تتعدد في القرآن الكريم الآيات التي تدل على الاختلاف في الأنفس والأديان والملل والنحل والمدارك، فقد اقتضت مشيئة الرحمان أن يخلق الناس مختلفين متباينين في أفهامهم وثقاتهم وعرقهم ودينهم، وهذا الاختلاف باق إلى يوم الدين.
فالاختلاف حسب الرؤية القرآنية لا يتناقض مع الوحدة الإنسانية وهو حق من الحقوق التي كفلها الإسلام وعدها من القوانين الطبيعية، وجعل من الرحمة والعدل والتسامح والتعايش والحوار… مبادئ تنظم التعامل مع المخالف، وسبلاً للبحث عن المشترك الإنساني. فالاختلاف بهذا المعنى لا يقتضي الصراع والنزاع والشقاق بل يقتضي التعارف المفضي إلى العمران البشري عن طريق تنويع الإنتاج الإنساني والسعي إلى بناء مجتمع إنساني واحد، والارتقاء بالأسرة الإنسانية عن طريق إعمار الأرض والقيام بأمانة الاستخلاف.
في هذا السياق جاء الكتاب ليؤكد على شرعية الاختلاف في الإسلام ويقدم مقاربة فكرية ومنهجية مؤطرة بدلائل من القرآن والسنة والتاريخ الإسلامي وتدريب عملي ميداني لتنزيل تلك المقاربة.
لقد كتب العديد من المفكرين في سنة الاختلاف وكيفية تدبيره من أمثال طه جابر العلواني في كتابه “أدب الاختلاف في الإسلام”، أو طه عبد الرحمان في كتابه “الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري”، و كتابه “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي”، أو عبد الله البطليوسي في كتابه “الإنصاف في أسباب الاختلاف”، أو علي أومليل في كتابه “في شرعية الاختلاف”، أو عباس الجيراري في كتابه “الحوار من منظور إسلامي” ، أو علي القريشي في كتابه “المسلمون والآخر، حوار لا صدام”، إلا أن هذا الدليل يختلف عن الكتابات السابقة “فيأخذ من كل ما سبق زبدته” و”يركز على زوايا جديدة تتعلق بطبيعة المفهوم وعلاقته بمنظومة القيم التي يدور في فلكها والفوائد العلمية والتربوية المكتسبة من ترسيخ هذه القيم الناتجة عن حسن تدبير الاختلاف في حياتنا المعاصرة، ثم بيان الطرق العملية للتربية على قيم ومهارات تدبير الاختلاف من خلال تصميم وتنفيذ دورات تدريبية. مما يجعل المتدرب مؤهلا للمشاركة في ترسيخ المفهوم الصحيح لتدبير الاختلاف والقيم المرتبطة به في محيطه الاجتماعي والثقافي، وهي القيمة المضافة التي يحملها هذا الدليل.”[1]
توصيف الكتاب
عمد الدكتور إلى تقسيم الدليل إلى قسمين، قسم نظري وآخر عملي تطبيقي. أما القسم النظري فقد ركز فيه الحديث عن قيمة الاختلاف في علاقتها بالجوانب الثلاث المكونة للشخصية:
– الجانب المعرفي: المتعلق بمفهوم الاختلاف والحكمة منه ومجالاته استنادا إلى مصادر الوحي ومقاصد الشريعة الإسلامية.
– الجانب القيمي: المتعلق بمنظومة القيم الحاكمة التي ينبغي ترسيخها في المجتمع ضمانا لحسن تدبير الاختلاف.
– الجانب المهاري: المتعلق بقواعد وآليات ومهارات تدبير الاختلاف وفوائدها.
أما الشق التطبيقي فهو عبارة عن بطاقات تأطيرية لدورات تدريبية في ستة محاور يشكل كل واحد منها دورة تدريبية مستقلة في سياق متكامل.
بخصوص الإطار النظري، فقد قسمه الدكتور إلى خمسة محاور، تحدث في المحور الأول عن مفهوم الاختلاف مؤكدا أن هذا المصطلح استخدم في القرآن الكريم على ضربين:
اختلاف جبلي فطري طبيعي، وآخر غير طبيعي.
– الاختلاف في الخلقة الذي يكون بين الناس في العرق واللون واللغة.
– الاختلاف في الدين والمعتقد فكل كافر ومؤمن في نفس الوقت.
– الاختلاف في الرأي في القضايا الاجتهادية.
أما الثاني (الاختلاف غير الطبيعي)، فهو يناقض السنن الكونية وما تقتضيه من رحمة ودافعه الهوى والتسلط والتشهي.
وتطرق الدكتور في المحور الثاني للحديث عن القيم الحاكمة لتدبير الاختلاف
فبعد تأكيده بأن كل الكتب السماوية رسمت للإنسان الطريق نحو الحق بحسن تدبير الاختلاف وبترسيخ قيم الحوار وحسن الجوار والمجادلة بالتي هي أحسن والدعوة إلى مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، كشف اللثام عما جاء به الإسلام من قيم داعمة للاختلاف الطبيعي.
