يعد القرآن الكريم مصدرًا من مصادر الكشف عن مقاصد الشارع الحكيم، وقد كان لبديع الزمان النورسي مساهمة حسنة في تفسير القرآن الكريم والكشف عن هذه المقاصد، إذ إنه ألف كتابًا في هذا الشأن سماه “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” فسر فيه سورة الفاتحة وسورة البقرة، ويقول الدكتور عبد الحميد محسن: “وقد قضى الشيخ النورسي حياته في الجهاد الدائب في سبيل توضيح عقيدة الإسلام، وبيان علل أحكامه”.
مقصد العدالة عند النورسي:
تكاد مذاهب العلماء تتفق على أن مقاصد القرآن الكريم أربعة وهي توحيد الله تعالى، وإثبات النبوة لجميع الأنبياء، وأن محمدًا خاتم النبوات، وأن القران الكريم معجزته الخالدة، فيقول الشيخ بديع الزمان النورسي رحمه الله تعالى: “اعلم أن المقصد الأصليّ في القرآن الكريم إرشادُ الجمهور إلى أربعة أساسات هي: إثبات الصانع الواحد، والنبوّة، والحشر، والعدالة”.
ومن خلال قوله نجد أن الشيخ النورسي انفرد بمقصد العدالة، وقد اقتنصه عن طريق الاستقراء ولذلك يقول: “إن في الكائنات نظامًا أكمل قصديًا..، وإن في الخلقة حكمة تامة..، وإن لا عبثية في العالم..، وإن لا إسراف في الفطرة..، والمزكي لهؤلاء الشواهد الاستقراء التام بجميع الفنون التي كل منها شاهد صدق على نظام نوع موضوعه”، ولذلك يقول “تتراءى هذه المقاصد الأربعة في القرآن كله، وكذلك قد تتجلى في سورةٍ سورة، بل قد يُلْمَح بها في كلامٍ كلام، بل قد يُرْمَز إليها في كلمةٍ كلمة لأن كل جزء فجزء كالمرآة لكلٍ فكلٍ متصاعدًا، كما أن الكل يتراءى في جزءٍ فجزء متسلسلا، ولهذه النكتة – أعني اشتراك الجزء مع الكل -يُعرّف القرآنُ المشخَّصُ كالكلي ذي الجزئيات”. وَالوقوف على هذه المقاصد في القرآن الكريم يسير جدًا، ولذلك يقول الإمام الشوكاني متحدثًا عن مقاصد القرآن: “إِذا أَخذ الْمُصحف الْكَرِيم وقف على ذَلِك فِي أَي مَوضِع شَاءَ وَمن أَي مَكَان أحب وَفِي أَي مَحل مِنْهُ أَرَادَ ووجده مشحونًا بِهِ من فاتحته إِلى خاتمته”.
أما الإمام النورسي فذهب إلى أنه قد يرمز إليها في كل جملة وقد دلل على هذا حيث قال: “لما أُنزل “بسم الله” لتعليم العباد كان “قُلْ” مقدَّراً فيه، وهو الأُمّ في تقدير الأقوال القرآنية، فعلى هذا يكون في “قل” إشارة إلى الرسالة..، وفي (بسم الله) رمز إلى الألوهية..، وفي تقديم الباء تلويحٌ إلى التوحيد وفي (الرحمن) تلميحٌ إلى نظام العدالة والإحسان.. وفي (الرحيم) إيماء إلى الحشر.
إن العدالة.هي المقصد الرابع من مقاصد القرآن عند الإمام النورسي، وقد ذهب إلى أن الجماعة تحتاج إلى العدالة، وعلته في ذلك هو تبادل ثمرات السعي، وأما إدراك هذه العدالة فهو يحتاج إلى الشرع لأن العقل حسب الإمام النورسي لا يكفي ولهذا يقول: “إن عقل كل أحد لا يكفي في درك العدالة لذلك احتاج النوع إلى عقل كلي للعدالة يستفيد منه عقل العموم، وما ذلك العقل إلا قانون كليّ، وما هو إلا الشريعة.
وإذا كان حفظ الضروريات يتم بأمرين:
-أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود.
-الثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
فما هي سبل حفظ هذا المقصد عند الشيخ النورسي؟
أما حفظها من جانب الوجود فيكون عن طريق إقامة ركن الزكاة، وهي عنده جسر يغيث المسلمُ أخاه المسلم بالعبور عليها، بل هي أيضا الواسطة للتعاون المأمور به، بل هي الصراط في نظام الهيئة الاجتماعية لنوع البشر، وهي الرابطة لجريان مادة الحياة بينهم، بل هي الترياق للسموم الواقعة في ترقيات البشر.
