ابن الجزار هو طبيب مشهور ولد بالقيروان وتوفي فيها في سنة 369 هجرية. ولقد اشتهرت أسرته بممارسة مهنة الطب. تعلّم على إسحاق بن سليمان الإسرائيلي. ويعدّ ابن الجزار من أشهر فلاسفة وأطباء المسلمين في القرن الرابع الهجري، حيث كان صاحب مكانة علمية غير مسبوقة في بلاد المغرب العربي.
مارس ابن الجزار مهنته حرًّا ومستقلاًّ بداره بمدينة القيروان، وفي إطار عمله خصص غرفة للمرضى لانتظار مقابلته، وغرفة أخرى للعيادة والفحص والنظر في قوارير البول والتحاور مع المرضى، ثم يوجههم بعد ذلك إلى غرفة ثالثة وهي الصيدلية التي أجلس فيها مساعدًا له يسمى “رشيق” الذي كان يعِدّ بين يديه جميع المعجونات والأشربة والأدوية.
كان ابن الجزار يعالج مرضاه بأقل كلفة ممكنة وأيسر مؤونة حسب تعبيره في مقدمة كتابه “طب الفقراء والمساكين”. وذكر ياقوت الحموي أن ابن الجزار كان له معروف كبير على المسلمين؛ حيث كان يفرّق الأدوية على الفقراء، ويوزعها على المعوزين بدون مقابل.
أسس ابن الجزار مدرسة طبية، وتتلمذ عليه عديد من الأطباء، منهم الطبيب الأندلسي عمر بن حفص بن بريق؛ حيث مكث هذا الطبيب عند ابن الجزار ستة أشهر
تأسيس مدرسة طبية
أسس ابن الجزار مدرسة طبية، وتتلمذ عليه عديد من الأطباء، منهم الطبيب الأندلسي عمر بن حفص بن بريق؛ حيث مكث هذا الطبيب عند ابن الجزار ستة أشهر، ثم رجع إلى الأندلس حاملاً معه نسخة من كتاب “زاد المسافر وقوت الحاضر” وروجه بأوربا. ولقد وقع ترجمته إلى اللغات اللاتينية واليونانية وغيرها. ومعلوم أن الترجمة اللاتينية لكتاب “زاد المسافر” قام بها قسطنطين الإفريقي منذ بداية القرن الحادي عشر الميلادي، متناسيًا عمدًا اسم المؤلف، وقام بنسبة الكتاب إلى نفسه.
تعديله القوانين الطبية ومؤلفاته
قام ابن الجزار بتعديل القوانين الطبية العامة، وضبط أسماء النباتات بثلاث لغات وهي الأمازيغية والعربية واليونانية. ولقد ذاع صيته، وتجاوزت شهرته حدود تونس. وكان طلاب الأندلس يتوافدون إلى القيروان لتحصيل الطب منه. ألف ابن الجزار مصنفات كثيرة شملت فنونًا مختلفة، ولكنها اتجهت في المقام الأول إلى العلوم الطبية، أشهرها كتاب “زاد المسافر” وهو في مجلدين. ولقد وقع ترجمته إلى عدة لغات، وهو ذو قيمة طبية عالية، ما زالت بعض الكليات والجامعات تستفيد منه إلى اليوم. ألف ابن الجزار كتابه هذا ليكون دليلاً طبيًّا للمسافر إلى البلدان البعيدة، والتي لا يوجد فيها طبيب.
كما ألف ابن الجزار كتابًا في الأدوية المفردة يُعرف بـ”الاعتماد في الأدوية المركبة”، وكتاب “العدة لطول المدة” وهو أكبر كتاب له في الطب، وكتاب “التعريف بصحيح التاريخ” وهو تاريخ مختصر يشتمل على وفيات علماء زمانه وفي ذكر اختلاف الأوائل فيها، وكتابًا في المعدة وأمراضها ومداواتها، وكتاب “طب الفقراء”، ورسالة في إبدال الأدوية، وكتابًا في الفرق بين العلل التي تشتبه أسبابها وتختلف أعراضها، ورسالة في التحذر من إخراج الدم من غير حاجة دعت إلى إخراجه، ورسالة في الزكام وأسبابه وعلاجه، ورسالة في النوم واليقظة، ومقالة في “الجذام وأسبابه وعلاجه”، وكتاب “الخواص”، وكتاب “نصائح الأبرار”، وكتاب “المختبرات”، وكتاب “في نعت الأسباب المولدة للوباء في مصر وطريق الحيلة في دفع ذلك وعلاج ما يتخوف منه”، ورسالة في المقعدة وأوجاعها، وكتاب “المكلل في الأدب”، وكتاب “البلغة في حفظ الصحة”، ومقالة في الحمامات.
قام ابن الجزار بتعديل القوانين الطبية العامة، وضبط أسماء النباتات بثلاث لغات وهي الأمازيغية والعربية واليونانية.
وألف في التاريخ والسير كتاب “مغازي أفريقية”، وكتاب “أخبار الدولة”، و”التعريف بصحيح التأريخ”. وفي الجيولوجيا ألف كتاب “الأحجار”. وفي الجغرافيا كتاب “عجائب البلدان”. وفي الفلسفة “رسالة في النفس”، و”رسالة في الاستهانة بالموت”. وفي الأدب واللغة كتاب “المكلل في الأدب”، و”الفصول في سائر العلوم والبلاغات”.
