إننا نعيش في زمن يختلف في طبيعته عن الأزمان السابقة. تطورت العلوم بصورة مبهرة، وصلت التكنولوجيا ووسائل الاتصال حدًّا يصعب تخيّله، تقلص الزمان وانكمشت المسافات، وأصبح البشر متقاربين إلى بعض بشكل لم يحدث من قبل، وبات التفاعل المعرفي والثقافي والاجتماعي من الأمور العادية.
مع ذلك بقي الإنسان هو الإنسان، بقيت الأنانية وحب التملك والسيطرة وأمثالها من النزعات مستحكمة فيه، كما بقيت قيم الحب والتسامح والتآخي والرحمة والإيثار مغروسة فيه. ولكن لا يختلف أحد منا أن الحاجة إلى “حضور” سجايا الخير في حياتنا بقوة، بات اليوم ضرورة ملحة لا يمكن مقارنتها مع أي عصر مضى، لأن الوسائل الفتاكة التي يملكها الإنسان اليوم، تهدد مصير البشرية جمعاء.
إن سكان الأرض في حاجة ماسة إلى إحلال قيم الرحمة والعفو والتسامح والأخوة في كل مجالات حياتنا، لكي ينعموا بالأمن والسعادة والسلام، وإلا فالصورة لا تدعو إلى التفاؤل.
انطلاقًا من هذا الوعي تتقاسم حراء في هذا العدد مع قرائها باقة من المقالات التي تنبه إلى أهمية قيم العفو والتعارف والحوار والتعايش والسلام وسط حديقة متنوعة من مقالات أخرى تعزز هذا المعنى وإن اختلف المجال والتخصص.
الأستاذ فتح الله كولن يؤكد في المقال الرئيس على “سجية العفو” قائلاً: “لقد تعرفت الكائنات على العفو من خلال الإنسان، كما أبرز الحق تعالى عفوه من خلال الإنسان”. أم الدكتور عبد الكريم عكيوي فيعالج قضية في غاية الأهمية وهي البناء الحضاري، أسسه، قواعده، فلسفته. فما لم يتم وضع قواعد سليمة، فلا يمكن أن تقوم لأي حضارة قائمة. وفي سياق الجو العام الذي يسود هذ العدد يؤكد الدكتور محيي الدين عفيفي الأمين العالم لمجمع البحوث الإسلامية في الأزهر الشريف، على أهمية الانفتاح على الآخر، والحوار مع الحضارات والثقافات الأخرى، بل ويعتبر “الحوار ضرورة عصرية” وليس نوعًا من الترف الأكاديمي أو الفكري.
أما معصوم محمد خلف فيذكرنا بالإنسان وأهميته، وهي قضية ما فتئت حراء تلح عليها وتكررها في كل مناسبة، فالإنسان مهم بالأمانة الكبرى التي تحمّلها. وفي مقال آخر من باب علم النفس يحدثنا الدكتور أيمن عبد السميع عن الاكتئاب وطريقة معالجته بالرسم والألوان.. مقال “العلاج بالرسم والألوان” مثير للغاية. أما صابر عبد الفتاح المشرفي فيتطرق إلى موضوع يمس مجتمعاتنا الإسلامية والإنسانية بصورة مباشرة، وهو “ظاهرة الانحراف الفكري وطرق علاجها”، الدكتور صابر يعالج الموضوع انطلاقًا من نموذج عملي حي، نموذج الأستاذ فتح الله كولن واقتراحاته في القضاء على الانحراف الفكري والعنف.
ولا بد من الإشارة إلى مقال “إحياء الأرض بعد موتها” للدكتور أحمد مليجي، فهو يطلعنا على العبارة القرآنية في وصفها البديع لحقيقة كونية فريدة.
وقبل الختام لا بد من الإشادة بمقال “الأسرة الإنسانية وثقافة السلام” للدكتورة ديبورا مولدوف، ومقال “أدبيات الحوار والتواصل” للدكتور العطري بن عزوز، فقد أبدع الكاتبان في الحديث عن السلام والحوار والتعايش. هذا بالإضافة إلى مقالات أخرى غاية في الأهمية والجمال في باب العلوم والأدب والشعر والفكر والحضارة لم يتسع المكان لذكرها، لكن كل مقال من تلك المقالات تحفة فنية تستحق القراءة والمدارسة.