من يعرف ماذا قدّم فتح الله كولن لوطنه وأمّته لن يستغرب كثرةَ وقوة المدائح التي أطلقها كثير من المفكرين والأكاديميين والباحثين العرب في حق هذا المفكر الداعية، الذي يكاد أن يكون السراج الأقوى في هذا العصر وسط المسلمين. وقديمًا قال الشاعر:
والناس أكْيَسُ من أن يحمدوا رجلاً
حتى يروا عنده آثار إحسان
وكيف لا أمدحه وأنوِّه به وأشيد بمحامده وفيه عشرات الخصال، ومن أبرز عناوينها السافرة في شخصيته الآسرة:
1- استمداده الرباني
إنه رجل رباني من طراز رفيع، إذ يحسن الصلة بالسماء، حيث يستبطن النصوص القرآنية، ويستنطق السنن النبوية، ويستوطن الأحداث المعاصرة، فيعيش في القلب منها، وهذا يُمكّنه من التنزيل القويم للنصوص على الأحداث.
إن قلبه معلق بالعصر الذهَبي للأمّة، عصر الضياء الذي صنعه جيل الصحابة الكرام – رضي الله عنهم-، والذي يصر -كولن- على إعادته من جديد، حتى إنّ أحد تلاميذه المقربين يروي أن أستاذه أخرج ذات يوم كتاب “حياة الصحابة” للكندهلوي من مكتبته، ثم التفت إليه باكيًا وقال: “كونوا مثل هؤلاء أو موتوا!”.
2- إخلاصه الباني
إنه كتلة من الإخلاص تتحرك على قدمين، حيث عُرف بأنه قوي التعلق بالله، شديد الفناء فيه، وبسبب بركة الإخلاص وتفاؤل التوكل، فقد صار رجلاً مباركًا وكريمًا، حيث يرى في الذرة مجرة، وفي القطرة بحرًا، وفي الخلية إنسانًا، وفي الفرد عالَمًا، وفي الإنسان كونًا.
3- رؤاه الثاقبة
تؤكد خمسة عقود من زمنه المتدفق عطاء، أنه صاحب رؤى صائبة ونظرات ثاقبة. فهو في كتاباته يرفع النقاب عن الحروف، ويضع بدلاً عنه النقاط حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفكر!
كتاباته عارية عن أثواب الرياء العليل، وخالية من أغطية التسندس المتكلف، وفي ذات الوقت تجدها مكسوة بحلل الجمال الطبيعي، ومطرزة بحلي الكمال التلقائي، حيث يظهر تمكنه من نسج حرير اللغة، إذ يفصل المبنى على قدر حجم المعنى، مع أُبّهة تجذب القلوب، ومتانة تسبي الألباب، وفخامة تأسر الأرواح.
لغته رائقة السلاسة، وأحلامه تائقة العلو، وتشبيهاته فائقة الجمال.. خياله خصب، وبلاغته فارهة، وفصاحته عذبة، وقاموسه واسع، ومعانيه غزيرة، ورؤاه متدفقة، وأفكاره ثرية.
يَنظُم المباني ويُنظِّم المعاني، يجتبي الأساليب ويقتطف الأفكار، يجمع بين الأفكار المستقيمة والأساليب السلسة، يؤلف بين الرؤى المقنعة والصياغات الممتعة.. يقتنص الروائع ويختطف البدائع، يقتحم الغوامض ويكتشف المجاهل.
يجيد التقعيد بدون تعقيد، ويحسن التنظير بدون تلغيز، ويبرع في التأصيل من دون طلسمة.
4- تنظيره المستبصر
لقد عرفنا أن كولن صاحب رؤى ناقدة، ومبدع نظرات ثاقبة، ومالك بصيرة نافذة، مما جعله صاحب تأصيل مستبصر وتنظير مستشرف.
لقد صار عقله دائرة معارف، وقلبه بستان بصائر، وصارت بصيرة فكره آية عقله، وأنوار حبه علامة قلبه النابض بالحياة.
إنه يفهم الشرائع ويفقه الوقائع، وهو يقرأ المآلات وينظر في العواقب، حتى يمكن وصفه بما قاله شاعر عربي قديم:
بصيرٌ بأعقاب الأمور كأنما
يخاطبه من كل أمر عواقبُه
ومن كل هذه النوافذ صار يستشرف المستقبل، وعلى سبيل المثال فإن مآلات الربيع العربي تؤكد نضج رؤية كولن في أن “الإنسان هو المشكلة وهو الحل”.
