تتعدد رحلات الحجاج المصريين المدونة، والتي تصف طريق حجاج مصر بداية من الفسطاط، حيث يتجمع الحجاج من أمصار شمال قارة أفريقيا والأندلس، وذلك بداية من سنة 20هـ/ 640م، حيث يتجهون إلى البركة، ثم السويس، ومنها إلى نخل بسيناء، ثم آيلة “العقبة”، ثم “حقل” على ساحر البحر الأحمر، وعيون القصب، فالمويلحة، ويواصلون طريقهم لى رابغ، ميقات أهل مصر، فيُحرمون منها مُكبرين مُهللين، ثم يدخلون مكة من مكان يُسمى الشبيكة.
يشهد التاريخ العربي الإسلامي تسجيل كثير من الحجاج لرحلاتهم كابن جبير، وابن رشيد الفهري، والقاسم بن يوسف التجيبي السبتي، وابن بطوطة، وعبد الله محمد العياشي، وغيرهم. ويترك بعض المصريين الذين ذهبوا للحج تفاصيل رحلاتهم في مدونات، منها ما تركه الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه “في منزل الوحي” عن حجه سنة 1354هـ/ 1935م. وتكتب عن أدائها لفريضة الحج سنة 1392هـ/ 1972م بنت الشاطئ كتابها “أرض المعجزات ولقاء التاريخ”. ويسجل محمد لبيب البتنوني في كتاب “الرحلة الحجازية” تفاصيل أدائه لفريضة الحج بصحبة عباس حلمي الثاني، خديو مصر (1892-1914) في رحلته لأداء فريضة الحج سنة 1327هـ/ 1909م. كما يقوم محمد صادق باشا بالحج عدة مرات، الأولى سنة 1277هـ/ 1860م مرافقًا لمحمد سعيد باشا، والي مصر (1854-1863)، ويسجلها في كتابه “نبذة في استكشاف طريق الأرض الحجازية”، ثم يحج سنة 1298هـ/ 1880م أمينًا للصرة ويسجلها في “مشعل الحج”، والمرة الثالثة سنة 1302هـ/ 1884م، وكتب عنها “كوكب الحج”. وترك إبراهيم رفعت باشا كتاب “مرآة الحرمين”، الذي يُسجل فيه تفاصيل حجه سنة 1318هـ/ 1900م ، وترك محمد رشيد رضا كتابه “رحلة الحجاز” وصف فيه تفاصيل حجه سه 1334هـ/ 1915م، وإبراهيم عبد القادر المازني “رحلة إلى الحجاز” سنة 1349ه/ 1930م، ويكتب محي الدين رضا عن رحلته للحج كتاب بعنوان “رحلتي إلى الحجاز” سنة 1353هـ/1935م.
يترك بعض من الذين دونوا تفاصيل رحلاتهم إلى الحج صور فوتوغرافية، تجعل منهم شهودًا استثنائيين على رحلة الحج إلى مكة المكرمة، ومنهم محمد لبيب البتنوني سابق الذكر، وموضوع مقالنا محمد علي أفندي السعودي، فمن هو؟ وما تفاصيل مصوره في الحج؟
هو مسؤول ذات رتبة وسطى في الحقانية أو وزارة العدل، رافق القوافل المصرية الرسمية المتجهة لأداء فريضة الحج، المرة الأولى في شتاء عام 1322هـ/ 1904م، والثانية في شتاء عام 1326هـ/ 1908م، والتي اصطحب فيها والدته، وكان يمثل طبقة المتعلمين التي ظهرت ضمن الطبقة الوسطى في مصر، وتأثرت بالفكر والثقافة الأوروبية، وكان المسعودي مولعًا بكتب الرحلات الحجازية، فقد اطلع على كتاب الرحالة الإنجليزي ريتشارد بيرتون، الذي حج إلى مكة المكرمة عام 1271هـ/ 1855م، واقتنى ترجمة مكتوبة بخط اليد لكتاب جون لويس بوركهارت “رحلات في شبه الجزيرة العربية”، وكان هاويًا ومحبًا لفن التصوير الفوتوغرافي، ورافقته كاميرته في رحلته الحجازية للحج، والتقط بها الكثير من الصور التي تميزه بين من كتبوا رحلاتهم الحجازية، وفي إحدى المراحل بعد أن قام بتصوير جبل النور، حيث نزل الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمرة الأولى، بآلة التصوير الخاصة به، قال المسعودي: “آمل أن تترك هذه الصور الفوتوغرافية أثرًا بارزًا لا يمكن نسيانه”.
