغتن Wellington، ووليم بت William Pitt، فضلاً عن مبدعين من أمثال عائلة باخ وعائلة شليجل، كما قامت “كاترين كوكس” بعد ذلك بأكثر من نصف قرن باقتفاء أثر غالتن، فأصدرت مجلدًا كان له تأثيره الواضح بعد ذلك بعنوان “الخصائص العقلية المبكرة لثلاثمائة من العباقرة” عام 1936م، واشتملت على عينة من عباقرة التاريخ في دراستها مثل نابليون، وكرومويل، وبوليفار، فضلاً عن فولتير، ونيوتن، وسرفانتس، وقد اعتقد كل من غالتين وكوكس أنه يمكن تجميع الأنماط الموجودة من المبدعين والقادة تحت اسم شامل وهو العبقرية.
وطريقة التعرف على العبقرية بالتمعن في تلك الإنجازات التي كان لها تأثير نادر الحدوث على الأجيال المعاصرة والتالية لها. ولابد في الغالب أن يكتسب الشخص الشهرة من خلال تقديم هذه العبقرية لإسهامات تبقى على مر الزمن في نواحي النشاطات الثقافية والسياسية، أي أن العبقرية تعرف بالإنجاز. فالمبدعون قادة ثقافيون، وقد كان لأفكار أينشتاين النظرية تأثيرها البالغ على زملائه من علماء الطبيعة، وعلى المجتمع العلمي بشكل عام، كذلك كان تأثير بيتهوفن على الموسيقى، ومايكل أنجلو على النحت، وشكسبير على الدراما تأثيرًا فذًًًا في زمانهم هم، وفى الأجيال التالية لهم.
ومن شبه المؤكد أنه ليس هناك علاقة إضطرادية بين النجاح الدراسي وظهور العبقرية أو الوصول إلى مراحل الإبداع العليا، ووفقا لما قاله واحد من أبرز أساتذة أينشتاين في معهد زيورخ للبوليتكنيك (معهد العلوم التطبيقية أو الفنية) وهو “هرمان ميتكوفسكي” فقد “كان أينشتاين خلال سنوات تلمذته كائنًا كسولاً، ولم يكن يهتم بالرياضيات أبدًا”.
وربما لم يكن أينشتاين ليتخرج فعلاً لو لم يصادق تلميذًا نابهًا في فصله هو “مارسيل جروسمان” الذي كان يكتب مذكرات دقيقة خاصة بالمحاضرات ويسمح لأينشتاين بحشو ذهنه بما يريد منها من أجل الامتحانات. لقد استخدم أينشتاين الساعات المنتزعة في وقت فراغه كي يدرس ويتعلم ويفكر حول القضايا الكبرى غير المحلولة في علم الفيزياء.
وقد كان ما لا يقل عن نصف الأشخاص المشهورين الذين قام “آل غورتسل” بدراستهم من القراء النهمين منذ وقوت مبكر، واستمر حبهم للقراءة خلال سنوات رشدهم. وقد أظهرت الدراسات حول المراهقين المبدعين أنهم يميلون إلى أن يقرأوا أكثر من خمسين كتابًا كل سنة، إن سعة الاطلاع ليست تسلية غير ضرورية، وإن الشهرة المتحققة لهؤلاء الأفراد في عينة “آل غورتسل” ترتبط بطريقة إيجابية مع كونهم من القراء النهمين.
هذه العلاقة لا تدعو إلى الدهشة، فالبحوث حول الشخصية المبدعة غالبًا ما تشير إلى أهمية الاهتمامات العريضة، وسعة الأفق، وإلى الحاجة إلى الجدة، والتنوع والتركيب. فالابتكار يعتمد على القدرة على رؤية العلاقات بين الأفكار والأساليب التي لم يتنبه أحد إلى وجودها من قبل، ثم القيام بصهر هذه الأفكار والأساليب في مركب جديد.
فقد قام أينشتاين بدمج التطورات الأخيرة في الرياضيات، مع ميكانيكا جاليليو، وعلم الفلك لدى كبلر، في بنية واحدة متسعة النطاق. كذلك كان على أينشتاين من أجل التوصل إلى البنية التي سماها النظرية النسبية الخاصة، أن يغوص في موضوعين كان يظن أنهما غير مرتبطين، نظرية ماكسويل حول المغناطيسية الكهربية، ونظرية نيوتن حول الميكانيكا. لقد كانت محاولة أينشتاين للمزج بين ما اعتبره علماء الفيزياء الآخرون في زمنه فرعين منفصلين تماما شيئًا يتفق ونمط الإبداع.
