إن من رحمة الله على هذه الأمة أن أرسل لها رسولا هو خاتم الرسل، بيّن لهم شرائع الدين وأحكامه أوامره ونواهيه، ليسيروا على الطريق المستقيم، وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم منّ الله على الأمة بالصالحين والمصلحين المجددين المذكرين بأحكامه العاملين بها، ومن ضمن هؤلاء الشيخ سعيد النورسي وابن عجيبة، فمع اختلاف البلاد والعادات اتفقت الغايات والأهداف، حيث يشير د. أحمد السعدي في في مقاله “الآلية البلاغية في تفسيريْ ابن عجيبة والنورسي الالتفات مثالاً” إلي هذا الأمر، وإليكم نص المقال.
وُلد النورسي (1876م) بعد وفاة ابن عجيبة بسبع وستين سنة (1809م). فالأول وُلد في تركيا العثمانية، فيما قضى الثاني بشمال المغرب الأقصى. ويبدو أنهما ترجّحا في حياتيْهما بين مرحلتين، عاشا بينهما محنة: خاض ابن عجيبة عباب التصوف بُلبس الخرقة والتجرّد، واصطدم بفقهاء تطوان وعايش التجربة السّجنية، وعاش النورسي مرحلة “سعيد الجديد” وعانى ثمراتها في اصطدام مع “سعيد القديم”، ومع النظام السياسي والفكري الحادث في تركيا، وعايش أيضا تجربة سلب الحرية مرات كثيرة.
والواقف على سيرتيْ الرجلين يدرك مواطن الائتلاف أكثر من الاختلاف: الدين (الإسلام)، والعقيدة (أهل السنة والجماعة)، والتصوف (السنّي)، والغاية (الإصلاح)، والانتقال (الرحلة والنفي والتهجير)، والشخصية المتميزة (النعت بالأعجوبة)… كلها أمور مشتركة بين الرجلين.
ولسنا هنا بِصَدَدِ استدعاء السيرتين، وإنما بِسَدَدِ[1] الاهتبال باستثمار الآلية البلاغية في تفسيريْ المنوّه بهما، وخاصة ظاهرة الالتفات. وسيكون مبتغانا اقتفاء آثارها في كتابيْ “البحر المديد” لابن عجيبة، و”إشارات الإعجاز، في مظان الإيجاز” للنورسي. ما دواعي التأليف والتزاماه؟ وما صلة البلاغة بالتفسير؟ وما الالتفات؟ وأين يتجلى في التفسيريِن؟
دواعي التفسير والتزاماه
ألّف ابن عجيبة تفسيره المسمّى “البحر المديد، في تفسير القرآن المجيد”، بإيعاز من شيخيْه في التصوّف، يقول في مقدمته: “وقد ندبني شيخي العارف الرباني سيدي محمد البوزيدي الحسني، وكذا شيخه القطب الجامع شيخ الشيوخ مولاي العربي الدرقاوي الحسني، أن أضع تفسيرا يكون جامعا بين تفسير أهل الظاهر وإشارة أهل الباطن، فأجبت سؤالهم، وأسعفت طلبهم..”.
في حين ينتفي التأليف بالإيعاز لدى النورسي الذي وضع “إشارات الإعجاز” استجابة لنداء داخلي في قوله: “ثم إني بينما كنت منتظرا ومتوجها لهذا المقصد بتظاهر هيئة كذلك.. إذ سنح لقلبي من قبيل الحس قبل الوقوع تقرّب زلزلة عظيمة، فشرعتُ مع عجزي وقصوري، والإغلاق في كلامي، في تقييد ما سنح لي من إشارات إعجاز القرآن؛ في نظمه وبيان بعض حقائقه[2].” ويرى محمد العمري “أن الجانب التطبيقي من الكلام حول القرآن الكريم يتلخّص في الالتزامين التاليين:
أ. الدفاع عن النص القرآني، ودفع الشبهات عنه (التنزيه).
ب. بيان وجه الإعجاز (المزية).
