إننا على مَشارفِ تحولات كبيرة وخطيرة، فالمجتمع لا يزال يتلوى من مخاض إلى آخر، ويوشك أن يَلِد أمورًا جديدة.. وقد انحرفت حشود البشر عن مسارهم الصحيح على مدى أعوام جراء وقوعهم في ألف تناقض وتناقض، ولذلك فَهُم في منتهى اليأس والقنوط حول المستقبل.. كما أن القلوبَ منهكة، والأذهان فقيرة، والإلهامات رديئة.

إن الجموع التي تزعزعت عوالمُها الروحية إلى هذا الحد، وصار مستقبلُها يعجّ بالفوضى، وبلغتْ قلوبها الحناجر، قد أصبحت تبحث عما يقوِّي رُكَبها ويربط جأشها.. فأهم المواضيع الحياتية بالنسبة للمجتمع هو أن يرى حواريَّه الذي يرجو منه الحياة والسعادة، ماثلاً أمامه وحاملاً معه رسالة الإيمان والأمل.

علينا أن نعلم قبل كل شيء أن الأمل مرهون بالإيمان، فالإنسان المؤمن هو الذي يتحلى بالأمل، ومقدارُ ما يتحلّى به المرءُ من الأمل إنما يكون بمقدار إيمانه. ومِن هذا المنطلق نرى أن أمورًا ناتجة عن الإيمان، يظنها البعض من الخوارق، والحال أنه إذا اتّحدَ الأملُ والعزم والتصميم مع قلب مليءٍ بالإيمان، فعند ذلك تُتخّطى حدودُ الأعراف البشرية، فيَظُن الذين لا يتمتعون بهذا المستوى من الحياة القلبية، أن ذلك من خوارق العادات.

وبالأخص إذا كان الإنسان قد أحسن اختيارَ الأمر الذي يؤمن به، وتَعلَّق قلبه بذلك الأمر، فلا مجال حينئذ للحديث عن اليأس والقنوط والتشاؤم في عالمه الروحي.

وإدراك المرءِ لآفاق وجوده إنما يكون بقدر ما يتحلّى به من الأمل، وبه يحيا المجتمعُ ويَدخل مرحلةَ التطور والنمو.. ومن هذا المنطلق فإن الفرد الفاقد لأمله لا يُعتبَر موجودًا، كما أن المجتمع المحروم من الأمل يكون مشلولاً عاجزًا.

إن الأمل مرهون بالإيمان، فالإنسان المؤمن هو الذي يتحلى بالأمل، ومقدارُ ما يتحلّى به المرءُ من الأمل إنما يكون بمقدار إيمانه.

إن الأمل عبارة عن اكتشاف الإنسان لروحه، وأن يكون حدسُه كاشفًا لما في روحه من القوة والقدرة الكامنة، وبهذا الحدس يُؤسِّس علاقةً روحية مع صاحب القدرة المطلقة، فيحرز بذلك قوةً تكفي لكل شيء، وبفضل ذلك تتحول الذرة إلى شمس، والقطرةُ إلى بحر، والجزءُ إلى كل، والروحُ إلى نفَس للكائنات.

لقد انتفض النبي آدم  عليه السلام بالأمل عندما لبّدَت سماؤُه وعسعسَ ليلُه وانكسرت عزيمته وبلغ قلبه حنجرته فقال: “إنني ظلمت نفسي”، و”إننا ظلمنا أنفسنا”، فاستمسك بعروة الحياة الوثقى مجدَّدًا، وأما الشيطان فقد تخبَّطَ في ما أساله قلبه من قيح اليأس وصديده، فغرِق في نهاية المطاف.

لقد خرج كل واحد من رجال القلب إلى الطريق حاملاً بيده مشعلَ الأمل، وبه تصدى للطوفان وتحدَّى العواصفَ وصارع الأمواج، فتحوَّل الأملُ لدى بعضهم إلى برعم “الجودي”، وعند بعضهم إلى جِنان “إرم”، وعند بعضهم إلى “يثرب” التي صارت “المدينة”.. وفي هذا الوادي أصبح كل واحد من أبطال الأمل عزيزًا لدى الحقّ، عَلَمًا بين الخلق.

لقد فاض عبدٌ أمازيغي بمشاعر الأمل والعزيمة فأضاف إلى أعمدةِ بُرج هرقل شهرةً جديدةً وأصبح بَطَلاً أسطوريًّا لبلادِ ما وراء البحار، كما أن سلطانًا شابًّا صار بالأمل “صاعقة” وغيَّرَ مسار الأدوار التاريخية ونال مراتب عالية لا ينالها إلا قليلٌ من الناس.

