لعل في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)(التوبة:122)، إشارة إلى الطبيعة الجماعية لعمل النخبة في الأمة. فالنخبة العلمية للأمة، تمثل جماعة نفوذ معرفي تقود الرأي العام إلى الخير والحق، وبفعل هذا النفوذ تُراكم النخبة سلطة معرفية متضخمة، تحتكر بها -بمرور الأيام- سلطة الفكر وحتى التفكير أحيانًا. وهذا الوضع ذو حدين؛ فإما أن يؤول إلى استقرار الجانب الفكري للأمة، وازدهار الفكر والعلم فيها، بفعل اهتمام النخبة الدائم بالمنظومة التعليمية والرقي المتواصل بالبحث والاكتشاف، وإما أن يؤدي إلى فساد معرفي طافح، فيُتوسل بتلك السلطة المعرفية إلى أغراض مصلحية أو سلطوية أو طائفية، ويرتعي في تلك السلطة المعرفية المفسدون والمتعالمون والانتهازيون النفعيون.
وهذه السلطة المعرفية الفاسدة، تتكون في المجتمعات بطريقة تلقائية بفعل تقاطع المصالح والنفوذ، وبخمول النخبة الحقيقية وسلبيتها. ولعل الترياق الأمثل -الذي يضمن تشكيل نخبة معرفية لها الأثر الإيجابي على رقي المجتمع، وعصمة العقل الجمعي من أفكار الجهلة والانتهازيين- يمكن تلخيصه في “حركية النخبة ضمن جماعة علمية يحكمها نسق معرفي واضح تحت سقف من الأخلاق العلمية”.
فقد لخّص لنا بروفيسور -كنت أحضر له مادة النظريات التربوية الغربية- الفرق الحاسم بين النخبة العلمية في بلاد متقدمة، ومثيلتها في بلاد متخلفة في “حركية النخبة”؛ ففي البلاد المتقدمة في البحث العلمي، تتميز النخبة بتدافع رهيب وحركية لا تخمد، حتى إن دراسة أمريكية(1) عن أثر حاملي جوائز نوبل على طلبتهم، بيّنت أن من أهم القيم التي ينقلها أولئك الأساتذة إلى طلبتهم؛ “القسوة” في نقد الأعمال الذاتية وأعمال القرناء في مجال البحث. وهذا الخلُق العلمي الصارم الذي ينفي المجاملات، يجعل الأفكار دائمة التطور والتجدد، فلا تلبث الأفكار السقيمة طويلاً في الساحة العلمية، وفي المقابل نجد في بعض البيئات العلمية الراكدة، تكريسًا للرداءة تحت شعارات الاحترام والمجاملات والأقدمية في العلم، إلى حد التقديس..ويتخذ الأمر في بعض الأحيان اتجاهًا إفساديًّا، بحيث تنتقى الأوراق العلمية “بالواسطات” والنفوذ المالي، ويستدعى إلى المؤتمرات بحجم العلاقات والمنصب المالي وموافقة السائد في المجتمع، وغير ذلك من الاعتبارات التي أفسدت عمل النخبة(2).
فكيف تتشكل الجماعة العلمية؟ وما هي الاعتبارات الأخلاقية الحاكمة فيها؟ وما هي الأنساق المعرفية التي تجمعها وتضمن تماسكها وتكاملها؟ وكيف تتدافع تلك الجماعات في مسيرة البحث؟ وكيف يمكن الاستفادة من تلك التجارب في بلداننا؟
ليست النظرة إلى العمل البحثي الجماعي أمرًا محدثًا، ولكن الجديد أن يُعتبر العلم ظاهرة اجتماعية. فقد أكد “توماس كون” أن العلم ليس ظاهرة فردية، وإنما ظاهرة اجتماعية تتظافر فيه جماعة علمية تتقاطع في البارادايم(3). ولعل هذا الطرح كان نتيجة لما انتهت إليه الثورة العلمية الواسعة، فأصبحت فروع المعرفة أوسع وأعمق من أن يستوعبها ذهن موسوعي، وإن حصل فسيكون استيعابًا بالفهم لا يرقى وحيدًا إلى درجة التوليد والابتكار، ولعل من دلائل ذلك انتهاء ما يعرف بالفلاسفة النسقيين الذين يبنون لأنفسهم نظرًا فلسفيًّا لكل فروع الفلسفة المعروفة.
فهذه النظرة الجديدة -نسبيًّا- للعلم، جعلت الهوة في الأبحاث العلمية في تسارع رهيب، ويصعب تدارك الأمر دون تغيير نظرتنا لدور النخبة، ونمط تفاعلها. والذي يزيد الأمر تعقيدًا، أن تغيير تلك النظرة يستدعي تغيير كثير من الذهنيات والعادات الاجتماعية والبيئة السياسية وغير ذلك.