المحاوَر في الحالة الأولى هم المشكّكون في الوحي، ولذلك لم يتردد ابن قتيبة في نعتهم بالملحدين.. [وهم] موضوعون بالنسبة للمؤلف خارج الدائرة… والمحاوَر في الحالة الثانية هم المسلمون القائلون بالإعجاز المختلفون في وجهه، ولذلك يجري معهم الحوار من داخل النص[3].” فأين يمكن إدراج تفسيريْ ابن عجيبة والنورسي؟
يأتلف التفسيران في صدورهما عن ذات عالمة متصوفة ملمّة بعلوم الدين، إضافة إلى العيش في مجتمع مطمئن ومستقر عقديا إلى حدّ ما، لذلك فطبيعي أن يطغى الالتزام الإعجازي أكثر؛ لأن التفسيرين يخاطبان متلقيا مسلما قبل كل شيء. وقد بقي الأمر ثابتا لدى ابن عجيبة، حيث توفي بعد حوالى عقد من وضع التأليف، ولم يقع ما يغير التزامه، وقد التزم ببيان أوجه الإعجاز، على الرغم من استثماره لبعض المباحث الكلامية في المجال العقدي كعرضه لأدلة الربوبية والألوهية وردِّه على بعض الفرق.
أما بالنسبة للنورسي، الذي ألّف “إشارات الإعجاز” في السنة الأولى 1918 من الحرب العالمية الأولى على جبهة القتال[4]“؛ أي قبل سقوط الخلافة، وظهور نظام آخر بمنحى فكري وإيديولوجي مختلف تماما، مما جعله يتصدى له (استرجاع دور ابن قتيبة) بتأليف بقية “رسائل النور” التي عدّها تفسيرا للقرآن الكريم.
والواقف على سيرتيْ الرجلين يدرك مواطن الائتلاف أكثر من الاختلاف: الدين (الإسلام)، والعقيدة (أهل السنة والجماعة)، والتصوف (السنّي)، والغاية (الإصلاح)، والانتقال (الرحلة والنفي والتهجير)، والشخصية المتميزة (النعت بالأعجوبة)… كلها أمور مشتركة بين الرجلين
كان الهاجس الأبرز إبان ذلك هو إنقاذ الإيمان لا الاقتصار على بيان الإعجاز البلاغي. فربما لو بقيت الخلافة العثمانية كما هي، لما ألّف النورسي الرسائل ولاستمرَّ في تأليف “إشارات الإعجاز” حيث يقول: “ولولا موانع الحرب العالمية، فقد كانت النية تتجه إلى أن يكون هذا الجزء وقفا على توضيح الإعجاز النظمي من وجوه إعجاز القرآن، وأن تكون الأجزاء الباقية كل واحد منها وقفا على سائر أوجه الإعجاز[5].”
ومن ثم، فقد عاد إلى الالتزام الأول؛ أي الدفاع عن القرآن ودفع الشبهات عنه (التنزيه). ذلك أن الخلافة سقطت، فاختُلَّ الاستقرار العقدي بظهور الإلحاد، لذلك كان تقديم مصلحة الإيمان على الإعجاز أمرا مُلِحًّا في تلك الفترة. نقول بأن “البحر المديد” و”إشارات الإعجاز” مؤتلفان أيضا في التحفّي بإعجاز القرآن، وبيان بلاغته ومظاهرها، ومنها الالتفات.
البلاغة والتفسير
لما كانت غاية التفسير الإبانة والشرح والتبليغ، فقد توسل بالآلية البلاغية واستثمرها في تعامله مع النص القرآني منذ أوائل المفسرين كابن عباس وأبي عبيدة والطبري… وهذا الزركشي يعبر عن ذلك بقوله: “وهذا العلم [البلاغة] أعظم أركان المفسر، فإنه لابد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز من الحقيقة والمجاز وتأليف النظم، وأن يواخيَ أي بين الموارد، ويعتمد ما سبق له الكلام حتى لا يتنافر…[6]“، وقد تجلّى استثمار هذه الآلية عند المتأخرين من أمثال الزمخشري وأبي السعود والسيوطي وغيرهم.