تشهد الأعوام ما بين قيام السعودي برحلته للحج الأولى والثانية تغيرات جذرية كثيرة، إذ ضعفت الدولة العثمانية، وشهدت نشاط حركة تركيا الفتاة، التي قوضت الخلافة العثمانية، في الوقت الذي نشطت فيه معارضة جمال الدين الأفغاني للحكم العثماني، وتبلورت فيه أفكار الشيخ محمد عبده الإصلاحية، وتغيرت الأوضاع في شبه الجزيرة العربية إذ دخل الملك عبد العزيز آل سعود الحجاز، وأعلن تأسيس المملكة العربية السعودية، واقترب التقليد الاحتفالي المرتبط بمحمل الحج المصري من نهايته، وفضلا عن ذلك تغيرت الطبيعة المادية للحج، إذ جعل الطريق البحري بين السويس وجدة الحج أسرع وأسهل، وكان العمل يجري في خط سكة الحجاز الحديدية يجري على قدم وساق، واكتمل في عام 1326هـ/ 1908م، وتم تدشين محطة المدينة المنورة بعد خمسة أشهر من مغادرة السعودي للأراضي المقدسة. وهو ما يجعل من الصور التي قام السعودي بالتقاطها تاريخًا مصورًا لمرحلة تاريخية اندثرت وتغيرت جذريًا.
يقوم السعودي برحلتي الحج الخاصتين به عندما كان جزءًا من حاشية الأمير الرسمية، ففي الرحلة الأولى كان مساعدًا لأمين خزنة المحمل،ثاني أهم شخصية بعد أمير الحج، والذي كان آنذاك اللواء إبراهيم رفعت باشا، الذي لقب بأمير الحج، وفي المرة الثانية عين رسميًا كمصور مرافق لعلي بهجك بك، أول عالم أثار مصري مسلم، ليقوم بتصوير النصب التذكارية والآثار القديمة في الحجاز.
قضت حملة القافلة المصرية ستين يومًا في الجزيرة العربية، اضطرت خلالها لتأجير ألف وأربعمئة ناقة، وجلب تابعين لتوفير الخدمات للمعسكر، ودفع خاوة للشيوخ القبائل، لتجنب غاراتها، وتكونت من ألف وثمانمئة حاج يرافقهم ما يزيد على الخمسمئة جندي.
ترك السعودي وصفًا لرحلاته في أربع مجلدات من اليوميات، وصل عدد صفحاتها مئتين وخمسين صفحة فولسكاب، كتبها بخط مصقول جميل، ومعظمها بالقلم الرصاص، على ظهر الجمل مسافرًا، وعند عودته للقاهرة قام بإعادة كتابة كل ملحوظاته التي تعذر فهمها، واسترجع كثير من الأحداث التي دونها وفقدت في الطريق، وسلم السعودي نتائج رحلته للإمام محمد عبده، الذي خاطبه واصفًا إياه بمفتي الديار المصرية، ولكنه فارق الحياة في عام 1323هـ/ 1905م، وبذلك فقد السعودي الراعي الرئيس لكتابه، الذي اعتزم تأليفه آنذاك، إلا أن الكتاب لم يظهر إلى حيز الوجود مطلقًا. وأخيرًا قام فريد قيومجي كحيل، الباحث في أدب الرحلات بالشرق الأوسط، وروبرت غراهام صحفي أسباني مهتم بالشرق، بنشر كتاب عن تفاصيل رحلته وبعض الصور التي التقطها، وقام الدكتور سري خريس، أستاذ النقد الأدبي المساعد بالجامعة الأردنية، بترجمته إلى العربية، ونشر عن هيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة بدولة الإمارات العربية المتحدة عام 1433ه/ 2012م.
يقدم السعودي من خلال أسلوب سردي بسيط تفاصيل يوميات رحلتيه للحج، فهو يتحدث باسهاب، عن الظروف المروعة التي يعيشها الحاج، أما الصور الفوتوغرافية، فقد تم التقاط معظمها باستخدام كاميرا من نوع “ستيريو بالموس إيكا”. وقد أراد أن ينتج تاريخًا فوتوغرافيًا وافرًا لرحلته على الرغم من إدراكه أنها محاولة تنطوي على مجازفة كبيرة.