هل جرب أحدنا أنه أراد شيئًا فرغب فيه وتشوق إليه فكانت له إرادة جازمة عليه، ثم تيسرت له السبل وفُتحت له الأبواب لذلك، لكنه مع كل ذلك وجد في نفسه عجزًا عن إتمام ما يريد وإنجازِ شيء هو بين يديه وهو يحبه ويتمناه، عجزًا يعجب له فيسائل نفسه عن سر هذا التردد والضعف في تحقيق أمنية بين عينيه طوع أمره فلا أحد يقف عائقًا في طريقه؟
وهل حصل أن أحدنا قصد إلى دفع شر وبلاء عن نفسه، وسلك لذلك كافة سبل المعالجة، ونجح في قطع الطرق إليه، وتعطيل كل الذرائع لتأمين سلامته، ثم مع ذلك وقع عليه ما يخافه ويخشاه، فرأى أنه يمشي إلى حتفه بنفسه، كأنما يساق إلى الموت وهو ينظر إليه؟
نعم، كلنا يعرف أنه ما من أحد فينا إلا ولقي من هذا شيئًا؛ ففينا من تأمل وتفكر وتدبر في هذه الظاهرة العجيبة الغريبة فاتعظ وفهم ما وراءها من حكمة بالغة، وفينا من مر عليها مرور الغافلين: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ)(يوسف:105)؛ والآية في هذه الالتفاتة هي (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلهِ جَمِيعًا)(البقرة:165)، وأن العبد ليس له من القوة شيئًا إلا ما أقدره الله عليه: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(التكوير:29).
قيل لحكيم من العرب: “كيف استدللت على وجود الله؟”، قال: “بفسخ العزائم”؛ أي يريد الإنسان شيئًا فيعجز عنه وهو قادر عليه.
خلق الله الإنسان فأعطاه آلات القدرة؛ مِن يدين ورجلين وسمع وبصر ولسان، فحلاَّها بالقوة والطاقة، فلو شاء نزع طاقتها وقوتها فتعطلت آلاته عن العمل، فهي له كصور معلقة على جدر، ميتة لا تحل ولا تعقد، وهو يشعر بذلك، ولا يملك من أمره شيئًا، فيدرك حدَّه وضعفه، والمرضى يفهمون هذه الحقيقة قبل الصحاح.
وإذا شاء أعمل آلاته بالقوة، فانطلق يحرث ويمشي ويلعب ويعبث ويصلي ويفسق.. يفعل ما يحلو له، وهو يظن أنه أوتي كل ذلك بقوته وبنفسه: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص:78). حتى إذا أراد الله تعالى به خيرًا سلبه قوته فأراه حقيقته؛ ليتوب وينوب إليه، فإن كان جبارًا ماردًا لم تنفع فيه المواعظ، عرَّاه من كل حول، وأراه خزيه في الدنيا قبل الآخرة: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)(القصص:81).

قيل لحكيم من العرب: “كيف استدللت على وجود الله؟”، قال: “بفسخ العزائم”؛ أي يريد الإنسان شيئًا فيعجز عنه وهو قادر عليه.