لقد رسم القرآن الكريم (حسب الدكتور) نسقين مختلفين في بيان منهجية تدبير الاختلاف:
أ- نسق ترسيخ القيم الداعمة للاختلاف الطبيعي: التي تجعل من التعامل بالحسنى السبيل لاستمرار العمران والحفاظ على وحدة الإنسانية وتقوية لحمة القيم المشتركة، وأهم هذه القيم:
-الدعوة إلى الإقرار بقيمة الحرية وقبول الاختلاف سواء في الخلقة أو في المعتقد أو في الرأي. وهذا ما مارسته الحضارة الإسلامية في المدينة المنورة أو في الأندلس أو في باقي الأمصار وفي معاهدات النبي صلى الله عليه وسلم ورسالاته إلى ملوك عصره، فلم يحرمهم من خصوصياتهم الثقافية بل ساعد في إثرائها وإغنائها، وكذلك فعل الخلفاء من بعده.
-الدعوة إلى التعارف والتساكن والتعايش: من أجل توفير البيئة السليمة الآمنة وإتاحة الفرصة للتعريف برسالة الإسلام من غير إكراه.
-الدعوة إلى الحوار وعرض رسالة الإسلام بالحسنى مسندة بالدلائل العقلية والنقلية.
– السعي إلى البحث عن المشترك والكلمة السواء.
-المجادلة بالتي هي أحسن. وماذا عن الذين ظلموا؟
-النهي عن استفزاز أصحاب المعتقدات الأخرى بقول السوء لأن ذلك سيدفعهم إلى الرد بالمثل والإساءة للإسلام
-الدعوة إلى الإحسان إلى المخالفين ومد جسور التواصل معهم بمختلف الطرق والوسائل لأن ذلك مدعاة إلى استمرار الحوار.
-الدعوة إلى العدل والإنصاف حتى مع المخالفين.
ب- النسق الثاني بين فيه نواقض الاختلاف الطبيعي: فقد حدد القرآن الكريم (حسب الدكتور) مجموعة من مظاهر الاختلاف غير الطبيعي التي حذر منها الإسلام بل وحاربها ومنها:
-التفرقة بعد معرفة الحق والانقياد له: فالإسلام يذم هذا السلوك سواء داخل الجماعة المؤمنة أو داخل المجتمع الإنساني ككل.
-الظلم والعدوان: ذلك أن الإسلام جرم كل أشكال العدوان والطغيان بغض النظر عن الجهة التي يصدر عنها أو التي يمارس عليها.
-العصبية والعرقية على أساس اللون أو العرق أو اللغة.
-الكراهية من دون سبب معتبر لذات المخالف أو عرقه أو جنسه أو لاختياراته العقدية والدينية.
-الانغلاق على الذات وعدم الانفتاح على الآخرين لمجرد اختلافهم.
بعد التعرف على مفهوم الاختلاف وموقف الإسلام منه، وتأسيس قيمه الحاكمة وبيان ما يناقضها عرض لنا الدكتور في المحور الثالث من الكتاب المهارات التي نحتاج إليها في تدبير الاختلاف، وقسمها إلى:
1- مهارات ذاتية: وهي مهارات الانطلاق التي لا يمكن أن يدبر الاختلاف إلا بتوفرها في المخاطِب:
– استيعاب ثقافة الذات من خلال انطلاقا من مصادرها الأصلية.
– القدوة والالتزام في القول والعمل.
– القدرة على التمييز بين المقدس والتاريخ والتراث الإسلامي بين الثابت والمتغير.
– القدرة على استيعاب موضوع الاختلاف وسياقه في ثقافة الآخر وربطه بمرجعيتها وبيئتها لأنها تساعد على فهم المعلومات التي يعرضها المخالف وفهم سياقها.
2- مهارات في صياغة محتوى الخطاب الذي سيتم تداوله مع المختلف وهو الخطاب الذي يمد حبل الاطمئنان والثقة بين الناس كي يجلسوا إلى طاولة الحوار عند الاختلاف ومنها:
– استحضار حال المخاطب لتكييف الخطاب الدعوي والحجاجي معه .
– تحرير مجال الاختلاف من بين المجالات الثلاث التالية:
- مجال القيم، وهو مجال يفضي بالضرورة إلى نقاط الاتفاق فالقيم في مفهومها المجرد لا ينكرها عاقل أما الاختلاف فيكون في مرجعياتها العقدية والفكرية والأعراف السائدة.
- مجال المعتقدات وما يرتبط بها من أحكام من خلال تكريس مبدأ احترام الاختيارات العقدية وحرية ممارستها.
