لا جدال في أن الحوار قد أصبح أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، بل أصبح ضرورة من ضرورات العصر، ليس فقط على مستوى الأفراد والجماعات، وإنما على مستوى العلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة. ومن منطلق الأهمية البالغة للتعارف بين الأمم والشعوب والحضارات والأديان، كانت دعوة الإسلام إلى الحوار بين الأديان، وذلك لما للأديان من تأثير عميق في النفوس.
والموقف الإسلامي -في أي حوار ديني- موقف منفتح على الآخرين ومتسامح إلى أبعد الحدود. فقد أقر الإسلام منذ البداية، التعددية الدينية والمذهبية والثقافية، وصارت هذه التعددية من العلامات المميزة في التعاليم الإسلامية. والواقع أن قضية الحوار قد أصبحت تشكل في عالم اليوم ضرورة من ضرورات العصر، للتغلب على العديد من المشكلات الحياتية على جميع المستويات. يقول عالم اللاهوت الألماني المعروف “هانز كونج”: “لن يكون هناك سلام بين الأمم ما لم يكن هناك سلام بين الأديان، ولن يكون هناك سلام بين الأديان ما لم يكن هناك حوار بين الأديان”.
إن تحقيق العدالة في أي مجتمع إنما هو الأساس في كونه مجتمعًا إنسانيا، يراعي فيه الجميع حقوق الجميع، ولا يعتدي فيه أحد على أحد.
إننا نعيش اليوم في عصر ليس فيه مكان للانعزال والتقوقع حيث أصبح العالم مثل “القرية الكونية”.
إن مستقبل الإنسانية يتعلق بحل إشكالية التفاهم المتبادل بين الشعوب. إن التفاهم والتعايش بين طرفين مختلفين في الفكر والعقيدة، لا يتحقق إلا إذا توافر لدى كل منهما رغبة في العيش المشترك، وتسامح حول الأمور المختلف فيها، وقبول من الطرفين بالتعددية العقائدية. ولا يكفي أن يؤمن بالتعايش والتسامح طرف واحد بينما الطرف الآخر ينكر ذلك.
وكيف لنا أن نتصور قيام تعايش بين إنسان راغب فيه، ومؤمن بوجوبه، وصادق مخلص في سلوكه إليه، وآخر يرفض ذلك ويعتقد أنه من أمة تَفضُل جميع الأمم؟! كيف يمكن لإنسان سوي بتفكيره، إنساني بنظرته، متسامح بسلوكه، أن يعيش أو يتعايش مع هذا النمط من الناس؟! إن الحياة المشتركة مع الآخرين، تحتاج من جميع الأطراف أن يقبلوا التعايش مع التزام العدل والمساواة والسماحة والاحترام المتبادل.
إنه ليس من التسامح في شيء أن نقف موقف المتفرج حيال القسوة والظلم وغير ذلك مما يتعرض له الناس، بصرف النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة. إنه برغم بلوغ الإنسان المعاصر ذروة التقدم العلمي، إلا أنه لم يصل إلى السعادة المنشودة والاطمئنان والسكون، ولن يصل حتى يحقق متطلبات الأمن الحضاري والأمن الروحي. وعلى الرغم من تطور حياة الإنسان وانطلاقه نحو آفاق بعيدة المدى في تحقيق أسباب الرفاهية والدعة، فإنه لم يبلغ كنه السعادة بعد، بل إنه لم يزد إلا ضحالة وبعدًا عن سبيلها.
لقد تمكن الإنسان بتقدمه العملي والتكنولوجي أن يحقق لنفسه تيسير المعيشة من الناحية المادية، وكان يظن أن ذلك هو نهاية المطاف؛ لأنه أنكر الاعتراف بالروح، وكلما أهمل الإنسان روحه ولم يقم لها اعتبارًا، وراح يشبع رغبات الجسد والمادة، زادت حياته سوءًا وترديًا وافتقادًا للاطمئنان والسعادة. وقد أدى ذلك إلى أزمات في حياة الإنسانية، ومن أبرزها القلق، والحيرة، وتعاطي المخدرات، والظلم والإرهاب، واكتفى العالم الحر بمشاهدة مآسي الحروب في العالم الثالث دون التدخل لنزع فتيلها وإيجاد الحلول المناسبة لها، بل لقد تم استغلال الصراع لتحقيق أطماع مختلفة. والأديان قادرة على تغيير السلوك الإنساني وتحقيق التوازن والانضباط فيه.
