من أجلك ارتمينا في هذا الطريق، لنشاطرك آلامك، ونخفف عنك أوجاعك، ونملأ قلبك بالبهجة والسرور.. لا تعتِب علينا يا صغيري. أجل، تهاونَّا، ما أسرعنا إلى نجدتك حين احتجتَ إليها. ولكن ثق أنّ تضرّع يعقوب وأنينه، وعشق زليخا وأشواقها، كان يمزق صدورنا ويزلزلها.
كلما رأيتُ قدَّك الرقيق منهدًّا من الحزن والأسى، تفتت قلبي وتناثر كخصلاتك المبعثرة. كم من مرة رأيتك حزين النظرات، مطأطِئ الرأس، فاغرورقت عيناي بالدموع، وأحسست أن ظهري يكاد ينقصم أسفًا. كلما أردت أن أقتبس نغمة من لحنك الحزين أضيفها إلى آهاتي الممتدة، صادحًا بملحمتك الكسيرة، إذا بأنينك يحرق قلبي حرقًا، وبآلامك تتعاظم في عيني، وتختنق العبارات بالعبرات.
لقد كنت أخجل من أن أمدَّ إليك يدي. كنت أستحيي من أن أواجهك بشفقتي المصطَنعة. كيف لا، وقد ذبحوك أمام عيني.. أمام عيني شعَّثوا ناصيتك، وألقوا بك في هذا الشقاء الذي تعاني منه. عندما أطفأوا عقلك، وأطعموا قلبَك لمعدتِك، رأيت كل شيء بأم عيني، كلَّ شيء، لكن وا حسرتاه لم أستطع أن أمد يديَّ الآثمتين إليك لأساعدك، لم أستطع وأنينُك يشقُّ عَنان السماء!
ما أشبه قدرك بقدر “فاوست”، لكن من هو “مفيستو” الذي تسبب في شقائك؟(1) من المجرم الذي ساقك إلى هذا المصير؟
في بلد آمن كنتَ.. مأوى دافئٌ يضمك.. يأتيك الرزق رغدًا، تشرق عليك الحياة باسمة. وإذا بك تهبط إلى ديار الوحشة هذه، وإذا بالندامة تعتصر فؤادك، وتصرخ “ليتني لم آت!”، ولكن.. هل كان بوسعك ألا تأتي؟
أتيتَ.. فوجدتَ فراغًا كئيبًا يخيم على كل مكان.. سعيتَ يمينًا ويسارًا تبحث عن قلب تألفه، فعدتَ من سعيك خاوي اليدين خائبًا.. ناديتَ فارتدَّ الصدى.. اخترقتْ أنَّاتك السماء، فما وجدتَ قربَك أحدًا.. أطلقتَ آهة بعد أخرى فلم يسمعها إلا أنت.
من سعى إليك أشبع طلبات بطنك فقط. أتدري يا صغيري؟! أنَّاتك التي تذيب أحشاء قلبي اليوم، منذ ذلك الوقت ابتدأتْ. مذ ذلك الحين بدأت غربتك فأصبحتَ مهجورًا، في الفترة التي كنت تملأ فيها الدنيا ضحكًا وحبورًا.. تلتقطك الأيدي، وتضمك الأحضان، مستمتعة بجمالك مبتهجة ببسماتك. كنت على الصدور، كنت على الثغور، كالوردة الندية. تلك العناية من أجلك كانت، لكنها خالية مما تتوق إليه روحك. غريبًا كنت بلا أنيس، وحيدًا كنت بلا جليس.
أَمسُكَ أنجب يومَك، ويومُك يمهِّد لغدوات مجهولة المعالم والآثار، إنك في مفترق طرق يا صغيري.
فَأْذَن لي اليوم أن أكون فدائيّك في هذه الجولة العصيبة. اسمح لي أن أضرب بريشتي من أجلك، وأوصل أنّاتي إلى روحك. لقد عجزتُ عن السعي إليك حين طلبتَ الغوث في غمرة العواصف والحرائق، فَأْذَن لي أن أضع رأسي الأثيم كأحجار رصيف تطؤه بقدميك، أعتذر إليك باسم كل المجرمين الآثمين: فاصفح يا صغيري عمن أنجبوك لمتعة زائلة، ومن تعلقوا بعَظْمك ولحمك وأغفلوا فؤادك ووجدانك، ومن ضحّوا بأبديتك من أجل دنيا عابرة، ومن حقنوا قلبك غلظة وخشونة وتمردًا، فكانوا سببًا في بؤسك وشقائك.
(*) نشر هذا المقال لأول مرة في مجلة سيزنتي التركية، العدد الأول، فبراير ١٩٧٩. الترجمة عن التركية: نوزاد صواش.
الهوامش
(1) ملحوظة: “فاوست” هو الشخصية الرئيسية في الحكاية الألمانية الشعبية عن الكيميائي الألماني الدكتور يوهان جورج فاوست الذي يحقق نجاحًا كبيرًا، ولكنه غير راضٍ عن حياته، فيُبرم عقدًا مع الشيطان (مفيستو) يسلّم إليه روحه في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات الدنيوية. وأصبحت هذه القصة أساساً لأعمال أدبية مختلفة لكتاب مختلفين حول العالم لعل أشهر هذه الأعمال هي مسرحية فاوست للأديب الألماني الشهير “غوته”. (المترجم)