- مجال الإرث التاريخي الاجتهادي وهو مجال الحوار بامتياز وهي تجارب بشرية لا يمكن الاستنا إليها لمحاكمة المرجعية.
– البحث عن المشترك وحسن استثماره رغبة في الوصول إلى الحد الأدنى من التوافق.
3- مهارات في أسلوب تبليغ الخطاب، ذلك أن هذا الخطاب لابد وأن يبلغ عن طريق التواصل بأشكال وأساليب مختلفة وهو ما يقتضي التوفر على مهارات تواصلية مقنعة من قبيل:
– القدرة على التحرر من الضغوط والانفعالات والتحلي بالثقة في النفس والحلم والأناة والصبر.
– حسن الاستماع والإنصات إلى المخالف.
– اللين في الكلام والمجادلة بالتي هي أحسن.
– معرفة معيقات التواصل والحرص على تجنبها، كالسخرية والاستهزاء والغرور والكبر والسفه في القول والجهر بالسوء.
– تنويع أساليب الخطاب حتى يكون أكثر أثرا في السامع.
– التحلي بالعقلية المبدعة القادرة على اقتراح البدائل في المواقف الصعبة والمختلفة.
– الاستعداد لقبول النقد، فلا حوار بدون نقد شريطة أن يكون مبنيا على أسس علمية ومنطقية
بعدما عرف الدكتور مفهوم الاختلاف والقيم الحاكمة لتدبيره والمهارات الضرورية لذلك بين في المحور الرابع من الكتاب المنهجية التربوية اللازمة لبناء وترسيخ هذه القيم في نفوس الناشئة، وهي المنهجية التي بسط فيها الحديث بتفصيل في كتابه “القيم الإسلامية في المنظومة التربوية” الصادر عن منظمة الإيسيسكو سنة 2008.
هذه القيم تتحرك في دوائر أربع ذاتية واجتماعية ووطنية وإنسانية كونية، (مستويات أربع) تتطور بتطور النضج العقلي والعاطفي والنفسي للإنسان، وبتطور احتكاكه بالأسرة والأقران، فالمحيط الاجتماعي ثم الاهتمامات الوطنية والإنسانية الكونية.
وتتدرج قيم تدبير الاختلاف في هذه الدوائر الأربع حتى تتشكل مصفوفة متكاملة، تظهر وتتطور وترتقي على شكل مؤشرات دالة. كما تتطور القيمة لدى المتعلم عبر ست مراحل (سلم المراقي الستة) وهي: مرحلة الانتباه والاهتمام والتفاعل والاقتناع والدفاع وأخيرا مرحلة نقل القيمة.
وفي علاقة القيم بالمهارات السلوكية، يؤكد الدكتور أن القيمة معيار مطلق تستند في مفهومها إلى مرجعية محددة، أما السلوك فهو التجلي العملي القولي أو الفعلي أو الوجداني الدال على مستوى وجود أو عدم وجود القيمة في واقع الفرد أو المجموعة أو الجماعة أو الضمير العالمي.
وبعد أن بين الدكتور خطورات بناء مصفوفة القيم وشبكة المؤشرات الدالة عليها والتي حددها في:
– تحديد الهدف – تحديد القيم المرتبطة به- تحديد مؤشرات دالة- تنوع المؤشرات إلى معرفية ومهارية ووجدانية- بناء الأنشطة التعليمية المناسبة.
بنى مصفوفة قيم ومؤشراتها متخذا قيم تدبير الاختلاف نموذجا متتبعا نفس الاستراتيجة المعتمدة في كتابه “القيم الإسلامية في المنظومة التربوية”، فحدد مجموعة من القيم الحاكمة لمهارة تنمية القدرة على تدبير الاختلاف حددها في الحرية وقبول الاختلاف والتعارف والحوار والتعايش والإنصاف والانفتاح كما حدد مجموعة من المؤشرات المعرفية والمهارية والانفعالية الدالة على وجودها.
وفي المحور الخامس من الكتاب ولتنمية القدرة على تدبير الاختلاف رسم الدكتور مراحل التدريب والأنشطة التدريبية المناسبة وحددها في:
– التدريب على اكتشاف المفهوم واكتسابه من خلال معرفة خصائصه والخريطة المعرفية التي ينتمي إليها.
– التدريب على اكتساب منهجية تدبير الاختلاف من خلال مواقف عملية تطبيقية متعددة ومتنوعة.
– التدريب على تجاوز صعوبات تدبير الاختلاف.
– التدريب على تقويم القدرة على تدبير الاختلاف.
– التدريب على الإسهام في التوعية بأهمية حسن تدبير الاختلاف.
أما الجانب التطبيقي من الكتاب فهو عبارة عن بطائق تدريبية تتعلق بنصوص مرجعية وأمثلة ونماذج تطبيقية على تدبير الاختلاف من التاريخ والحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي المعاصر وقابل للتنزيل في واقعنا المعاصر.