وهناك حالات ينتهي فيها كل شيء، وينقصم ظَهرُ الأمة، وتنكسر عزتُها ويُمرَّغ أنفُها بالتراب، فإذا بالإيمان والأمل يمارسان دورًا أسطوريًّا؛ فمن أخذ منهما بحظٍّ وافرٍ يستطيعُ أن يتحدى كل الكائنات بحسب درجة إيمانه، فلو دَمَّر الخصومُ نظامه خمسين ألف مرة فسيواصل طريقه من دون تزعزع واضطراب، وستتجلى فيه ملامح الوجود حتى في حالات العدم، ويبثّ الروح في الأرواح الميتة.

بالأمل يستطيع المرء أن يقطع مسافات بعيدة، وبه يتمكن من عبور بحار الدم، ولا يمكن التوصل إلى السعادة والنظام إلا بالأمل، والذين غُلبوا في عالَم الأمل سيُغلبون في واقع حياتهم أيضًا. فكم من أناس خرجوا إلى الساحة ببسالة وزهوٍ وتبختُرٍ، ولكنْ تعثرت أقدامهم على الطريق بسبب ضعف إيمانهم وآمالهم؛ فما إن يأتي زلزال صغير أو عاصفة مؤقتة أو فيضان عابر، إلا ويأخذ بعزيمتهم وإرادتهم ويجرفها معه، وأما الذين ربطوا آمالهم بهؤلاء ثم وقعوا معهم في مستنقع اليأس وغرقوا فيه، فهم في حال يُرثى لها بكل المقاييس.

والواقع أنه إذا لم يجد الإنسان الحقيقةَ ولم يعشقها قلبه، فليس من الممكن أن يلاقي غيرَ هذا الوضع المخزي؛ فالذين ربطوا آمالهم بالكراسي والمناصب، وتعلقت قلوبهم بالثروة والأموال، وأتلفوا أوقاتهم بالأمور المؤقتة العابرة والمنهدمة الزائلة، فلا محالة أنهم سيتعرضون للإحباط عاجلاً أو آجلاً.

بالأمل يستطيع المرء أن يقطع مسافات بعيدة، وبه يتمكن من عبور بحار الدم، ولا يمكن التوصل إلى السعادة والنظام إلا بالأمل، والذين غُلبوا في عالَم الأمل سيُغلبون في واقع حياتهم أيضًا.

وأما الأرواح التي تعشق من الألوان ما لا يبهت ومن الأنوارِ ما لا ينطفئ، فإن ليلها مشرقٌ مثل فلق الصبح، ونهارها زاهٍ بالألوان مثل رياض الجنان.. فآفاق هؤلاء لا تعرف الظلمات، وتتجول فيها الشموس واحدة تلو الأخرى، وتتعاقب عليهم الفصول وكأنها مَعارض لمناظرَ خلابةٍ تسحر العيون.

إن كُلاًّ مِن هؤلاء، مثل شجرة عملاقة ضَربتْ بجذورها في أعماق الأرض وفروعُها في السماء، لا يؤثّر فيهم شدة الثلج والبرَد ولا تدميرُ العواصف والأعاصير. فهذه القلوب المتعلقة بالأبدية والفيَّاضة بالأمل لا تُفرِّق بين موسم الربيع والصيف ولا الخريف والشتاء، بل تؤتي أكلها كلَّ حين، وتُقَدِّم ثمارها بكل سخاء، مثل ما هو متوقع من تلك القامة الشامخة.

إن أمتنا اليوم بقدر حاجتها إلى الغذاء والهواء، في حاجة إلى مرشدين صامدين ذوي عزيمة لا يَسخطون ولا يستاؤون ولا يسأمون، ولا ينتابهم اليأس والقنوط بتاتًا.. وأما الذين خرجوا إلى الطريق بِوَازع الترف، ولم يجدوا مبتغاهم الذي يوافق هواهم، ثم سقطوا في اليأس والقنوط، أو دخلوا في جدال مع خالقهم، فأولئك بعيدون عنا ونحن بعيدون عنهم بفراسخ، علمًا أن دَوَران الكون في مداره الواسع، لن يتحقق على حسب الفلسفة المتعفنة لهؤلاء البؤساء، ولن يجري وفقًا لهندستهم الفاسدة.

وفي هذه الأيام التي تتبسم لنا آلاف من براعم الأمل، بالإضافة إلى ما تحت التراب من آلاف البذور التي تنتظر سقوط الجمرة إلى الهواء والماء والتراب لتذيب الثلوج، نتمنى للقلوب المحرومة من الأمل أن تتحلى بالأمل والرجاء.

 

(*) نشر هذا المقال في مجلة “سيزنتي” التركية، العدد:23 (ديسمبر 1980). الترجمة عن التركية: أجير أشيوك.