في إطار التعريف بفكر الأستاذ محمد فتح الله كولن، نجد أن هذا المفكر المجدد النهضوي، يبحث حقيقة عن كشف جوانب التفرد والخصوصية في مناهج التنقيب عن آليات حفر التكلس الحضاري لأمتنا، محاولاً إيجاد أدوات بحث كفيلة بتذويب وتفكيك عقد داء الانفصام الحضاري، وتبيان أن كيان الأمة فيه من القوة والمناعة ما يؤهله لخوض منافسات حضارية عالمية إنْ هو امتثل لمراجعة أطباء الفكر وصنّاع مجد النهضة، والتزم بتوجيهات وَصْفاتهم المعرفية لإعادة بناء الذات واكتساب قوة المناعة ضد معيقات الفعل الحضاري عامة.
إن خطة الأستاذ “فتح الله كولن”، وإستراتيجيته في البناء الحضاري، وأسلوبه في الإصلاح والتجديد، يعكس فكره وفلسفته في الحضارة وفي التاريخ، والحاضر، والرؤية المستقبلية. وهي خطة تعتمد على منهج الفعل أكثر من منهج التنظير والقول، حيث استطاع -ببعد فكره الثاقب- أن ينقل الإنسان من مرحلة التعبير عن وضع عالم التخلف والانحطاط والبكاء على مظلومية من سبب تخلف أوضاعه وقهر تطلعاته وآماله، إلى مرحلة الإنجاز والفاعلية وتقوية الإرادة بتزكية النفس والروح، وتسخيرهما معًا نحو الفعل والعطاء والإيثار وهي الوسائل والسبل الكفيلة بالانتقال من عالم التخلف إلى عالم التجديد والتحضر، من عالم الوقوف عند نقطة البدء إلى عالم الانطلاق نحو الأفق الحضاري، من عقلية الاتكال والانهزام والمؤامرة إلى عقلية الإرادة والتفاؤل والإنجاز والمحاسبة.. وهي إستراتيجية -حقًّا- تستحق العناية والاهتمام البالغ في الفكر النهضوي المعاصر للعالم الإسلامي، وجديرة بالدراسة والبحث والاستثمار.
إن الإشكالية التي يعالجها المفكر فتح الله كولن في كتاب “ونحن نبني حضارتنا”، تؤسس لآليات إستراتيجية البناء الحضاري، وتدور حول البحث عما تتميز به هذه الإستراتيجية عن غيرها من المحاولات الفكرية، والمبادرات الفلسفية التي سبقتها أو تلك التي عاصرتها. ومحاولة الأستاذ فتح الله، أفرزتها ظروف تاريخية، دينية وفكرية وسياسية واجتماعية، عرفها العالم العربي الإسلامي الحديث والمعاصر، وشاهدتها المحاولات الإصلاحية الأخرى، لكنها لم تكن في مستوى محاولة المفكر فتح الله كولن؛ إذ ركز على نظرية الحضارة، وعلى أسس ومعالم وملامح فلسفة هذه النظرية، كما وقف على ظاهرة التجديد الحضاري من حيث أسس بناء الثقافة الرصينة والاحتفاظ بالجذور الروحية، ودور الجاهزية النفسية في البيئة الداخلية محور الذات، وآليات التمكين الذاتي والمجتمعي، وموازنة الفرد فلا وقوف عند السكون والجمود، ولا فوضى في الحركية غير الممنهجة.
إن خاصية ملمح إستراتيجية التجديد الحضاري عند المفكر فتح الله كولن، تستند إلى تحريك الإيمان كمولد الطاقة (الدينامو) الأساس للإنسان الحركي، وإلى العبادة سند الوقاية المناعية، والأخلاق الإنسانية العلامة المميزة لنجاح أسس النهضة.. كما ترتكز على وظيفة العقل كمركز لحراسة الروح من الاضطراب، وأداة لتوجيه الإنسان نحو التفكر والإدراك والفهم.. كما اهتم بمراعاة أولوية المستقبل في بناء الفهم الثقافي مع استحضار الزمن التالي وتطويره في الزمن الذاتي لاستشراف المستقبل. فتفهّمُ حركية الوحي ومصادر الشريعة وروح الإسلام، تحفز قوة الإرادة الفردية وتصون الروح والعقل معًا، وتحصّن الفرد بلقاح الممانعة نحو سبل تجنّب أسباب التراجع والهبوط الحضاري، كما تؤهله نحو الرقي والتميز داخل فضاء المنافسة الحضارية العالمية.