5- موازنته بين الثبات والمرونة
استطاع كولن أن يمتلك باقتدار معادلة الثوابت والمتغيرات، فهو أيبس من الحجر في الثوابت وأسلس من الماء في المتغيرات، أصلب من الحديد في الأساسيات وأرقّ من الحرير في الفرعيات.
ولقد ظل ثابتًا كالجبال في أرض المبادئ والقيم والكليات، ويمور كالسحاب في سماء المتغيرات.. لا يتزحزح عن الحق قيد أنملة لكن حكمته تهبه مرونة شديدة تساعده على الانحناء أمام العواصف والانكماش أمام الأعاصير حتى تمر بسلام، وحتى في هذه اللحظات الحرجة فإنه يرمي بذور أفكاره المثمرة في مهب الريح، ليحوّلها بإذن ربه من ريح عاصف إلى رياح لواقح.
6- قدراته العابرة والعامرة
لقد امتلك من المواهب والقدرات والطاقات البانية ما يندر أن تجتمع في شخص واحد، فإن ذكاءه حاد وذهنه صاف، قريحته وقّادة وبديهته خاطفة، عقله راق وقلبه رقراق.
إنه شلال هادر يبرئ العليل ويبرد الغليل. فهو أديب أريب وطبيب عبقري، يستطيع شفاء الكثيرين من تورم الـ”أنا” وتضخم الذات، ويداويهم من تسفل المشاعر وتدني الغرائز.. يبني حول الإنسان حصونًا حصينة تَقيه من حرّ الخطايا وقرّ الدنايا، وتحميه من ذئاب الآثام وكلاب الموبقات.
إن قدراته تمكّنه من تصفية المياه من الأكدار، وتخليص المعادن من الشوائب، وتطهير النفوس من الأوشاب، وتنقية الحياة من الخطوب، وتساعده على إخماد نيران الفتن وإشعال مصابيح الفطن.
7- وَصْلُه الأقوال بالأفعال
يمتلئ كولن إيمانًا وخشية، فيتكلم حاله قبل مقاله، وتستقيم أفعاله وفق أفكاره، وتسير جوارحه وراء بوصلة روحه، وتسير عربة قالبه وراء حصان قلبه.
وظل يعتبر بأن العمل بدون إيمان نفاق، وأن الإيمان بدون عمل فسق، ومن هنا فقد وَصَلَ الأقوال بالأفعال حتى انطبق عليه قول الشاعر:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق اللسان يقول ما لا يفعل
ولهذا ارتقى في معارج الخدمة، حتى وجدتُ أن الإمام ابن قيم الجوزية (ت/751هـ) -وهو يتحدث عن خدمة المؤمن- كأنه يصف كولن، حيث قال (أي ابن القيم): “ليس العجب من صحيح فارغ واقف مع الخدمة، وإنما العجب من ضعيف مقيم تعتوره الأشغال، وتختلف عليه الأحوال، وقلبه واقف مع الخدمة، غير متخلف بما يقدر عليه”(1).
8- مهاراته البستانية
أثبت كولن أنه بستاني ماهر، فما فتئ يضع بذور الورود الربيعية في أحشاء الشتاء القارس. إنه يتقن إلقاء بذور الخير، واستنبات شتائل المعروف، وتثمير سنابل العطاء، وتثقيل عناقيد الكرم، وتفتيق مشاعر الجمال، وتفتيح أزهار العشق.
ولِتعَمْلق كولن في هذا السياق يصح أن نقول فيه ما قاله الشاعر العربي:
إنما أنت ربيعٌ باكر حيثما صرفه الله انصرف
9- طِبُّه النطاسي
ما فتئ كولن يعمل على تخليص المسلمين من أوجاع الجنوح، ويحلِّيهم بأجنحة السمو في عوالم الحياة الصّحية وفي سماوات القيم والمُثُل الراقية.
وظل يدأب من أجل معالجتهم من وحشة القلوب ووحشية النفوس، ولم يملّ من التحذير من الأفكار التي تصيب الإنسان باعتلال الصحة والمزاج، وقد تؤدي إلى قتله، وهو هنا يتفق مع علماء التنمية البشرية، ومنهم الدكتور إبراهيم الفقي الذي عارض مقولة أن “الناس يموتون بسبب ما يأكلون”، ذاهبًا إلى أن الناس يموتون بسبب ما يأكلهم وهي “الأفكار السيئة”.