ويؤرخ البعض لأول ظهورٍ للجماعة العلمية في العصر الحديث -بمعناها المعاصر- بإنشاء الجمعية الملكية في بريطانيا، وأكاديمية العلوم في باريس في القرن السابع عشر. وقد نقبل بهذا التاريخ مع الأخذ في الاعتبار معنى خاصًّا للجماعة العلمية، وإلا فإننا نطالع في التاريخ البشري أنماطًا من البحث العلمي الجماعي، كالمدارس الفقهية والمدارس الفلسفية.
وتتشكل الجماعة العلمية على أسس أخلاقية وأخرى معرفية (الباردايم)، وتشتهر في الغرب منظومة قيمية من أربعة أركان تضبط حراك النخبة العلمية وعلاقاتها. وهذه القيم تتشارك النخبة في حمايتها من خلال نظام الحوافز كالترقيات والحفاظ على الملكية الفكرية، ونظام الاحتجاج والنقد كالصرامة ضد عمليات الانتحال، وتتبع عمليات الاستكثار من البحوث الغثائية، واستغلال المنصب.. وهذه القيم(4) هي:
1- الشمولية: وتعني عدم اعتبار الاختلافات العرقية والدينية والجنسية في العملية البحثية، وذلك بإعطاء الأولوية للمعرفة. وهذه القيمة قد تزهو وتخفت في المجتمع الغربي ونظرته الدونية للعوالم الأخرى، ولكنها نسبيًّا محترمة جدًّا عندهم. وهي سبب استقطاب أعداد غفيرة من أذكى أذكياء العالم للانتفاع مما عندهم، وشهادات كثير من الإخوة الأعضاء في الجماعات العلمية، تؤكد مراعاة هذه القيمة.
2- عدم احتكار المعرفة: بحيث يتواضع الجميع على لزوم نشر الاكتشافات والأبحاث، وعدم أحقية باحث أن يمنع غيره من بناء العمل البحثي عليها، مقابل أن تُحفظ له حقوق الملكية الفكرية والاعتراف في الوسط العلمي “الحافز”، كما أنه يُنفر ويُقصى كل من يتعمد احتكار المعرفة “الرادع”. ويبدو أن هذه القيمة تتعلق مباشرة بنظام الحوافز والردع، وبالحماية القانونية للملكية الفكرية، ولهذا تجد الكل يتسابق لنشر نتائج أبحاثه ليحظى بالاعتراف، ولكن للباحث الحق في احتكار التطبيقات الواقعية والتربح منها حسب منظومة قانونية مضبوطة.
3- النزاهة العلمية: ويدخل في ذلك عدم اتباع الطرق الملتوية للترقيات على حساب الفريق أو الشهرة، وخاصة في الاعتراف بعمل فريق البحث، وعدم استئثار رئيس الفريق بعوائد البحث.
4- الاستعداد الدائم لقبول النقد: من خلال الحفاظ على الشك المنهجي، وهذا الأمر متعلق بالبيئة النقدية المستمرة التي تحيط بتلك الجماعات العلمية، حتى لخّص “كارل بوبر” الرشد العلمي في أنه الاستعداد للإصغاء للنقد والتعلم من الخبرة. ولكن التاريخ العلمي يبيّن لنا وجود علماء كثيرين صعب عليهم ترك نموذجهم المعهود، إما لعدم القناعة المنهجية لتغير النموذج كليًّا، وإما لاعتبارات دينية أو أيدولوجية أو اجتماعية، وبعضها تعتبر قيودًا أخلاقية محترمة، وتزداد حساسية هذه الأمور، كلما اقتربنا أكثر من الدراسات الدينية. ومما يؤسف له، أن تتحكم في بعض باحثينا أفكار أيدولوجية (تيارية) توجّه تفكيرهم كليًّا إلى بعض الاختيارات المحددة مسبقًا، وهذه من أهم العوائق التي يجدها الباحثون في الانضمام إلى بعض الجماعات “العلمية” الموجهة.
وأوضحت الدراسة التي أشرنا إليها آنفًا، أن أهم دور يقوم به الأساتذة في مرحلة الدراسات العليا، هو نقل هذه القيم إلى أجيال الباحثين، وهو أهم من نقل المعارف المجردة؛ فالأستاذ معنيّ أن ينقل لطلبته تقاليد البحث العلمي وأخلاقه، والانضباط المنهجي، والاجتهاد، والصرامة في نقد الأعمال الشخصية وأعمال القرناء من غير مجاملة ولا محاباة.