وبالتالي فخصوصية المفكر فتح الله كولن، تكمن في رؤيته المستقبلية لطرق وآليات البناء الحضاري، وذلك بالنزول الفوري إلى مختبرات الواقع بخطة استعجالية تحفز روح الإرادة والفاعلية لدى جيل الناشئة، وتقوي عنصر الثقافة الذاتية، وتحيي مبادرة تفعيل قدرة الإنجاز وتحريك القابلية. وهي خطة لم تدع فقط إلى النفير الحضاري، وإنما إلى عقد حزمة النفير بالنزول إلى واقع التعليم وتطوير إستراتيجية الفكر والتعليم، باستلهام أقوى المناهج التربوية المستقاة من المصادر الأساسية لميراثنا الثقافي (القرآن الكريم، السنة النبوية، الإجماع، القياس، الاستحسان، المصلحة، التصوف، علم الكلام، العرف والعادة، العمل)، وهي مناهج كفايات معرفية ذاتية حرّكت عقلية الإنتاج المعرفي لإبداع منهج “الزُّمَر”، كما استلهمت منهج السنة النبوية في الكفايات النفسية من خلال التزكية التربوية، باستثمار منهج “الصحبة” في التوجيه والترشيد والتتبع الأخلاقي للمعارف.
إن المفكر فتح الله كولن، استطاع -فعلاً- أن يحرك النفير الحضاري في تركيا حين استقطب أبناء النفير من مهندسي عالم الفكر، وحوّلهم إلى بناة جسور المعرفة والفكر في البلاد -من أدناها إلى أقصاها- عبر مشاغل البحث في الثقافة الذاتية، ومدارس تحتضن مناهج ذاتية غير مستوردة؛ مناهج تخدم مستقبل بيئة فلسفية لواقع حياة المسلم الذاتية. وقد اعتمدت خطة رؤيته المستقبلية، النزول إلى مختبرات تركيب وتحليل لمنطق محاكمة العقل الذاتي للفرد المؤهل بثقافته الرصينة، للانبعاث الثقافي، وجودة الإنتاج والعطاء الحضاري محليًّا وعالميًّا.
إن منهج الرؤية المستقبلية للمفكر فتح الله كولن، تكمن في قدرته على فك لغز الكلمة المفتاحية لفتح القلوب حين حلل خصائص الشهادة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وبيّن أن كل الخصائص الإيمانية -حسب الإسلام- تتأسس على هاتين الجملتين الوجيزتين اللتين هما تعبير عن حقيقة لها وجهان؛ أحدهما غاية، والأخرى وسيلة. ثم ربط الخصائص الإيمانية بالمعرفة الإنسانية، وضبط حركية العطاء المعرفي بدينامو الإيمان الروحي.. “فالإيمان الذي هو كـــ”شجرة طوبى” تنشأ من هذه البذرة، فتغطي بما تؤتي من ثمار المعرفة، سماءَ حس الإنسان وشعوره وإدراكه.. ثم تستحيل العلوم والمعارف كلها إلى العشق والاشتياق والحرص بحملة داخلية وشعور وحس داخلي، ليحاصر ذاك الإنسانَ من كل جهة، فيصيّره إنسانًا جديدًا قائمًا على محور الوجدان.. فتنعكس هذه الحالُ على كل سلوكيات هذا الإنسان العاشق المشتاق، وتتمحور حملاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية كلها حول هذه القوة الجاذبة “إلى المركز””.
كما استلهم خطه الاستشرافي الرسالي الحضاري، بالوقفة النبوية مع منهج النبي وآليات بنائه الحضاري؛ حيث ركز على العناصر الأساسية التي ساهمت في تشكيل الظاهرة الحركية الإرادية الإنجازية التغييرية لزمن النبوة وهي:
- عالم العقيدة الإسلامية، الله، الكون والإنسان.
- المنهج النبوي في البناء الحضاري “مرتبط بالسنن، وبمنهج روح الإيمان وإكسير الوحي الذي يرشد به الأنبياء خط فاعلية الشهود الحضاري”.
- الإنسان بمواريثه وأمراضه الكونية والاجتماعية، عليه أن يتذكر ما تذكره أجداده في العصور الذهبية “بأنهم خلفاء الله في الأرض”.. عليه أن يتحرر من قيود التبعية والتقليد، وأن يجدد في دائرة مقوماته الذاتية.. يبحث ويتعمق في الفهم على الدوام، حتى يصير أستاذًا يعلّم الإنسانية دروسًا في قيم رحاب معارف الحضارة العالمية.