10- براعته الإنقاذية
ظل يدأب من أجل استنهاض الناس من مراقد الضلال، وانتشالهم من مساقط الظلام، واستجماعهم من أنحاء التشظي، واستنقاذهم من مهاوي التردي.
وقد نجح في الغوص في أعماق المجتمع التركي حتى استطاع -بمعونة الله- استخراج كثير من الشباب من مستنقعات “الخليلات” واقتيادهم إلى بحيرات “الحليلات”، على سبيل المثال.
وفي زحمة الأعمال الإنقاذية وفي غمرة انشغاله بإطفاء الحرائق، لا أدري إن كان قد نسي أن يتزوج؟! أم أنه قد عقد قرانه على “الخدمة” بعد أن رأى عزوف أكثر المسلمين عنها؟!
11- قدراته الهندسية
أثبتت الأيام أن كولن مهندس قدير، وأنه مناضل جسور في تجسير كثير من الفجوات القائمة في حياة المسلمين والتي يتسلل منها الأعداء، وتتخفى فيها الآفات.
فقد بنى جسور التربية الفاعلة وهي المدارس، وبنى جسور التجارة النافعة من خلال جمعية “تُوسْكوُن”، وأوجد الجسور الفضائية التي تقيم اللحمة بين الناس وهي القنوات الفضائية، ومدّ الجسور الحوارية عبر منتديات الحوار، وتمثل هذه الجسور وغيرها جسورًا للأمة للعبور إلى المستقبل. ولغزارة الجسور التي بناها كولن فقد تحدثنا عنها في مقالة مطولة يمكن أن تصبح كتابًا(2).
وبسبب قدراته الهندسية عمومًا، فقد ألف المفكر الجزائري الدكتور سليمان عشراتي كتابه القيم: “هندسة الحضارة.. تجليات العمران في فكر فتح الله كولن”(3).
12- أخلاقه الرفيعة
امتلك كثيرًا من الخِلال العالية والخصال البانية، ومن الصعوبة بمكان الإحاطة بها في هذه العجالة.
وما نود الإشارة إليه هنا، هو أنه كلما ازداد عروجًا في سماء الأخلاق ازداد تواضعًا وانغراسًا في أرض الناس.
وعندما خفض جناح الذلّ لتلاميذه، أكبروه حتى رفعوا له جناحًا آخر هو جناح المهابة، حيث ارتفع عندهم إلى سماء العلياء وأعالي السماء.
13- جاذبيته الشديدة
امتلك عشرات الخصال الظاهرة والباطنة التي منحته “كاريزمية” آسرة وشخصية جاذبة، فقد ظل مع ربه يكثر الخلوة، ومع دعوته يشعل الصبوة، ومع إخوانه يطفئ ذُبالات الجفوة، ومع خصومه لا يميل إلى القسوة.
إذا تكلم أبان، وإذا جادل ألان، وإذا استطاع أعان. يمتلك قدرة هائلة على الإقناع، ومما يروى في ذلك أنه استطاع خلال بضع دقائق أن يحول مجرى حياة أحد رجال الأعمال 180 درجة، والذي كان قد بنى لأبنائه بضع فلل راقية في أحد أفخم مناطق إسطنبول تدعى “تل العرايس”، وجاء يريد التبرع بمغسلة للموتى، لكن كولن أقنعه بأن الأحياء أحوج إلى الغسل من الأموات، حيث تمتلئ الكثير من العقول والقلوب بالأدران، وحثّه على إرسال تلك الفلل إلى الآخرة حتى ينمّيها الله لأولاده، وقد صارت تلك الفلل مدرسة “جُوشْكون” في تلّ العرايس لتربية عرايس المستقبل التي يرابط في ثغورها أبناء الخدمة من تلاميذ كولن.
14- حسه الوحدوي
منذ بداية دعوة كولن وهو يحترم الكل ويحتضن الجميع، ينظر إلى كافة مكونات الأمة على أنها أعضاء في جسم واحد، ولو كان بعضها عليلاً.
