منذ أن خلق الله سبحانه وتعالى البشر على وجه البسيطة وهم يعيشون في صراعات، ضاربين بعرض الحائط كل الأعراف والقوانين السماوية التي تنص على إقامة العدل والمساواة، ويودي هذا الصراع بحياة الأبرياء والمساكين، فضلاً عن اقتطاع الحقوق من أصحابها، وهتك الأعراض، وتشريد الشعوب، مما يجعل من الحياة عبئًا ثقيلاً لا يقوى على تحمله الكائن الهزيل الذي هو الإنسان.
ومن حكمة الله تعالى ورحمته بنا، أرسل إلينا علماء مخلصين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة، ويزيلون من أمام أعيننا تلك الغشاوة التي تحجب النور، فيعالجون أمورنا الدينية والدنيوية بعقلانية واضحة وحجة بالغة بعيدة عن الرياء، كما يقدمون الطرق الكفيلة والميسرة في النصح والرشاد، وإظهار النية السليمة أمام الحقيقة الناصعة، لنتجنب الدخول في مزالق الردى، ونتّبع الطريق الذي يسلكونه نحو الفضيلة والتعاون والتسامح والإخاء. ذلك الينبوع العذب الذي يروي ظمأ قلوبنا بحلاوة الإيمان، ويزرع في عقولنا اليقين التام لصاحب الوحدانية والربوبية المطلقة.
ذاك القلب المعطاء الذي يعلمنا بأن الحياة تسامح وكفاح وإخاء وتآلف وتعاون، نحو بناء مجتمع الحضارة والرقي، منطلقًا من الأمانة الإلهية التي أُلقيت على كاهل هذا الإنسان، فإن صلح للأمانة صلحت معه الأمور برمّتها ، وإن تركت دون القيام بحقها كانت لنا شقاءً وتخلفًا على مر السنين.
وعندما خلق الله تعالى آدمع عليه السلام، وأخبر ملائكته أنه سيجعله خليفته في الأرض قالوا:(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)(البقرة:30). إنه لا يخفى عليه أن استخلاف آدم في الأرض يشتمل على معنى سام من الحكمة الإلهية التي خفيت حتى عن الملائكة.
إن الله عز وجل حينما تعلقت إرادته بإيجاد هذا الكون بما فيه من الموجودات، ليجعل الإنسان سيد هذا الكون ويجعل سائر مظاهر الكون وموجوداته مسخرة له وقائمة بخدمته، وليوكل إلى الإنسان عمارته وأمر تنظيمه.. فذلك هو معنى الخلافة في قوله:(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)(البقرة:30)، فكان أن جهّز هذا المخلوق بمجموعة من الملكات والصفات، لا بد منها لتتكامل لديه القدرة على إدارة هذا الكون وتعميره واستخدامه.
الإنسان في كينونته الذاتية عبدٌ مملوكٌ لله عزوجل، خلق من ضعف وينتهي إلى ضعف، ولكنه نظرًا للرسالة التي حملها يتمتع بصفات نادرة جهّزه عز وجل بها فاستأهل بموجبها الرفعة والتكريم إن هو استعمل تلك الصفات على وجهها الصحيح
فالإنسان في كينونته الذاتية عبدٌ مملوكٌ لله عزوجل، خلق من ضعف وينتهي إلى ضعف، ولكنه نظرًا للرسالة التي حملها يتمتع بصفات نادرة جهّزه عز وجل بها فاستأهل بموجبها الرفعة والتكريم إن هو استعمل تلك الصفات على وجهها الصحيح. فبث الله تعالى فيه صفة العقل وما يتفرع عنها من العلم والإدراك والقدرة على تحليل الأشياء، وسبر أغوارها والوصول إلى ما ورائها، وبث فيه أسباب القوة ومقومات التدبير وما يتفرع عنهما من النزوع إلى السيطرة والعظمة والجاه.
ثم بث فيه مجموعة من العواطف والأشواق والانفعالات المتممة لقيمة تلك الصفات وفوائدها، كالحب والكراهية والغضب، قال الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً)(الأحزاب:72).
وأما وجه تركيز القرآن من تلك الحقيقة، والاستمرار في تذكير الإنسان بضآلته وتفاهة أصله، إلى جانب تذكيره بالمكانة التي يتبوؤها، وبأهمية وجوده وخطورة الصفات النادرة التي رُكّبت فيه، والوظيفة التي كُلّف بالنهوض بها، فلأن رجل الحضارة الإنسانية في القرآن، هو ذلك الذي رُبي في ظلال هاته الحقيقة، وعاش يستلهم غذاءه التربوي من معرفة أصله وحقيقته وضآلة شأنه وذلّ نهايته، ثم من معرفة ما قد أنعم الخالق عزو جل عليه، وما قد أكرمه به من سمو في الرتبة والمكانة، وما شرّفه به من مسؤولية إنشاء الحضارة الإنسانية وعمارة الأرض.
الإنسان خليفة الله في الأرض، أي إنه جلّت قدرته شاء أن يكون الإنسان مظهرًا لعدالته سبحانه، وأن يكون لسان الكون الناطق بحمده وتسبيحه والإيمان به، وذلك عن طريق تنفيذ أوامره وتطبيق شرعه والاهتداء إلى ألوهيته ووحدانيته.
