أَصرخ جوعًا، أتحرّق عطشًا، أهتف، أنادي.. وأنت لا تسمعني، أو كأنّك تريد ألا تسمعني.. فيا لك من صاحب سوء ورفيق درب.. لا يعنيك أمري، ولا تشْكُل عليك قضيّتي.. كلما أردتُ علوًّا أثقلتْني خطاياك، وكُلَّما أردتُ سُموًّا سَفُلتْ بي أوزارك، وكلما وجدتُ طريقًا إلى السماء غلقَتْه في وجهي آثامُك.. كسرتَ جناحي، وأبقيتني سجينةَ لحْمك ودمك، وحبيسة غرائزك وشهواتك.. أتريد قتلي، أم نويتَ موتي، أم تريدني شلاّء صمَّاء بكْماءَ، مجردةً من حولي وقوّتي؟ فلا أنا أعلو لأعلوَ بك، ولا أنا أزكو لأزكّيك معي.
ما إلى خبزك جوعي، وما إلى مائك عطشي؛ فخبز الأرواح غير خبز البطون، وأقداح الأرواح غير أقداح الأفواه.. رُحْ عنّي، أرِحْني منك.. فقد سئمتك، ومللتُ صحبتك، وقرفتُ رؤيتك.. ما رأيتُ صاحبًا غدَّارًا مثلك، ولا رفيق درب ختَّالاً مثلك.
وإذا ما استمعتْ الأرواح نداء القدوم على الله، وضجَّتْ وماجتْ ومادتْ، واصطفّتْ صفوفًا صفوفًا أمام عرش الرحمن؛ تسبقها الأشواق، وأنوار الوجد والاحتراق.. فأبحث عن مكاني بين صفوفها فلا أجد لي مكانًا، ولا أحظى بينها بترحاب، أو قبول وإيجاب.. أَفَلَسْتَ أنت سبب خِزْيي وعاري، وشماتة أعدائي من شياطين الإنس والجنّ؟ فَمَنْ أنت من دوني؟! أنا التي أعطيتك إنسانيتك، ووهبتُ لك آدميّتك.. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.. وأنت في مقابل ذلك ماذا فعلتَ من أجْلي؟! تخلّيت عنّي، وتجاهلتَ شوقي ووجْدي، وأغْرَقْتَني بآثامك، وبطوفان ذنوبك.. حتى كدتُ أختنق وأموت، فيقال “هذا إنسان بلا روح، وآدميّ بلا قلب أو وجدان”!
أنا قوامة وجودك الإنساني، وجوهرة خلقِك من العدم.. إنْ كفرتَني وجحدتَني وهجرتني، وقطعتَ ما بيني وبينك من حبال الوصْل، تُهتَ وضُعْتَ، وسقطتَ من علٍ إلى حيث سحيق الخلاء والوَناء وشدة البلاء!
منْ أنتَ، وما عقلك من دوني؟! أنا ضوء عقلك إذا أظلم، ومحركة إرادتك إذا استنامَتْ، ومشعلة عزائمك إذا خمدت.. وأنا الهادية من الضلال والضياع، والمتسامية بالساقطين، والمتعالية بالأسفلين، والمنقذة للهالكين.. أتريدني أن أَبرح مسكنك الطيني وأدعك لآمالك الحبيسة وهي ماضية إلى التبخّر والتلاشي؟!
إنك وإن انتهَكْتَ حرمتي، وغادرتَ كنفي، ونزلتَ في غير منزلي، إلاّ أنني لا زلتُ أشفق عليك، وأرثي لك، وأرجو لك عَوْدًا حميدًا، وأتمنّى لك صحوةً تُوقظ من غطيط نومك، وانتباهًا يعيدك إلى سابق عهدك، فلا تخف ولا تيأس، فحتّى لو زاد تكاثف ضباب الشكوك في عقلك، فإنّي مرسلة خلاله بشعاع سماوي يهديك إليّ ويوجّهك نحوي.
لستُ بالخَوَّارة الهلوع، ولا المستسلمة الصموت، ولا المستكينة الذلول.. بل أنا الدليل الباهر إلى الله الفاطر، والبرهان الساطع على وجود القاهر.. فإذا الإنسان بي استجار، وإليّ توجَّه، ومنّي طلب العون، فأمتلئ شعورًا ودّيًّا متحببة للخاطبين ودِّي، والطالبين رِفْدي، والمنضوين تحت مجدي وجلالي وجمالي وهَيبتي وسلطاني.. فيّ وفي كنفي تصنع مصائر الإنسان، وتُرْسَم خارطة حياته، ومنّي تتفجّر ينابيع الخلود، هنا وعندي يتدفّق الزمن، تدفعه تيارات الأبدية نحو شواطئ البقاء السرمدية، أنا ملهمة عظماء الرجال بأعظم أفكارهم، وأنا هادية الإنسان إلى أجلّ أعماله، إلى خارق صنعه، ومعجز إنجازاته.. فالعظمة صنعتي، والخارق همَّتي، والتجديد والابتكار من شأني.. يقظانة لا أنام، حيّة لا أموت.. أنشط ولا أكسل، أصارع الأقدار في صحائف الإنسان، فأصرعها مرةً وتصرعني أخرى، ولكنّي أعود في كل مرة.. أحدِّق في الأزمان، وأتنشّق رائحة الإنسان الآتي من بعيد، يحثّ الخطى، تقوده روحه نحو مكانه العالي من سُلَّم الوجود.
فيا أيها الإنسان، ما أشدّ محنتي فيك، وعذابي معك، وحيرتي بك، أما آن لك أن تصالحني، وتأتيني ولا تبعد عنّي، وتلازمني ولا تهجرني، أم أنّك في الغي ستبقى سادرًا، وفي الضلال سبتقى راتعًا..؟!
ألحظ آيات الحزن والسويداء تطل من عينيك، والحيرة لا زالتْ تعذب قلبك، ولأنّك لم تجد من نفسك جوابًا على أسئلة ما فوق عقلك، فأنت تنوء بحمل أفكارك، وينحني صلبك تحت ثقل أوجاعك.. كم قلتُ لك أنْ تأتيني، وتأخذ عنّي.. فأنا كنز معارفك العلوية، وخزين علومك الماورائية.. كن صادق العزم، وشديد التَّوق، وانشد أمورك العالية منّي، وأجوبتك على لساني، وسُلَّم علوك عندي، إنْ أردتَ علوًّا، أو ابتغيتَ سُموًّا.