الإنسان ورغبة الخلود

لقد ازدان الكون بحِكَم شتى، لا مكان للعبثية واللامعنى في أي كائن مثقال جناح بعوضة، حتى الورقة على غصن شجرة لا تتحرك وتبدو بلا فائدة، لا ندري كم تُخفي من الفوائد، إن الله خلق الكائنات بهذه الصورة، وأظهر لنا عِبرها تجليات اسمه “الحكيم”.

إن الله لم يخلق هذا الإنسان من أجل الفناء. هناك عالم آخر استجابة لنداء الخلود وعشق البقاء المغروس في فطر الإنسان.

عشق الخلود

أجل، هناك حِكَم كثيرة وفوائد شتى تحيط بالكائنات كلها، بدءًا من العالم الكبير (الكون) إلى العالم الصغير (الإنسان) إلى العالم الأصغر (الذرة). فلا يُعقَل لكائن قد كُرِّم بين الكائنات كلها أفضل تكريم، وخُلق بين المخلوقات في أحسن تقويم، وزُوِّد في هذه الدنيا بآلاف الحِكم صورة وشكلًا، أن يأتي إلى الدنيا لبضعة أيام، ثم يموت ويندثر تحت التراب دون أن يُبعَث مرة أخرى.

إذا كانت هذه الدنيا عاجزة عن إشباع رغبات الإنسان المادية وحاجياته الجسدية، فكيف لها أن تلبي حاجيات ملكاته الروحية ولطائفه المعنوية التي تمتد مطالبها حتى أقاصي الكون، وبالتالي أنّى لها أن تُشبِع نزوع الإنسان إلى الخلود مثلًا؟ وما دمنا قد سلّمنا من البداية أن الأحاسيس في الإنسان لم تُخلق عبثًا، وأنه يستحيل للإنسان أن يجد في هذه الدنيا ما يلبي نزوعه إلى البقاء والخلود، فلا بد أن يكون هناك عالم آخر يستجيب لهذا النزوع المغروس في فطرته لحكمة ربانية بالغة.

صاحب الرحمة اللانهائية الذي لا يرضى بإلقاء عبده في النار، هل يُعقَل أن يرمي به في ظلمات العدم ولا يبعثه من جديد؟

هل ظَنَنْتُم أنكم خُلِقْتُمْ عبثًا؟ وأنكم لن تُرجَعوا إلى الله؟ إن الله تبارك وتعالى منـزَّهٌ ومقدَّسٌ عن مثل هذا العبث. أجل، إن الله الذي أسكنكم الأرضَ وجعلكم أشرفَ خلْقِهِ، ثم لبّى كل حاجاتكم الجسدية والمادية، بل ولم يهمل حاجة أصغر مخلوقاته وفق رحمته الكونية الشاملة.. لا بد أن يُشبِع تَوْق الإنسان إلى الخلود ونزوعه إلى البقاء، وأن يفتح له عالمًا أبديًّا لا نهائيًّا.

رحمة لا نهاية لها

قدم على سيد الأنبياء -عليه أفضل الصلاة والتسليم- مجموعة من الأسرى، فرأى صلى الله عليه وسلم امرأة تهرول يمينًا ويسارًا تبحث عن ولدها، كانت تضم إلى صدرها كل ولد وصلت إليه يدها بحنان بالغ ثم تتركه، وما إن وجدتْ ولدها حتى ضمتْه إلى صدرها بحرقة.. تقبّله وتشمّه تارة، وتضمه إليها تارة أخرى، فتأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد، فبكى، ثم أشار بإصبعه المباركة إلى تلك المرأة، وقال لمن حوله: “أَترون هذه المرأة؟”، قال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: نعم يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: “أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ فأجاب الصحابة الكرام: لا واللهِ يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لَلّهُ أرحمُ بعبادِه من هذه بولدِها”.

ما أريد قوله هو أن صاحب الرحمة اللانهائية الذي لا يرضى بإلقاء عبده في النار، هل يُعقَل أن يرمي به في ظلمات العدم دون إحيائه من جديد؟ أليس ذلك مناقضًا لعدله ورحمانيته ورحيميته وشفقته ورأفته؟ أجل، حتى جهنم الأبدية -قياسًا بالعدم المطلق- لها قيمة كقيمة الجنة في روح الإنسان.

إن العَدَم عذاب رهيب لا يمكن وصفه، يجعل روح الإنسان التواقة إلى الخلود تصرخ مرعوبة، وترى في جهنم رحمة لها، وتعتبر عذابها أخفّ من عذاب العدمية المطلقة.

 

المصدر: نفخة البعث، فتح الله كولن، دار النيل للطباعة والنشر.

ملاحظة: عنوان المقال والعناوين الجانبية من تصرف المحرر.