مَن ينظر إلى واقع المجتمعات الإسلامية، سيجد أنها لا تختلف عن المجتمعات الأخرى من حيث امتلاك المقومات الأساسية للحضارة، وهي:
- الثروات الطبيعية الهائلة؛ زراعية، ومعدنية، وحيوانية، وطاقة، حيث تمتلك نصيبًا وافرًا يفوق حجمها السكاني.
- الثروة البشرية الضخمة، حيث يتراوح المسلمون ما بين 20 و25% من سكان العالم.
- الثروة الحيوانية والسمكية.
- المساحات الواسعة من الأرض، وتصل مساحة العالم الإسلامي إلى نحو 25% من مساحة الكرة الأرضية.
- الموقع الإستراتيجي البالغ الأهمية، والذي يقع في قلب العالم ويتحكم بأهم المضائق المائية.
وسيظهر للرائي أن في بلداننا شعوبًا تعمل، ومشاريع تبنى، ومباني تعانق السماء.
وسيقرأ ويسمع ويشاهد آلاف البرامج والأحاديث والمقالات والأناشيد، عن المنجزات التي تفاخر الحكومات بها كمنجزات عظيمة، بل وتمنّ بها على شعوبها!
العيش في أكناف الغثائية
وعندما ندخل إلى عالم الأرقام التي تكشف الواقع بدون تزويق، وتبرز الحقائق بدون تزييف، عندها سندرك أن مشاركة المسلمين في المضمار الحضاري، هي دون حجمهم الطبيعي بكثير، حتى إن المبيعات السنوية لشركة عملاقة من الشركات المتعددة الجنسيات، تساوي صادرات عشرات الدول الإسلامية!
وتتأكد هذه الحقيقة الصافعة عندما نرى الذل يخيم على حياة بلداننا، ويجللها الهوان، وتصفعها الهزائم، وتغيبها التبعية العمياء.
عندها سينكشف أن غالبية المجتمعات الإسلامية، تغرق في بحار من الغثائية التي حذر منها المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ولو بحثت -قارئي العزيز- عن أسباب الغثائية لوجدتها كثيرة، ولكن لو حاولت أن تنقب عن منبع المأساة لرأيت أنه الفرد، وأن جذر البلاء يكمن فيه، إذ يعاني أغلب المسلمين من خلل في تركيب شخصياتهم، ومن معضلة خطيرة في تكوين ذواتهم، ويمكن تسميتها بـ”الهداية المنقوصة”.
ما هي الهداية المنقوصة؟
الهداية هي منهج متكامل لخلافة الله في عمارة الأرض، وسُلّم آمن للعودة إلى فردوس السماء، ومزيل لأحجار العثرة التي تقف في طريق العبودية، مانعة إياها من تحقيق التفوق لأبنائها في المعاش ووراثة الأرض، ثم الفوز الأخروي ووراثة الجنة.
وتتكون هذه المعضلة من مبنى ومعنى -كما سيوضح هذا المقال- حتى لا تصير عوراء أو عوجاء.
الهداية العوراء
رغم حالة التخلف التي تعاني منها أمة المسلمين، ستجد فيها ملايين ممن يتحركون من أجل أمتهم، باذلين طاقاتهم وأموالهم في سبيل عزتها ومنعتها، وناذرين أنفسهم لتحقيق ما تصبو إليه من مرامي سامية وآمال سامقة.
ولا ينقص أكثر هؤلاء العاملين الإخلاص، إذ تجدهم محبين لأمتهم إلى حد العشق والشغف، ومنهمكين في العمل إلى حد التضحية والتفاني، حيث تحترق قلوبهم، وتشتوي أفئدتهم، وتلتمع أرواحهم، وتتفتت أكبادهم في هذا السبيل.
ورغم ذلك، فإن مجاميع عريضة من هؤلاء، لم تساهم في حل إشكالات الأمة بل عقدتها، حتى بدا كأن بعض أعمالهم تنتقم من مجتمعاتهم، وصاروا معاول هدم في صروحها.
وتنطبق هذه المفارقة على عدد من التيارات، مع الاختلاف النسبي بينها في الكم والكيف والتفاصيل، وأهم هذه التيارات:
1- تيار التطرف الفكري والإرهاب السلوكي، والذي يمارس التكفير والتسفيه ضد مخالفيه، أو يتوسل بالعنف لتحقيق أهدافه ومآربه.
2- تيار الزهد الأعور والانسحاب الأخروي، والرضى الدنيوي بالدون والدنية، والذي وصل إلى قبول التدني في شؤون المعاش، تحت تأثير خدر الرضى بالمقدور ووهم الاستعداد ليوم المعاد.