تخصصه بطب الأطفال
لقد أفرد تربية الأطفال والأمراض التي تصيبهم بمؤلف خاص وهو كتابه “سِياسَة الصبيان وتدبيرهم”، حيث بيّن فيه كيفية العناية بالأطفال منذ ولادتهم، وكيفية تغذيتهم وغسلهم وتنظيفهم وإِرضاعهم، وتحدث عن صفات اللَّبن وتركيبه، والمرضِعات والحاضنات، وعن الأمراض التي يتعرض لها الصبيان من الرأس حتى القدم، وعن تدبيرها وعِلاجها.. ولقد ختم كتابه في الحديث عن طبائع الصبيان وعاداتهم. ومن خلال كتابه هذا، نستطيع القول بأن ابن الجزار هو أول طبيب عربي متخصص في مجال طب الأطفال.
وصف المؤرخون ابن الجزار بأنه كان أبيًّا عزيز النفس، لا يتزلّف لأحد من السلاطين أو الأمراء، ولا يمتنع عن خدمة أي مريض غنيًّا كان أم فقيرًا، بل إنه كان رفيقًا بالضعفاء، ويبذل المال للفقراء والمساكين، حيث كان يوزّع عليهم الأدوية مجانًا. وقيل إنه كان ينفق على علاج الفقراء من أموال أسرته الثرية، وكذلك من أجره عند علاج الأغنياء والحكام. ولقد خلّف بعد مماته أربعة وعشرين ألف دينار، وكان بعيدًا عن الشبهات، ولم يخلد إلى اللذات، فهو يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم ولكنه لا يأكل فيها. ويذكر المؤرخون أيضًا، أنه كان يذهب إلى مدينة “المنستير” بساحل تونس، ويرابط فيها مع العباد والزُهاد عدة أيام. وكان ينطلق في كل صيف مع مجاهدي البحر ليتصدى للسفن البيزنطية التي تهاجم المسلمين في البحر الأبيض المتوسط.
لقد تميز ابن الجزار في منهجه العلمي القائم على البحث والتصنيف، وكان سبّاقًا في اتباع هذا المنهج في دراسته الطبية والصيدلانية.
منهجه العلمي
لقد تميز ابن الجزار في منهجه العلمي القائم على البحث والتصنيف، وكان سبّاقًا في اتباع هذا المنهج في دراسته الطبية والصيدلانية. كان ابن الجزار عالمًا متواضعًا لا همّ له سوى البحث والتقصي والاشتغال بالجديد في مجال النباتات والعقاقير؛ حيث صنف في الأمراض، وخص بعض الأعضاء بالبحث، وبعض الأمراض بالتأليف، كما خص الفقراء ببعض المؤلفات. وأفرد للخواص والأثرياء كتابًا، وجعل قسمًا من تأليفه متعلقًا بالأدوية وآخر بالأمراض. وصنف في الأدوية فخصص بعضها للأدوية المركبة وأخرى للأدوية المفردة. وكان رائدًا في الممارسة الطبية، حيث فرق بين “بيت الوصف” وهو مكان فحص المريض، و”بيت الصرف” وهو مكان تقديم الدواء للمريض.
أما منهجه في تأليف كتب النباتات الطبية والصيدلانية، فكان يتبع في التصنيف النباتي منهجًا يعتمد على تسعة أسس كما يتضح في كتابه “الاعتماد”، وهي تصنيف النباتات بحسب اللون، وبحسب لون النوّار، وبحسب هيئة النبات، وبحسب هيئة الأوراق أو البذور أو الأغصان، وحجم النبات، وبيئة الإنبات وزمن الظهور، والمنطقة الجغرافية، وجنس النبات من حيث الذكورة والأنوثة.
كما كان لابن الجزار منهج في دراسة الأدوية، خصوصًا المستخرجة من النباتات. فيذكر اسم النبات باللغات العربية واليونانية والفارسية والبربرية والسريانية واللاتينية، ويوضح قوة الدواء، ويصف الدواء وصفًا تفصيليًّا ثم يشرح الخصائص العلاجية والحالات التي يؤخذ فيها هذا الدواء. كما يشرح كيفية الكشف عن غش الأدوية، وكيفية استبدالها ببدائل، وقد شرح ذلك في كتاب خاص هو “إبدال الأدوية”.
لقد كانت علوم ابن الجزار تُعتمد في الشرق العربي، وأعجب بها الكثير من ممارسي مهنة الطب، وكانت أيضًا تصل إلى الأندلس. والملاحظ أن تلك الإنجازات الطبية الجريئة، قد اقتحمت أوروبا في القرن العاشر الميلادي، وكان “نابليون بونابرت” يحمل معه دائمًا كتاب ابن الجزار “زاد المسافر وقوت الحاضر”.
إن معظم مؤلفات ابن الجزار لا زالت تحظى بدراسات أكادمية في ميدان الطب والصيدلة في كليات الغرب وخصوصًا في الجامعات الفرنسية. كما بقيت كتبه تدرس في تونس من قِبل الأطباء قرابة ستة قرون بعد وفاته.