ويرى “توماس كون” أن ضمان تطور عمل الجماعات العلمية، هو عدم اللجوء إلى السلطة الحاكمة لترجيح الآراء، عبر فرضها بقوة الإعلام أو الترغيب والترهيب، وكذلك عدم اللجوء إلى الشعب لمحاكمة الأفكار من خلال تكثير الأتباع، وإنما يجب فحصها ضمن الأقران الملتزمين بالنقد المنهجي الصارم. وهذه الاستقلالية في الواقع، تتعرض لتحديات كثيرة، والجماعة العلمية معنيّة بحماية نفسها.
ولعل من أهم أسباب الاستقلالية العلمية، الاستقلالية المالية، بحيث لا تتعرض المجموعة العلمية لابتزاز السلطة أو الشركات التجارية. ولهذا دأبت كثير من الجامعات العريقة إلى تطوير نظام الوقف الذي يضمن لها استقلالية مالية، وأريحية في تمويل البحوث، ولتتفاوض من موقف قوة مع عروض الشركات لتمويل الأبحاث. كما أن المناخ السياسي الديموقراطي، يسمح باستقلاليةٍ أكثر لهذه التجمعات العلمية، فأصول أوقاف جامعة “هارفارد” -مثلاً- بلغت حوالي 32 مليار دولار في عام 2011، وأوقاف جامعة “ييل” تبلغ حوالي 20 مليار دولار، هذا من غير مدخلاتها من تمويل الشركات للبحوث العلمية ومن رسوم الدراسة. ولهذه الجامعات شركات متخصصة في تثمير تلك الأوقاف، وتبلغ العوائد السنوية لبعض الجامعات على أوقافها حوالي 10%، وهذا كله يعطي للمجتمع العلمي أريحية مالية وحرية بحثية.
فهل يتمكن المسلمون من الانطلاق بجد في تكوين نواة لهذه الجماعات العلمية في الميادين العلمية والإنسانية، وحتى في الأبحاث الشرعية والحضارية، على أن تحكم هذه الجماعات العلمية نماذج معرفية تستند أساسًا إلى حاكمية الوحي الخالص، وإلى منهجية بحثية نقدية صارمة، وتخضع لمنظومة أخلاقية يتعاون الباحثون على حمايتها بالحوافز والروادع لتناقش كثير من المعضلات التي تشغل الأمة؛ كالأزمة الحضارية، والمنهج العقدي، والتعامل مع الرواية وحدود الدائرة التشريعية، ومحاكمة الاجتهادات السابقة لمنهجية علمية صارمة؟ ولنا في الوحي الإلهي المنظومة الأخلاقية الأرسخ للتعامل مع هذه التحديات.
(*) كاتب وباحث جزائري.
الهوامش
(1) Harriet Zuckerman, Scientific Elite: Nobel Laureates in The United States, 1977.
وقد أوردت الدراسة بعض التفاصيل عن العلاقة الاجتماعية بين أعلى نخب القرن العشرين وطلبتهم.
(2) وأوضح مثال -في نظري- لهذا الأمر، هو ما يحدث في مؤتمرات المالية الإسلامية من هيمنةٍ لبعض الشخصيات واحتكارها للمناصب والنفوذ، وكذا الانتقائية الواضحة للأوراق حسبما يخدم سياسة البنوك. ويشير الدكتور عبد العظيم أبو زيد إلى إشكالية هذه المؤتمرات، بعد أن بيّن هدفها الدعائي وعدم جدية أوراقها ومحاباتها للمتّفقين مع منهج عملها، يقول: “وهذه النوعية من المؤتمرات التي شاعت كثيرًا في الفترة الأخيرة، قد تركت آثارًا معرفية سلبية بالغة، لأن من شأنها أن تخضع لإملاءات الرعاة، وتفرض على الفكر المعرفي اتجاهًا بعينه يمليه واقع السوق المحكوم بالربحية والمصالح المادية، كما أنها تصنع نجوم مؤتمرات لا باعتبار الكفاءة والوزن العلمي أو الإسهام الفكري، بل باعتبار الوزن السوقي لهؤلاء، وهو المحكوم بالتقاء فكرهم مع مصالح السوق”، تشخيص حالة التمويل الإسلامي، عبد العظيم أبو زيد، ص:116-118.
(3) يعني مجموعة القوانين والمنطلقات والأدوات المنهجية، والتي يمارس الباحثون بحوثهم على ضوئها. بنية الثورات العلمية، توماس كون.
(4) Janet D. Stemwedel, Basic Concepts: The Norms of Science.