3- تيار العقيدة الأخرق الذي يخرق أفراده النواميس، وينالون من الأسباب، ويقعون في غياهب الجبرية وغيابة التواكل، تحت مزاعم توحيد الله رب العالمين!
إن هؤلاء المسلمين لا ينقص أكثرهم الإخلاص، إنما ينقصهم العلم الذي يرسم لهم خارطة الطريق المستقيم نحو تحقيق الغايات، والذي يحدد الأساليب ويخترع الوسائل.
ولذلك يرتبكون ويرتكبون الكثير من الخطايا وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا!
الهداية العرجاء
وفي طرف آخر تجد أصحاب علم وفير، وأهل فهم صائب، وملاك رؤى بصيرة، تجدهم منخرطين في الحراك الحياتي داخل مجتمعاتهم، وأعدادهم وفيرة، غير أن منجزاتهم هينة وفاعليتهم واهنة.
ستراهم يعملون ولكن ببطء، ويتحركون ولكن ببرود، ذلك أنهم لا يمتلكون دوافع الحركة والبركة، ولا محركات الدأب والنصب، إذ يفتقدون حرقة القلب، وتوهج الفؤاد، وتوقد المشاعر؛ نتيجة افتقادهم لحرارة الإخلاص وأشعة التقوى.
مكمن الخلل
ولو تمعن المرء مليًّا في تشخيص هذه المعضلة، لوجد أن عنوانها الأنسب هو “الهداية المنقوصة”، حيث افترق مكونا الهداية الأساسيان، حتى سقط علماء في مستنقع الرياء، وتاه مخلصون في قارعة الضلال.
ولو تعمقنا في التشخيص، لوجدنا أن منبع الضخ لهذه المعضلة، هو عدم التعامل السوي مع دستور الإسلام (القرآن الكريم)، ومع عمود الدين (الصلاة)، وذلك لغياب العقل أو غفلة القلب وربما كليهما.
ولا شك أن نقص التدبر العقلي أثناء قراءة القرآن وإقامة الصلاة، يفقد المسلم بوصلة الفقه الرشيد.
ويؤدي نقص الخشوع القلبي إلى انطفاء حرارة العبادة، وفقدان حيوية السلوك، ويجعلها شعائر بلا مشاعر، وقوالب بلا قلوب، ومباني بلا معاني، ليصبح أصحابها في المحصلة أشباحًا بلا أرواح، وتصير أعمالهم حركات بدون بركات، ولتنبت جهودهم أشجارًا من دون ثمار.
“فاتحة” الهداية
افتتح الله هداية القرآن الكريم بسورة “الفاتحة”، وهي بالفعل فاتحة الهداية الكاملة.
ولأن الهداية تشتمل على تحصيل حسنتي الدنيا والآخرة، فإن المسلم لا ينفك عن طلب الهداية من الله في كل ركعة من ركعات الصلاة، حيث يقرأ في سورة الفاتحة: (اِهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ).
ولقد حدد الله تعالى طبيعة هذا الصراط، بأنه صراط المنعم عليهم من الله، وهل هناك أغلى من نعمة الهداية الكاملة؟
إن الهداية هي هدية السماء للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين؛ لكونهم نجوم الأرض. فهي النور الذي يستضيؤون به في عبور الصراط نحو الجنة كمثوى، والزاد الذي يرفع معراجهم نحو الفردوس الرباني الأعلى.
وهو بالطبع غير سبل الباطل، وغير طريقي البوار: طريق المغضوب عليهم، الذين يعرفون الحق ويسيرون في طريق الباطل، وطريق الضالين الذين أرادت قلوبهم الحق، لكن عقولهم لم تسعفهم نتيجة عمهها في الجهالات وغرقها في الضلالات.
لقد امتلك المغضوب عليهم بوصلة الهداية، لكنهم فرطوا بالزاد الروحي نتيجة عدم تحليهم بالإخلاص، أما الضالون فقد امتلكوا الزاد وأضاعوا البوصلة نتيجة جهلهم.
والهداية الكاملة تتطلب استنارة الجوانح والجوارح، واستقامة النظرات والحركات، وصفاء المنابع والدوافع.
وهذا لا يتأتى إلا بحضور العقل والقلب في قراءة القرآن وإقامة الصلاة وسائر الشعائر، مع التجاء كامل إلى الله، واتكاء على الدعاء كما كان صلى الله عليه وسلم يفعل؛ فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: “اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه”.