يحسن الظن بالآخرين، ويبحث لهم عن أعذار، يفرش للجميع سجادة التسامح ويصبر على الأذى؛ لأنه يؤمن “أن هذه الدنيا ليست بدار شكوى، بل دار تحمّل”.
ويمتلك في هذا السياق مقدرة هائلة على جمع أوجه الحقيقة، وتأليف أبعاد الصورة، وعلى اقتلاع جذور الشرور واستزراع دوحات الخير، وقطع رقاب الفجور وإطالة أعناق التقوى، وعلى تمزيق أواصر العصبيات ومد جسور المودات.
إنه يهدم بؤر الفساد ببناء خلايا الصلاح، ويستأصل أشواك الاختلاف بتنمية فسائل الائتلاف.
وساعده على تنمية حسه الوحدوي حساسيته الشفافة التي جعلته رقيقًا وحذرًا في التعامل مع الآخرين، بل وجعلته يخطط لكل شيء بشكل دقيق وهو التدقيق الذي يشطر الشعرة إلى أربعين شطرًا كما يردّد دائمًا في كتبه.
15- حكمته البالغة
امتلك كولن دهاء الحاني وحنو الداهية، فما برح يعلّم تلاميذه كيف يتجنّبون الشراك، وكيف يبتعدون عن الشباك. يحدب على تلاميذه كعطف الدجاجة على أفراخها، مدربًا إياهم على الحذر من الوقوع في الفخاخ.
لقد علّم تلاميذه صعود الذُّرى العالية مع الحرص على تنفس الصعداء، وتنسم عبير الحرية وأريج الكرامة؛ حتى لا تخنقهم غازات العبودية ومخلفات الاستبداد والفساد.
لا تكُفُّ سحب حكمته عن الهطل في أرض عواطفه، زارعًا الأيْك التي تمنع تراب العواطف من الانجراف مع أعاصير الانفعالات الصماء وسيول الفتن العمياء.
وببراعة بالغة امتلك القدرة على العبور من “منطق الحق” إلى “نطاق الحكمة” في تعامله مع الخصوم، ولهذا لم يقابل الاعتداء باعتداء، ولم يفقد توازنه في أحلك الليالي، ولم ينفلت عن اعتداله في أحرج الظروف.
ولهذا يمكن اعتباره من فلتات الدهر، حتى يصح أن يقال فيه: حلف الزمانُ ليأتينّ بمثلِهِ
حَنَثَتْ يمينُك يا زمانُ فكفِّرِ
16- خدمته السابغة
يَعتبر كولن أن الخدمة هي الوظيفة المركزية التي خلق الله الإنسان من أجلها، ولهذا فقد انهمك في خدمة الناس حتى الإنهاك، حيث أصابته عدد من الأمراض القاتلة واستوطنته العديد من الأسقام الفاتكة.
وهو يرى أن الدنيا ليست دار جزاء بل دار خدمة، وفي تقسيمه للأرض لم يسِرْ وفق التقسيم التقليدي الذي يقسمها إلى “دار إسلام” و”دار كفر أو حرب”، بل قسمها إلى دار إسلام و”دار خدمة”.
وفي هذا السبيل ظل يشجّع كل عمل إيجابي مهما كان صاحبه، واستمر يحصد الشرور بمنجل الحكمة، ويقتلع الأشواك بفأس الفطنة.
وصارت روحه من الذكاء بحيث تعرف “كيف تستنبت الورود في قلب الفلاة، وتستخرج السكر من جوف القصب، وتحقق أرباحًا متنامية حتى في مواسم الكساد والخسران”، كما ورد عند توصيفه للإنسان الكامل في مقالته: “المجتمع المثالي”(4).
وكما استطاع كولن -بفضل الله- تحويل نار العلمانية المتطرفة في تركيا إلى برد وسلام، فهو قادر بإذن الله على تحويل الأكفان -التي يعدها للأمة أعداؤها- إلى قمصان.
(*) أستاذ الفكر الإسلامي السياسي بجامعة تعز / اليمن.
الهوامش
(1) الفوائد، ابن قيم الجوزيّة، ص:206.
(2) كولن وصياغة فقه الائتلاف، عبقرية فتح الله كولن، د. فؤاد البنا، ص:169، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013.
(3) هندسة الحضارة.. تجليات العمران في فكر فتح الله كولن، أ.د. سليمان عشراتي، دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013.
(4) مجلة حراء، العدد:31 (يوليو – أغسطس 2012).