- ثقافة المجتمع، وتاريخه، ومؤسساته، ميراث الإنسانية عمومًا. فعملية التأثير والتأثر بين فلسفة الحياة لأي مجتمع، ونمط سلوكيته، هي الطريقة المثلى لتوحُّد المجتمع وتَطابقه مع فلسفة حياته وأسلوبه الذاتي وطبيعته التاريخية، حتى يصبح مجتمعًا مستقرًّا بماضيه وحاضره، ومنفتحًا على العقل والفكر والوحي، وإلا فإن الأمور الفلكلورية التي لم يكتمل سياق تطورها، والتي تم نسجها من العادات والتقاليد والهويات وما يُشبِع الغرائزَ والأذواق -حتى المؤلّهة منها- ما هي إلا نماذج خادعة من العدم والعوز الثقافي.
وبالتالي فالثقافة بالنسبة لفتح الله كولن، تكتمل بالانفتاح على كل الأنشطة الفكرية والذهنية المرتبطة بواقع الإنسان، وهي خلاصةٌ وعصارةٌ للخلطة المشتركة لتلك الأنشطة. لذلك، فإن الواجب يحتم علينا -حسب المفكر فتح الله كولن- أن نكافح من أجل الحفاظ على ذاتيتنا بالارتباط بمنظومتنا العقدية والفكرية، والتوجه نحو ثقافتنا ونتاجها. وأن نقوم بتحقيق ألوان جديدة من الفكر والعرفان -إذا اقتضى الأمر- فوق أطلسنا الفكري.
البيئة المؤسِّسة للبناء الحضاري
البيئة ظلَّت مصدر القيم الثقافية في كل الحضارات سابقها وحاضرها، ويسميها المفكر فتح الله كولن بــ”البيئة العامة” التي تكون حركية “شمولية” تتنفسها جميع شرائح المجتمع كالهواء، وترتشفها كالماء، وتشمها كالزهور، وتصغي إليها كالطبيعة.. فالثقافة إنما تتسع وتحوز على قدرة التأثير الدائم بهذه “الشمولية”. وهي من أهم المقومات التي تُوصِل الفردَ والمجتمع إلى درجة النضج من الجهة النفسية والأخلاقية.
“إن المجتمع السليم الواعدَ بمستقبل مشرق، يتكون من أفراد سليمين هُمْ منه كالجزء من الكل، ولكن -من جانب آخر- وجودُ أفراد منضبطين وممتازين وتطورُهم، لا يتم إلا في مجتمع سليم كهذا، وإن كان هذا المقترب يؤدي بنا إلى نوع من “الدَّوْر المحال”. فإن بيئة عامرة بتراثنا الثري، ستؤثر في كل وقت في العالِم والجاهل، والشاب والكهل، والبدوي والحضري، والمفكر والسارب في هواه. وما إن يفتح هؤلاء أعينهم ويرتبطون بما حولهم، حتى يوحي المحيطُ والجو العام إليهم دائمًا بأمورٍ، ويحاسبهم ويحاورهم.. وبِوارداتها وغناها، أو بفقرها، أو بوسطها النفسي والمادي، قد تغذيهم وتربّيهم وتعمّرهم، أو تقوض عواطفهم وأفكارهم وتحيل كل شيء إلى خراب. وقد لا يتسنى للإنسان أن يحس -على وجه تام- بمدى التأثير الذي يُحدثه جو “روح الأمة” على أي مجتمع وعلى أفراده من كل النواحي. ولكن ينبغي أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من التفرعات والتفاصيل الجزئية في العالم النفسي أو المادي، والتي بدت هينة ومستصغرة، قد فَتحت الأبواب لاكتشافاتٍ ومبادرات واختراعات تتعدى الخيال في أهميتها. ففي بعض المواقف، فَارَ وجدانٌ بملاحظةِ ترقُّبِ قطة لجُحرِ فأر بلا توان، وانكشفت آفاق واسعة أمام عقولٍ فَكَّرت في التناغم البديع لمجتمع النمل والنحل، الذي لا يضاهِي كمالَه أعظمُ الجمهوريات كمالاً.. وكم من أمر مستصغر في عالم المادة، أذكى نار أذهان وقّادة”.