والإنسان في القرآن موصوف بصفتين: الأولى لبيان أصله وحقيقته كي لا يتجاوز حدود عبوديته لله عز وجل. والثانية لبيان مركزه من هذا الكون كله ومستواه بين الخليقة أجمع. والإنسان عبد الله خُلق ليكون مظهرًا لألوهيته سبحانه، وما صفة الخلافة فيه وتكريمه على سائر المخلوقات وتسخير الكون له، إلا وسيلة يحقق عبوديته لله تعالى بالكسب والممارسة والاختيار كما خلقه عبدًا له بالجبر والاضطرار.
إن الإنسان مفطور على جملة من الصفات والطبائع التي من خلالها يتمكن من عمارة الكون، وهذه الصفات والطبائع لا يمكن أن تؤدي عملها الصالح في عمارة الكون على نحو تسعد به الإنسانية، إلا بوجود رقابة عليا على هذه الصفات
لقد خلق الله الإنسان وقرن به مهمة كبرى لم يشرف بها أحدًا دونه، ألا وهي ممارسة العبودية لله عز وجل بسلوكه الاختياري، كما قد طبع بحقيقة العبودية له في واقعه الاضطراري. وبذلك يغدو الإنسان -من حيث وجوده الفردي والاجتماعي- أبرز الآيات الكونية الناطقة بوجود الله عز وجل وألوهيته. وهكذا فإن ظهور عبودية الإنسان لله هو الوجه الثاني لتجلي ربوبيته عز وجل، بينما ممارسة الإنسان لهذه العبودية من خلال سلوكه الاختياري، تتوقف على قدرات وصفات معينة لا بد أن يتجهز بها، ثم إنها لا تتحقق بمعناها الدقيق وهو الخضوع المطلق للمعبود، إلا من خلال قيامه بواجبات تنطوي على قدرٍ من الكلفة والمشقة وهي المعني بكلمة “التكاليف”، ولن يمكنه النهوض بها إلا من خلال نسيج متعاون تسري خيوطه بينه وبين بني جنسه، وإنما سبيل ذلك أن يقبل الإنسان متعاونًا مع إخوانه إلى عمارة هذه الأرض بمعناها الحضاري الشامل، وإن صادفته المغريات وطافت من حوله الشهوات، وتعرض للمصائب والآلام، فلا تحرفه الملهيات ولا المغريات ولا تصده المصائب والآلام بشدائدها، بل يظل ثابتًا خلال ذلك كله على تنفيذ ما ألزمه الله تعالى من الانضباط بالصراط السلوكي الذي اختطه له وكلّفه بالسير عليه. فإن أورده هذا الصراط على النعم تمتّع بها شاكرًا، وإن زجّه في مآس ومصائب تقبلها صابرًا، وتلك هي حقيقة الاصطباغ بالعبودية لله عز وجل من خلال السلوك الاختياري للإنسان في فجاج الحياة.
إن الإنسان مفطور على جملة من الصفات والطبائع التي من خلالها يتمكن من عمارة الكون، وهذه الصفات والطبائع لا يمكن أن تؤدي عملها الصالح في عمارة الكون على نحو تسعد به الإنسانية، إلا بوجود رقابة عليا على هذه الصفات، وكان صاحبها مستشعرًا وجود تلك الرقابة، إذ إن تلك الصفات والطبائع إذا تركت وشأنها، كانت منبعًا للشرور وأسبابًا للشقاء أكثر من أن تكون سبيلاً للخير والسعادة. فصفة العقل أو العلم، تنقلب إلى شبكة تصطاد بها كرامة الإنسان وحياته، ومزية القوة وأسبابها، تنقلب إلى عواصف هوجاء تضرب الجماعات الإنسانية ببعضها.
فإذا تأمل الإنسان في هذا كله وآمن به إيمانًا جازمًا قائمًا على أساس من البحث العقلي المتأمل الحر، شعر في أعماق كيانه بأنه عبدٌ لهذا الإله الواحد العظيم، وأصبحت هذه الصفات الهامة التي يتمتع بها، أقل من أن تتجاوز به حد عبوديته، وما هي إلا أن تنقلب فتصبح وسيلة عظمى لسعادته من حيث إنه فرد، ولسعادة بني جنسه من حيث الجماعة، وتقوم بين الناس وشيجة الأخوة والمساواة أمام عبوديتهم لله عز وجل، بعد أن كانت تقوم بينهم مسابقات في ميدان تتصادم فيه القوى، وتتقارع فيه الأسنة، ويقع المستضعف فيه ضحية لنـزوات القوي وسكرة جنوحه.. حينئذ تغدو نزعة التملك في الإنسان وسيلة طبيعية لإقامة حياة عادلة يقوم فيها العمران وتخضر في أنحائها الحدائق والجنان، وتتكاثر في جنباتها الخيرات، وتصبح نزعة العلم والإدراك نورًا وهاجًا ينكشف به المزيد من خفايا الكون لهذا الإنسان، وقبسًا هاديًا يؤكد للإنسان دائمًا حقيقة الذات الإلهية.
(*) كاتب وباحث سوري.