ربنا يعلمنا هذه الآية لننتفع منها في موضعين:
الأول: في موضع العبادة، فندرك يقينًا أنه لا حول لنا ولا قوة على فعل طاعة نتقرب بها إليه، ولا ترك معصية نتجنب بها سخطه إلا بمعونته وقدرته وحده لا شريك له.
الثاني: في أعمال الدنيا، أنه لا قوة لنا على القيام بأعباء الحياة في أي اتجاه إلا بما أقدرنا عليه وأعاننا عليه، فلولا عونه لنا ما حركنا حجرًا، ولا قدَّمنا ولا أخَّرنا، بل وأنفاسنا ما هي إلا من فضله علينا.
قال النبي : “لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة” (رواه البخاري)؛ أي لا تحوُّل من حال المعصية إلى الطاعة، ولا من الفشل والضعف إلى الفعل والقوة، إلا بمعونة من العلي العظيم، وفي هذا يقول الصحابي عبد الله بن رواحة :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا *** وثبِّت الأقدام إن لاقينا
هذا الاعتراف من قبلنا بالعجز، يولد لنا عبودية له سبحانه هي: الاعتماد عليه والثقة به، والبراءة من حول النفس وقوتها. هذه العبودية يسميها القرآن “توكلاً”. وقد جاء الأمر به في القرآن فقال الله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ(هود:123)؛ أي أخلص العبادة له، واستعن به على إخلاص العبادة، وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصيته لعبد الله بن عباس  رضي الله عنه وقد كان صبيًّا: “يا غلام! إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله” (رواه الترمذي).
الاستعانة بالله والتوكل على الله والاعتماد على الله والثقة به، كلها بمعنى واحد، هو ركون القلب إلى الله وحده والالتجاء إليه طلبًا للعون.
قال الله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ  خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ  يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ  إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ  يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ  فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ)(الطارق:5-10).
أيُّ شيء للإنسان بعد هذا يفاخر به؟ فليس له إلا التواضع مهما علت مرتبته منصبًا أو جاهًا أو نسبًا وشرفًا، أو مالاً أو عشيرة.. وليس له إلا أن يفاخر بعلاقته بربه وإطاعته أمره ووقوفه عند نهيه.
ليس فخرًا كفخر المغرورين، بل فخر عزة بالحق، واستعلاء بالإيمان على الكفر والطغيان: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران:139)، ومن هنا جاء الإذن النبوي به؛ أن يختال المسلم في موضعين:
الأول: عند الصدقة؛ لأنه يستعلي به على الشيطان الآمر بالبخل: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ)(البقرة:268).
الثاني: عند العدو إذا برز إليه في الحرب؛ لأنه يستعلي على الكفر، قال صلى الله عليه وسلم  وهو يرى أبا دجانة رضي الله عنه يمشي بين الصفين مختالاً: “إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن”.
إن معرفة الإنسان بحقيقة العجز، وأنه أصل فيه، وأن قوته فرع واستثناء، لأنها ليست منه، بل ممن وهب له الحياة والوجود.. معرفته بهذا يقينًا، يحمله على التواضع وترك الظلم والعدوان إذا ما آنس من نفسه قدرة وطَوْلاً، فما أدراه بتقلب الحال، فكم من عظيم عاد حقيرًا، وكم من جبار رجع ذليلاً، والذي جعل منه اللحظة قويًّا وخصمه ضعيفًا، قادر على تبديل الحال.
على الإنسان أن يرى عجزه في قوته، وضعفه في علوه وعظمته؛ فكائن حقير كالذباب يذيقه الهوان، فلا يقدر على رده ولا صده: (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ  مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)(الحج:73-74).
بل ما هو أدق من ذلك وأصغر بملايين المرات، تلك الجراثيم والفيروسات التي تلج بدنه، وتتخلل أنسجته وعروقه، فتفتك بالخلايا، وتأكل الأعضاء الحيوية في البدن، حتى تقتل ذلك الإنسان العظيم، صاحب الملك والأمر والسلطان، فلا يغنيه شيء ولا يدفع عنه كل ما يملك من مال أو جند أو أعوان، والأطباء حيارى من قوة هذه الكائنات الدقيقة المجهرية، وضعف الإنسان والطب جميعًا -على مر القرون- عن مواجهتها أو اختراع طب ودواء يداويها.
انظر إلى الجيف وجثث الموتى، أي شيء هي بعد ما كان؟ أين صولتها وجولتها؟ أين جبروتها وظلمها وعدوانها، أين لسانها الذي لا يكل ولا يمل؟ أين ما بنت وشيَّدت ورفعت وبطشت؟ هل بقي منها شيء لم يعتريه فساد؟ فسبحان من أخبر عن نفسه فقال: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(غافر:16).
لولا الروح والعقل ما كُرِّم الإنسان، فإنه في جثته وجسده يستوي هو وسائر الحيوان والجماد، لكنه تميز عنها بروح عالية سامية باقية لا تفنى، وعقل يزين له الحكمة، ويبين له طريق الهدى من الضلالة.. فهذه متى رعاها وغذاها، قادته إلى الفوز والنجاة، وهي لن تسمو إلا بإيمان وعمل صالح، ولب ذلك قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(البينة:5).
فهذا المخلوق العاجز في قدرته يكون ذا شأن وأثر في هذا العالم، متى سخر جوارحه لصلاح الروح والعقل، يفتح الله عليه من القدرة والعون ما يقدر به على فعل ما لا يفعله العشرات بل المئات من الناس: فإذا سبح سبحت الخلائق معه بتسبيحه، قال الله تعالى عن عبده داود عليه السلام: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ  وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)(ص:18-19). وإذا دعا استجاب الله لدعائه، فأهلك العدو ونصر المؤمنين، وفتَّح الأبواب بالرزق العميم: “أبغوني ضعفاءكم، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم” (رواه البخاري).
وقد قال صلى الله عليه وسلم : “إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره” (رواه البخاري)، وكان البراء بن مالك منهم؛ روى ابن الجوزي في “المنتظم” قال: إن البراء لقي زحفًا من المشركين، وقد أوجف المشركون في المسلمين، فقالوا: يا براء! إن رسول الله  قال: إنك لو أقسمت على الله لأبَرَّكَ، فأقْسِم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم. فمنحوا أكتافهم، ثم التقوا على قنطرة السوس، فأوجفوا في المسلمين، فقالوا: أقْسِم يا براء على ربك، فقال: أقسمت عليك يا ربي لما منحتنا أكتافهم، وألحقتني بنبيي صلى الله عليه وسلم. فمنحوا أكتافهم وقُتِل شهيدًا. ذكر ابن حجر في الإصابة أن ذلك كان يوم “تستر”.

(*) جامعة أم القرى، مكة المكرمة / المملكة العربية السعودية.