“إن المجتمعات المتطورة والمتقدمة اليوم، كانت من قبلُ تعاني ما نعانيه اليوم، ثم جاءتها أيامٌ فُتحت فيها أبواب التجديد على مصاريعها بفضل ما كانوا يتمتعون به من شوق البحث، وعشق العلم، وحثيث العمل ومكافأةِ مَن وُفّقوا بأجزل المكافآت.. فتَحققَ النجاح إثر النجاح، مما أدى إلى فوران العزم وشحذِ التوق، وصارت البيئة عندهم، مشاتل تحتضن فسائل العبقرية.. فتَتابَع الاختراع من مكائن البخار إلى مصانع النسيج، ومن مختبرات الأبحاث إلى المطابع، وبَلَغوا -بعد مدةٍ- عصرَ العلم والعقول الإلكترونية.
ولما كافأ، الذين يقدِّرون العلم -في تلك الأيام- الكشوفاتِ والاختراعات والأبحاثَ العلمية، صاروا وسيلة لانكشاف القابليات العظيمة في كل مكان لِتجدَ فرصتها في النماء والتطور، فكأنّ أطراف أرضهم معرض العجائب لأعمال النوابغ الذين لا يَعرفون الفتور.
وكما تعاقب ظهور العلماء في عالمنا الإسلامي من أمثال ابن سينا، والفارابي، والخوارزمي، والرازي، والزهراوي، إبان تحقُّق الوسط والبيئة الشبيهة، فكذلك استَخدم الغربُ ما توارثه من المكتسباتِ خير استخدام وبأوسع وجه ممكن، في ذلك الوسط، واستطاع أن يسِمَ القرون الأخيرة بسِمَته، والنموذج واضح بالنسبة لنهضة ألمانيا واليابان”.
المدرسة كمعجزة حضارية وكمنهج تغييري
المدرسة في نظر المفكر فتح الله كولن هي قاطرة المستقبل، بقدر ما تكون متوجهة نحو الهدف ومتسمة بالعمق، تصبح ميناء أو مطارًا أو منطلقًا للأمة؛ بشرط أن تُصْهَر مكتسباتها في بوتقة الثقافة الذاتية، وإلا فمن البدهي أن المدرسة لن تستطيع حل المشاكل الفردية والاجتماعية. “إن المدرسة -باعتبارها دائرةَ تخطيطٍ ومركزَ مشروعٍ- من الممكن أن تعني شيئًا بقدر ما يستمع الوجدانُ الاجتماعي إلى صوتِ شيء من برامجها المنسجمة مع الأخلاق العامة وثقافة الأمة. ولكن من العسير جدًّا -بل من المحال- أن نستدل على أنموذج واحد أنجزته المدرسة بوحدها.. المدرسة أعطت ثمارها بمقدار أهميتها، والبناء الحضاري يأتي بدرجة دمج ما ألهمته المدارس من العلوم والتجارب العالمية، بهويتنا الثقافية وتغذيتها بأسس الجذور المعنوية لتراكماتنا وتجاربنا العلمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية”.
فالقدرة على فهم هذه العناصر في سياقها الاجتماعي والعضوي، هو الذي سيكشف لنا عن معالم المنهج النبوي في بناء الحضارة العالمية، من خلال تقديمه لنموذج من نماذجها، وهو المثل الكامل، والقدوة الحضارية التي تمثل معيار البناء الحضاري الإسلامي. وبالتالي فإن استلهام المفكر فتح الله كولن أسسَ البناء الحضاري من المنهج النبوي في بناء النموذج الأول للحضارة العالمية، ووضْع برنامجه، وتأسيس قواعده، وترسيم حدوده، وصياغة منهجيته، وتحديد وجهته، وتعليم مقاصده.. كان مبنيًّا ومرتبطًا ومنسجمًا -في كل محطاته- مع أصول الوحي الأعلى الذي أدار أسس البناء الحضاري في فلسفة الأستاذ فتح الله كولن حول الإنسان كفرد (الأصناف، الزُّمَر)، وكمجتمع (الخدمة، الهِمّة)، وكأمة (التّولّي)، وكإنسانية (الانفتاح والرحمة). فدراسة إستراتيجية البناء الحضاري لدى المفكر فتح الله كولن، هي دراسة في منهج البناء الذاتي العميق للإنسان بدينامو حركية الإيمان، والبيئة التمكينة، والانفتاح الثقافي المتوّج بحصانة الذات وتأهيلها لعملية أستاذية البناء الحضاري الإنساني. ولعل الدارس لفكر الأستاذ فتح الله كولن، يعي تمامًا قيمة هذه الرؤية المستقبلية في البناء النهضوي الحضاري الإنساني وفق فلسفة هذا المنهج الاستشرافي المستقبلي، ومشروعه، وغاياته، ومقاصده، وأدواته، وشروطه، وأساليبه، ومنهجيته.