ونظرا لهذه الأهمية التي أولاها الشيخ النورسي للزكاة فقد حرص على أن تقع الصدقة موقعها اللائق فلذلك يقول: “لايسرف المتصدق فيقعد ملومًا.. وأن لا يأخذ من هذا ويعطي لذاك؛ بل من مال نفسه..، وأن لايمنّ فيستكثر.. وأن لايخاف من الفقر..، وأن لايقتصر على المال، بل بالعلم والفكر والفعل أيضًا.. وأن لا يصرف الآخذ في السفاهة، بل في النفقة ،والحاجة الضرورية”.
وأما من جهة العدم فسبيله هو حرمة الربا ،وهي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج والمَرْج. والمستأصِلُ والدواء لتلك الكلمة ليس إلاّ “حرمة الربا”. فتأمل.
والشاهد عند الإمام النورسي في كون الزكاة هي الترياق لسموم البشر وعلى كون الربا زلزل للمجتمع هو التأمل في أحداث التاريخ يقول: “لو أمعنت النظر في صحيفة العالم نظرًا تاريخيًّا وتأملت في مساوي جمعية البشر لرأيت أسّ أساس جميع اختلالاتها وفسادها، ومنبع كل الأخلاق الرذيلة في الهيئة الاجتماعية كلمتين فقط:
إحداهما: إنْ شَبِعْتُ فلا عليَّ أن يموتَ غيرِي من الجُوعِ.
والثانية: “اِكْتَسِبْ أنْتَ لآكُلَ أنَا. واتْعَبْ أنتَ لأَستريحَ أنَا”.
فالكلمة الأولى الغدارة النَهِمَة الشنعاء هي التي زلزلت العالم الإنسانيَّ فأشرف على الخراب. والقاطعُ لعرق تلك الكلمة ليس إلاّ “الزكاة”. والكلمة الثانية الظالمة الحريصة الشوهاء هي التي هارت بترقِّيات البشر فأوشك أن تنهار بها في نار الهَرْج ،والمَرْج. والمستأصِلُ، والدواء لتلك الكلمة ليس إلاّ “حرمة الربا”. فتأمل”.
ونتيجة هذا الحفظ من جانب الوجود، والعدم هو انتظام مقصد العدالة بل هذا الحفظ هو شرط عنده ولذلك يقول : “إن شرط انتظام الهيئة الاجتماعية أن لا تتجافى طبقات الإنسان، وأن لا تتباعد طبقةُ الخواص عن طبقة العوام، والأغنياء عن الفقراء بدرجة ينقطع خيط الصلة بينهم، مع أن بإهمال وجوب الزكاة، وحرمة الربا انفرجت المسافة بين الطبقات، وتباعدت طبقات الخواص عن العوام بدرجة لا صلة بينهما، ولا يفور من الطبقة السفلى إلى العليا إلا صدى الاختلال، وصياح الحسد، وأنين الحقد، والنفرة بدلاً عن الاحترام والإطاعة والتحبب، ولا يفيض من العليا على السفلي بدل المرحمة، والإحسان والتلطيف إلا نار الظلم والتحكم، ورعد التحقير. فأسفًا، لأجل هذا قد صارت “مزيةُ الخواص” التي هي سبب التواضع ،والترحم سببًا للتكبّر والغرور، وصار “عجزُ الفقراء” و”فقرُ العوام” اللذان هما سببًا المرحمة عليهم، والإحسان إليهم سببًا لأسارتهم، وسفالتهم.. وإن شئت شاهدًا فعليك بفسادِ، ورذالةِ حالة العالم المدنيّ، فلك فيه شواهد كثيرة. ولا ملجأ للمصالحة بين الطبقات والتقريب بينها إلا جعل الزكاة -التي هي ركن من أركان الإسلام- دستورًا عاليًّا واسعًا في تدوير الهيئة الاجتماعية.
ولو قدر أنه لم يتحقق هذا الشرط فسيحل الفساد وبالتالي سيشوش على هذا المقصد يقول: لا تفسدوا وإلا نشأ منه الهَرْج والمَرْج، فينقطع خيط الإطاعة فيتشوش نظام العدالة، فتنحلّ رابطة الاتفاق فيتولد منه الفساد فلا تفعلوا لئلا تفسدوا.