الإبداع أو التهميش
ونحن بدورنا نجد أن الإبداع الآن صار عملاً مؤسساتيًا، بعد أن تأسست كثير من المراكز العلمية والبحثية في جميع أنحاء العالم، خاصة في الدول المتقدمة، وتسود الآن الخطط الاستراتيجية والمستقبلية لإنجاز الأبحاث العلمية التي تمول من قبل المجتمعات المتقدمة في ظل مشاريع بحثية بالغة الخطورة، مثل تلك التي تم إنجازها فيما يخص المكونات الوراثية للخلية أو فك شفرة الجينات البشرية، والتى استغرقت أكثر من خمسة عشر عامًا، بفضل تضافر الجهود العلمية من آلاف العلماء في مختلف أنحاء العالم، وسوف يساعد هذا المشروع في معرفة وعلاج عشرات من الأمراض المستعصية في المستقبل القريب. وهذا قد أحدث ثورة علمية بيولوجية في مجال الهندسة الوراثية وعلوم البيولوجيا والطب. وما كان لهذا أن يتحقق لو ترك لاجتهاد بعض الأفراد، ونعتقد أن البشرية بفضل هذه الجهود الجماعية، سوف تصل إلى علاج العديد من الأمراض الخطيرة والمستعصية في السنوات الأخيرة مثل كثير من أنواع السرطان وكذلك مرض الإيدز.
ومن هذا يتضح أن الإبداع مشروط أيضًا بالبيئة الاجتماعية بما تهيأ من فرص ومن ظروف مناسبة وتشجيع. فالمجتمع يكون مصدرًا للإبداع وتتفتح القدرات الإبداعية بما يملكه من ثراء مادي ومعنوي، وبما ييسره أمام أفراده من التسهيلات ومن تقبل للجديد ورعايته. وقد يكون الأمر مخالفًا لذلك حيث يبدو المجتمع مثبطًا للهمم، ساخرًا من الجديد، مضيقًا على المبتكرين والمجددين، وائدًا لكل فكرة وسلوك لا يتفقان مع ما استقرت لديه من الأفكار والعادات والتقاليد.
فإن من المطلوب الانتباه إلى أمرين مهمين .
من الأهمية بمكان أن يكون الإبداع الوطني العام متصلاً بالأحوال والظروف والإمكانات الخارجية، في نفس الوقت الذي هو فيه امتداد طبيعي خلاق لإبداعات “الفرد الفعال”، المنخرط في فرق عمل تتشابك في “إطار مؤسسي” وفي علاقات “غير مؤسسية”
الأمر الأول هو أن ممارسة الإبداع -باعتباره حاجة وضرورة- قد ارتقت إلى الدرجة التي صار معها الإبداع يقترب في أهميته من أن يكون “حقًّا إنسانيًا” أي حق من حقوق الإنسان، تماما مثل الحق في الطعام والشراب والمسكن والعلاج وإبداء الرأي ..، وأما الأمر الثاني فهو أن دورة حياة الإنسان في معظم البلدان النامية تنتهي دون ممارسة الإبداع.
المسألة إذن أن إنسان هذه المنطقة من العالم (الإنسان العربي) يعد في مأزق بالنسبة للتعامل مع الإبداع، فبينما الإبداع آلية حياة في العالم الغربي الآن، نجد الإنسان العربي -بوجه عام- يمر بمرحلة حياته إلى نهايتها دون الاقتراب الصحيح من هذه الآلية، أي دون ممارستها ودون أن يفعِّل حياته بها، ودون أن يتفاعل مع الحياة المحيطة به (في الشارع ـ في العمل ـ في المجتمع) من خلالها. وإذا كان الإبداع هو عمل يساهم من خلاله الإنسان في إحداث شيء (أو تغيير) مفيد لم يكن موجودًا من قبل (سواء هو منتج أو خدمة أو رأي أو أداء أو استشراف…إلخ)، فإن معنى انتهاء دورة حياة الإنسان دون ممارسة الإبداع، هو أن الإنسان تنتهي حياته دون أن تنطلق الشحنات والإمكانيات التغييرية التجديدية الرابضة داخله، أو دون أن تكتمل إنسانيته، والنتيجة الطبيعية لتخلف الإنسان عن ممارسة “حق” و”اجب” الإبداع هي تخلف بيئته سواء كانت هذه البيئة على مستوى دقيق (مثل الأسرة)، أو على مستوى متوسط (مثل المؤسسة) أو على مستوى كبير (مثل المجتمع أو الدولة).
ولذلك من الأهمية بمكان أن يكون الإبداع الوطني العام متصلاً بالأحوال والظروف والإمكانات الخارجية، في نفس الوقت الذي هو فيه امتداد طبيعي خلاق لإبداعات “الفرد الفعال”، المنخرط في فرق عمل تتشابك في “إطار مؤسسي” وفي علاقات “غير مؤسسية”، إنه اقتصاد المعرفة القائم على الاستخدامات المثلى للمعلوماتية (Informatics) والتشبيكية (Networking) أو ما يسمى بالرقمية (Digitalisation) أو القائم على مفاهيم الاقتصاد الرقمي.
(*) رئيس قسم الفلسفة والاجتماع، كلية التربية، جامعة عين شمس / مصر.