لقد راعت المجتمعات الإنسانية تحقيق العدالة بين أفرادها، من خلال ما سنته من قوانين وتشريعات وضعية قامت على إدراك فطري للضرورة الإجتماعية القائمة على العدل بين الناس كأفراد وكجماعات.
لقد كثر الحديث في جميع المحافل المحلية والإقليمية والدولية حول حقوق الإنسان، لدرجة يتصور المرء معها أنه لم يكن هناك من قبل مراعاة لحقوق الإنسان على وجه الإطلاق.
إن كثرة الحديث عن حقوق الإنسان إنما يعني ضمن ما يعني أن الإنسان المعاصر يفتقد الشعور والوعي بهذه الحقوق، ومن ثم يذكّر نفسه بها، ثم لا يكتفي بالتذكير والتذكر، فيسجل هذه الحقوق في عهود ومواثيق عديدة وقعت عليها كل دول العالم. وكم تحدث عنها المتحدثون عن حقوق الإنسان، وحللها المحللون من الفلاسفة والمصلحين، وبذلوا جهودًا كبيرة في صياغة هذه الحقوق وتحسين هذه الصياغات، حتى وصلت إلى صياغات دقيقة اتفق عليها الجميع.
والحقيقة التي ربما تكون قد غابت عن كل هؤلاء، أن هذه الحقوق التي يتحدثون عنها، إنما هي حقوق فطر الله الناس عليها، وأن البشر منذ حضاراتهم الأولى في الشرق القديم قد أدركوا هذه الحقوق وحافظوا عليها، وعبروا عنها في رواياتهم وكتاباتهم، وفي معاهداتهم ووثائقهم الدبلوماسية، كما كشفت عن ذلك بعض المعاهدات التي عقدت بين الدول والشعوب القديمة.
إن القارئ لتلك التشريعات ولنصوص هذه المعاهدات، يكتشف أن الإنسان القديم قد أدرك جيدًا حقوقه، وعرف جيدًا واجباته إزاء غيره من البشر. وقد ترسخ هذا الوعي عبر العصور من خلال تعاليم الديانات السماوية، وخاصة الدين الإسلامي الذي قدم أدق صور الاعتراف بحقوق الإنسان الأساسية، حيث طالب أتباعه والمؤمنين به بالحفاظ عليها، ووعدهم على ذلك بالثواب في الدنيا والآخرة.
إن مستقبل الإنسانية يتعلق بحل إشكالية التفاهم المتبادل بين الشعوب. إن التفاهم والتعايش بين طرفين مختلفين في الفكر والعقيدة، لا يتحقق إلا إذا توافر لدى كل منهما رغبة في العيش المشترك
ولا شك أن فلاسفة الغرب المحدثين من أمثال جان جاك روسو، وفولتير، ومونتسكيو، قد لعبوا دورًا كبيرًا في إيقاظ وعي الأوربيين نحو الحقوق الأساسية للإنسان، وعلى رأسها حق المساواة والحرية والإخاء والعدالة، وقد تطور هذا الوعي حتى صيغت تلك العهود والمواثيق الدولية. ولكن الممارسة الفعلية وخاصة في عصرنا هذا، قد كشفت أن الخطاب النظري الذي كرسته هذه العهود وتلك المواثيق وما صاحبها من شروح وتفسيرات في واد، والأفعال التي يمارسها البشر في حق بعضهم البعض في واد آخر.
وكم تغنى قادة البلاد الغنية بما تعيشه بلادهم من حريات ومن رعاية لحقوق الإنسان، وكم كان حلمًا جميلاً لكل إنسان على ظهر هذا العالم وخاصة في بلاده النامية أو المتخلفة، أن يعيش في تلك البلاد التي هي رمز الثراء والحرية واحترام الحقوق. لكن كل ذلك انهار تحت وطأة عدم الاهتمام بمآسي الشعوب الفقيرة التي يفر منها الملايين بسبب الحروب والأعمال الإرهابية.
لقد استقر في الضمير الإنساني منذ فجر الحضارات البشرية أن العدل أساس الملك، وأن تحقيق العدالة في أي مجتمع إنما هو الأساس في كونه مجتمعًا إنسانيا، يراعي فيه الجميع حقوق الجميع، ولا يعتدي فيه أحد على أحد. ولقد راعت المجتمعات الإنسانية تحقيق العدالة بين أفرادها، من خلال ما سنته من قوانين وتشريعات وضعية قامت على إدراك فطري للضرورة الإجتماعية القائمة على العدل بين الناس كأفراد وكجماعات.
(*) الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية / مصر.