بمعنى أن الآلية البلاغية كانت على عهدهم وسيلة لتحليل الخطاب القرآني والأدبي.. قبل أن تنغلق على نفسها وتتصل بالمنطق الذي صارت بموجبه مكتفية بالتزيّد في التفريعات والجزئيات مع السكاكي وحازم والسجلماسي وابن البناء.. لتتحول هذه الآلية من تحليل الخطاب إلى الوقوع في الاستهواء المنطقي.
مهما يكن، فيوجد اتفاق بين القدامى على الاعتبار الكبير للبلاغة في التفسير، وهو ما ينصّ عليه إلى جوار الزركشي ابن خلدون الذي يقول: “وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسّرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفلٌ عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري…[7].”
وقد اقتبس كلا المفسرين (ابن عجيبة والنورسي) من “كشّاف” الزمخشري، إضافة إلى كتب البلاغة مثل “دلائل الإعجاز” للجرجاني، و”الإيضاح” و”التلخيص” للقزويني، و”مفتاح العلوم” للسكاكي.. من ثم، يرى ابن عجيبة ضرورة البلاغة عموما للتفسير في قوله: “وتتأكد معرفته؛ (أي علم المعاني) لمريد التصدي للتفسير؛ إذ لا تُعرف بلاغة القرآن وإعجازه إلا من هذا العلم[8].”
كما يؤكد النورسي على استثماره لنظرية النظم الجرجانية في تفسيره حيث يقول مثلا: “إن مقصدنا من هذه الإشارات تفسير جملة من رموز نظم القرآن؛ لأن الإعجاز يتجلى من نظمه…[9]“، بل تجد في كل صفحة من الكتاب ذكرا لهذه الكلمة، مما يعني أن النورسي استوعب الآلية البلاغية “لاسيما كتب النحوي البلاغي الكبير عبد القاهر الجرجاني، حيث آمن بنظريته المشهورة في النظم، وأعجب بها أيما إعجاب في هذا الكتاب[10].”
من هنا يبدو أن المفسرين قد تجاوزا التفسير النقلي إلى التفسير المعتمد على “معرفة اللغة والإعراب والبلاغة في تأدية المعنى بحسب المقاصد والأساليب[11].” فتفسير ابن عجيبة نُعت بأنه إشاري والآخر بأنه نَظْمي (قائم على نظرية النظم). لذلك، سنركز على تجلية استثمار الآلية البلاغية في تفسيريْ المنوّه بهما، خاصة آلية الالتفات التي سنحاول اقتفاء آثارها وبيان مواضع ورودها، قبل التعريف بها وبنبذة عن تاريخها في البلاغة العربية.
نبذة عن الالتفات
فلنبدأ بالدلالة اللغوية، حيث إن الالتفات في اللغة من لفت وجهه عن القوم: صرفه. والتفت التفاتا، والتلفت أكثر منه. وتلفت إلى الشيء والتفت إليه: صرف وجهه إليه. ويقال: لفت فلانا عن رأيه أي صرفته عنه ومنه الالتفات[12].” أما في الاصطلاح، فهو ظاهرة بلاغية تعني في أبسط تعريفاتها عند الزركشي أنها “نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب آخر[13].” ومن المرجح أن يكون الأصمعي (213ﻫ) هو أول من سماه كذلك. “وحكي عن إسحاق الموصلي أنه قال: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: وما هي؟ فأنشدني:
أتنسى إذ تودِّعُنا سُليمى *** بعودِ بَشامَةٍ سُقِيَ البَشامُ
ثم قال: أما تراه مقبلا على شعره، إذ التفت إلى البشام فدعا له[14].”
ثم ورد الالتفات عند أبي عبيدة في مجاز القرآن بصيغة “مخاطبة الغائب مخاطبة الحاضر، والعكس”. وعند ابن المعتز (299ﻫ) في كتابه “البديع” بقوله: “وهو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الإخبار، وعن الإخبار إلى المخاطبة[15].” وتم التركيز بكثرة على الشاهد القرآني الذي أورده ابن المعتز وهو قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ﴾ (يونس: 22).
