نحن البشر عاجزون عن استيعاب حقيقة الأشياء والأحداث التي تدور في الكون بصورة كاملة. نحن نتجول في شعابها مثل متفرج لا يفقه لغتها ولا يدرك معنى سلوكها. لهذا نجهل فائدتها، وفيمَ تستخدم، وكيف يمكن تصنيع تراكيب جديدة من مكونات مختلفة، وما هي هذه المكونات بالتحديد؟!
إذا أدركنا كنه الأحداث وحقيقة الأشياء يومًا، واستوعبنا كيفية خلقها، فلعلنا نتمكّن -حينئذ- من فتح أبواب الاستفادة من شتى الكائنات، ونكتشف طرقًا متنوعة في الانتفاع حتى من الجراثيم الضارة لحياتنا، ولكننا الآن، نشبه قومًا يتفرجون على نهر يجري بين أيديهم فقط، ولا يستطيعون الاستفادة منه كما ينبغي.
نعم، الأشياء والأحداث تجري ونحن نتفرج عليها فقط؛ وقد جاء دعاءٌ في الأثر: “اللَّهُمَّ أَرِنَا الأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ”[1]. إن إحدى الغايات المنشودة للإنسان -وربما الغاية الأسمى له- معرفة طرق النفوذ إلى كنه الأشياء. نعم، لو أمعنا النظر في هذا الكون من هذا المنظار، فسنتمكن حينها من رؤية ما وراء الأشياء والأحداث، ومعاينة عالم الآخرة من وراء ستار شفاف رقيق.
وإن الأشياء التي تبدو متناقضة فيما بينها، هي أساسًا مكمِّلة لبعضها البعض، فالشوكة إلى جانب الوردة، والبلبل مع الغراب… إلخ، فلا شيء في الكون خُلق عبثًا.
إن الأشياء التي تبدو متناقضة فيما بينها، تكمل بعضها بعضا، فالشوكة مع الورد، والبلبل مع الغراب.. إلخ، فلا عبث في الكون.
فمثلًا لو أبدْنا الكلاب التي تعيش على الأرض، فسينشأ فراغ كبير في التوازن البيئي، وقد رأينا كيف أعلن مفكر غربي -في سالف الزمان- أن نوعًا من أنواع الطيور أوشك على الانقراض، وأكد من خلال الصحف أن هذا الأمر سيُحدِث فجوة خطيرة وخللًا جسيمًا في الكون لا يعوَّض.
كل مخلوق في الكون يقوم بوظيفة من الوظائف، فلو دمرنا كائنًا ما حسب هوانا، فإن ذلك سيُحدِث شرخًا مدويًا ينذرنا قائلًا: “احذروا! فقد أحدثتم في الكون خللًا كبيرًا”.
لقد ورد عن سيّد الأنبياء صلوات الله عليه وعليهم أجمعين أنه قال: “لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا”[2]، إذًا حتى الكلاب أمة كالبشر، وهذا معناه أنها حملتْ وظائف مهمة على عاتقها، وسدّتْ ثغرة كبيرة في الكون. ولو بحثنا عن مبررات لإبادة الكلاب لوجدناها بكثرة، من اعتداء على الناس وترويعهم، وحيلولتها دون دخول الملائكة المنازل التي توجد فيها -كما جاء في الأحاديث النبوية- وحملها لجراثيم خطيرة تهدد صحة الإنسان… إلخ، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بقتلها، لأن لها موقعًا ودورًا في هذا الكون، المهم أن نعرف موقعها ودورها فنضعها فيه، أما قتلها فيسبب أضرارًا جسيمة لا تعوَّض أبدًا.
كذلك لو تم القضاء على البكتريا المنتشرة بين الأشجار، فستستولي الجراثيم بعد سنوات قليلة على الفواكه، ولن نقدر بعد ذلك على تنظيفها من تلك الجراثيم مهما حاولنا.
فالمولى الحكيم عزّ وجلّ قد وضع في الكون نظامًا للتوازن قائمًا على مبدإ التضادّ، فإذا أزلنا طرفًا من هذا التضاد -مثلًا- استولى الطرف الآخر وأحكم سلطته فورًا.
أجل، إن الكون بناء محكم تَرتبِط كل لبناتِه فيما بينها بقوة، وإذا قمنا بإزالة لبنة واحدة منه، فسينهار المبنى برمته حتمًا.
المصدر: نفخة البعث، شواهد الحياة بعد الموت، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، ص: ٨٥-٨٧.
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف المحرر.
[1] ابن الجوزي: صيد الخاطر، 1/429؛ فخر الدين الرازي: مفاتيح الغيب، 1/119.
[2] سنن الترمذي، الصيد، 16، 17؛ سنن أبي داود، الأضاحي، 22؛ سنن النسائي، الصيد، 10.