ثم تطور المفهوم عند قدامة بن جعفر (337ﻫ) والحاتمي (388ﻫ) وأبي هلال العسكري (395ﻫ) والثّعالبي (420ﻫ) وحازم القرطاجني (684ﻫ).. واتسعت دلالته مع ابن رشيق (456ﻫ) والفخر الرازي (606ﻫ) وابن أبي الإصبع المصري (654ﻫ). وأخيرا استقرت دلالته مع الزمخشري وضياء الدين ابن الأثير (637ﻫ) والزركشي والعلوي (479ﻫ) والسيوطي والسكاكي..
ويبدو أن تتبع مفهوم الالتفات قد سُبقنا، إليه لذلك لا لزوم لتَكرار ذلك، وإنما نريد أن ننبه على تعدد المصطلحات الدالة عليه بين البلاغيين المتقدمين والمتأخرين، حيث إن “الأمر اللافت للانتباه أن مصطلح الالتفات على كثرة تردده في موروثنا النقدي والبلاغي قد لقي قدرا غير قليل من الخلط والاضطراب لم يتعرض لمثله مصطلح بلاغي آخر[16].”
فقد ورد بمسميات عديدة منها إلى جانب الالتفات: مخاطبة الغائب مخاطبة الحاضر والعكس، والانصراف، والاستدراك، والاعتراض، والصرف، والعدول، وخطاب التلوّن، ومخالفة مقتضى الظاهر، وشجاعة العربية.. وهي مصطلحات دالة على مفهوم واحد، لكن لا جَرَم أنها تخلق اضطرابا لدى المتلقي في استيعابه لمفهوم الالتفات، وقد ذكرنا تعريف الزركشي، ابتغاء الخروج من هذا الاضطراب، ولنَرَ كيف قارب ابن عجيبة والنورسي ظاهرة الالتفات في تفسيريْهما؟
- مظاهر الالتفات عند ابن عجيبة والنورسي
سنستعرض، هنا، أمثلة انتقائية من الالتفات في “البحر المديد” و”إشارات الإعجاز”، لبيان استثمار كلا المؤلفين لهذه الظاهرة البلاغية محاولين الموازنة بين منظوريْهما، وذلك وفق ما يأتي:
أ. الالتفات في “البحر”
يرد الالتفات عند ابن عجيبة صريحا ودالا عليه باسمه المشهور به، بل يذهب إلى تعليله:
ـ وفي هذا المثال الذي يأتي به في تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس: 21). يقول: “وفيه التفات من التكلّم إلى الخطاب، ومقتضى الظاهر: وإليه أرجع. والتحقيق أن المراد: ما لكم لا تعبدون. لكن لما عبّر عنهم بطريق التكلم تلطفا في الإرشاد بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح، حيث أراد لهم ما أراد له، جرى على ذلك في قوله: “وإليه ترجعون”. والمراد: تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره[17].”
ـ وينتقل هنا إلى ربط الالتفات بأسلوب التقريع في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ءلادَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ اَمْرِ رَبِّه،ِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُو، بِيسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا﴾ (الكهف: 49). وفي الالتفات إلى الغيْبة، مع وضع الظاهر موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخَط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى[18].”
ـ وهنا يمزج بين بيان علميْ البلاغة والقراءات، حيث يبين الالتفات في الآية في وجه آخر لقراءتها في قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ. الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ. كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ﴾ (النبإ: 1-5)؛ سيعلمون عن قريب حقيقة الحال إذا حلّ بهم العذاب والنّكال. ثم “كلاّ سيعلمون” تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد.. وقُرئ “ستعلمون” بالخطاب على نهج “الالتفات” تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير “قل لهم”، للإخلال بجزالة النظم الكريم[19].”
ـ نستتمُّ هذه الأمثلة بتفسيره للآية المستشهد بها كثيرا تلكم هي قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾ (يونس: 22). ويبين فيها وجه المبالغة في الالتفات حيث يقول: “وجرين بهم، بمن فيها، عَدَلَ عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنه تذكرة لغيرهم، ليتعجّب من حالهم، ففيه التفات. ومقتضى القياس: وجرين بكم بريح طيبة، ليّنة الهبوب[20].”
يبدو في هذه الالتفاتات حرص ابن عجيبة على ذكر الالتفات بلفظه، وسياقه (المبالغة، التقريع..) وشرح طريقة وروده في الآيات الكريمات، في توسل بمقوّمي الإعراب والقراءات.
ب. الالتفات في “الإشارات”
استحضار ظروف التأليف آكد هنا، فقد وُضع هذا التفسير في حال حرب من دون عُدّة مصدرية متخصصة أو عامة، مما يعني أنه قائم على الذاكرة في كل شيء شيء. وعلى الرغم من ذلك، نجد عند المفسِّر وقوفا عند الالتفات وضبطه وبيان دوره في السياق القرآني. ونتيجة لذلك فلم يَعْدُ تفسيرُه الزهراوين (الفاتحة والبقرة)، لذلك فكل الالتفاتات واقعة فيهما، وأكثرها في البقرة من خلال الأمثلة الآتية:
ـ لاحظ النورسي اختصاص الفاتحة بأمور عدة، من بينها الانتقال في الضمائر في قوله تعالى: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ﴾ حيث يقول: “في الكاف نكتتان: إحداهما: تضمّن الخطاب بسرّ الالتفات للأوصاف الكمالية المذكورة؛ إذ ذِكْرُها شيئا شيئا يحرّك الذهن ويُعِدّه ويملأه شوقا ويهزّه للتوجه إلى الموصوف..[21].”
ـ وفي قوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة: 6). يفتتح النورسي تفسيره لهذه الآية بذكر بعض المقدمات المنطقية، وبغيتنا تحديدُه للالتفات في قوله: “وأما “الله” فاعلم أنّ فيه التفاتا من التكلّم إلى الغيبة.
ومع نكتة الالتفات، ففي مناسبة لفظ “الله” مع متعلّق “لا يؤمنون” في النية؛ أعني لفظ “بالله”، إشارة إلى لطافة، هي أنه لما جاء نور معرفة الله إليهم، فلم يفتحوا باب قلبهم له تولى عنهم مغضبا، وأغلق الباب عليهم[22].” الالتفات هنا قام على العدد (جمع- إفراد- جمع).
ـ هنا يعمد النورسي إلى استقصاء الالتفات في قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 20) بقوله: “وأما نظم كيفيات وهيئات جملة جملة، فاعلم أن كلمة “يا أيُّها” في جملة “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا” قد أكثر التنزيل من ذكرها لنكت دقيقة، ولطائف رقيقة؛ إذ هذا الخطاب مؤكد بوجود ثلاثة: بما في “يا من الإيقاظ، وما في “أيّ” من التوسم، وما في “ها” من التنبيه.
فالخطاب هنا رمز إلى فوائد ثلاث: مقابلة مشقة التكليف بلذة الخطاب.. وأن ترقّيَ الإنسان من حضيض الغيبة إلى مقام الحضور إنما هو بواسطة العبادة[23].” والملحظ أنه هنا لم يستعمل مصطلح الالتفات صراحة، واستغنى عنه بذكر الترقّي من الغيبة إلى الحضور، كما يركّز على دلالات الحروف في سياق الالتفات.
ـ كما نلحظ في وقوفه عند قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمُ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ، ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (البقرة: 27) إبرازه للالتفات وعملِهِ في الآية الكريمة في قوله: “وأما نظم الجمل، فاعلم أن هنا التفاتا من الغيبة إلى الخطاب؛ إذ حكى عنهم أولا ثم خاطبهم، لنكتة معلومة في البلاغة وهي: أنه إذا ذكر مساوئ شخص شيئا فشيئا تزيد الحدة عليه، إلى أن يلجأ المتكلم، لو كان إنسانا، إلى المشافهة والمخاطبة معه.. وكذا إذا ذكرت محاسن أحد درجة درجة يتقوّى ميل المكالمة معه إلى أن يلجأ إلى التوجه إليه والخطاب معه. فلنزول القرآن على أسلوب العرب التفت فقال:”كيف تكفرون” مخاطبا لهم[24].”
يركّز النورسي في تجلية الالتفات على ربطه بالجانب النظمي، وبيان وظيفة الحروف في بنية الجملة، ولا يتردد في تفكيك مكونات الكلمة المركبة أو الجملة لذاك الغرض. والغاية التوصل إلى فهم الخطاب القرآني واستيعابه. وليس من الضروري أن يرد الالتفات بمصطلحه الدال عليه عنده، بل أن يفهم من السياق بمرادفاته الأخرى. وإن كان واعيا به وذلك لا يخفى؛ لأنه متضلع من علم البلاغة، حيث “ارتقى مفهوم البلاغة عنده من مجرد (مطابقة الكلام لمقتضى الحال) أو (مراعاة المقام) كما هو عند البلاغيين، الذين سبق نقده لهم بشدة.. إلى مراعاة أركان الكلام كله بدءًا بالمتكلم وانتهاء بالمتلقي[25].”
غبَّ ما سلف، نقول بأن مقاربة الجانب البلاغي في تفسيريْ ابن عجيبة والنورسي يستلزم جهدا كبيرا، وما نقرُّ به أن بضاعتيْهما في هذا الباب غير مزجاة، وهي تنمُّ عن تمكّن وتضلع كبيرين، مما مكّنهما من توظيف التنبيه على الالتفات بصفته إحدى مظاهر البلاغة القرآنية. ولا غرو أن هذا التنبيه والتنبّه قد تسلسل إليهما من نمط التعليم الإسلامي الذي تلقياه على عهديهما القائم على التخصص والموسوعية، إذ التفسير جماع العلوم والتخصصات، وليس بمفسّر من لم يستبحر.
الهوامش
[1]. السدد: القصْد في القول والوَفْقُ والإِصابة. لسان العرب: سدد.
[2]. إشارات الإعجاز، ص21.
[3]. البلاغة العربية، ص142-143.
[4]. إشارات الإعجاز، ص17. وفي الفترة نفسها وضع كتابه “المثنوي العربي النوري”.
[5]. إشارات الإعجاز، م، س، ص18.
[6]. البرهان في علوم القرآن، 1 تحقيق: محمد أبي الفضل إبراهيم، القاهرة، 1958، ص312.
[7]. مقدمة ابن خلدون، ضبط المتن: خليل شحادة، مراجعة: سهيل زكار، بيروت: دار الفكر، 2001، ص762.
[8]. حسن عزوزي، الشيخ ابن عجيبة ومنهجه في التفسير، 2 منشورات وزارة الأوقاف، الرباط، 2001، ص316.
[9]. إشارات الإعجاز، م، س، ص23.
[10]. إشارات الإعجاز، م، س، (مقدمة محسن عبد الحميد).
[11]. مقدمة ابن خلدون، م، س، ص555.
[12]. لسان العرب: لفت.
[13]. البرهان، 3 ص314.
[14]. ابن رشيق، العمدة، 1 تحقيق: محمد قرقزان، بيروت، 1988، ص639.
[15]. البديع، تحقيق: عبد المنعم خفاجي، بيروت، 1990، ص152.
[16]. حسن طبل، أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية، القاهرة: دار الفكر العربي، 1998، ص12.
[17]. البحر المديد في تفسير القرآن المجيد، 1 تحقيق: أحمد عبد الله القرشي رسلان، القاهرة، 1999، ص564.
[18]. الشيخ ابن عجيبة ومنهجه في التفسير، م، س، 2 ص319.
[19]. البحر المديد، م، س، 6 ص354.
[20]. المرجع نفسه، 2 ص461.
[21]. إشارات الإعجاز، م، س، ص30.
[22]. المرجع نفسه، ص84.
[23]. المرجع نفسه، ص158.
[24]. المرجع نفسه، ص214.
[25]. فريد الأنصاري، مفاتح النور، إستانبول، 2004، ص259.