حياتنا مثل صفحة كتاب في هذه الصفحة نجد تقسيما لها -في الغالب- إلى متن وهامش، وهذا الهامش كما هو معلوم يوجد أسفل الصفحة حتى يتسنى للعين القارئة أن تركز عدستها على المتن أكثر وما يتضمنه، أمر آخر: الخط في المتن أكبر حجمًا منه في الهامش، هكذا الحياة وما فيها من بشر تنقسم إلى أناس يعيشون في دائرة الضوء، هؤلاء ارتبطت حياتهم -إلى حد كبير- بمعاني الاستقرار والنعيم..، وإلى جوارهم في الصفحة نفسها جماعة أخرى أكثر عددًا ابتعدوا أو أُبعدوا ليسكنوا أسفل الصفحة في منطقة الهامش، لا ينظر إليهم ولا يعبأ بهم كثيرًا معظم من سكنوا في المنطقة الأولى.
مساحة هؤلاء في الحياة ليست كبيرة، إنها محدودة بمحدودية أدوارهم، بتصاغر أحلامهم، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لكلمات الهامش التي تتضاءل أحجامها إذا ما قورنت بنظيرتها في المتن.
عين المبدع مثل عينك تطوف بعدستها أرجاء الواقع المعيش، لكنها ترصد لتسجل بعد ذلك ما تركه هذا المرئي بداخلها..، هذا التسجيل قد يأتي في شكل لوحة مرسومة أو رواية مكتوبة أو قصة أو مسرحية وقد يأتي في شكل قصيدة شعر، ونحن في هذه السطور نصاحب الفن من خلال مجموعة قصصية تحمل عنوان “عسل الشمس” للأديب فؤاد قنديل، مصري الجنسية، وفي هذا العالم الفني نلج بعضا من غرفاته عنوانه ” عسل الشمس”..، إن هذا التركيب يأخذنا إلى ما يمكن تسميته: إفراز النهار.. ناتج حركتنا فيه.. محطة الوصول بعد سفر نهاري طويل.. لكن يا تُرى ما الفرق بين عسل النحل وعسل الشمس؟..إن عسل النحل طعمه حلو.. فيه شفاء للناس، لكن هل عسل الشمس حلو مثله؟.. الجواب عند فؤاد قنديل وراويه الذي يصاحبنا في رحلة القراءة لغرفات هذا العالم القصصي..، في هذا العالم القصصي عند قنديل نجدنا أنفسنا في حركة/ رحلة تقوم بها الشخصية من الريف إلى المدينة، هذه الحركة الكائنة على مستوى الواقع بكل ما يعلق بها من قضايا وإشكاليات بالنظر إلى الواقع الاجتماعي المصري -على وجه التحديد- تعد بمثابة الحكاية الكبرى التي تم الانطلاق منها، وتوظيفه من خلال شخصيات القصص الثلاث الأولى في داخل هذه المجموعة… وهي شخصيات بينها رباط منطقي: الأم (الزوجة) في القصة الأولى، الرجل (الزوج) في القصة الثانية، الابن في القصة الثالثة من هذا التوظيف لمعجم الأسرة خرجت دراما رحلية لها نقطة بداية (خروج) ولها نقطة نهاية (عودة).
- رحلة الأم
أول قصة في مجموعة عسل الشمس بعنوان “أمنيات بهانة”، بالفعل بطل القصة كما يبدو من العنوان مؤنث اسمه بهانة.. وهو اسم يحيل إلى البيئة الريفية.. نستطيع الاقتراب منها من خلال عدسة الراوي الواصفة على النحو الآتي: “لم يبق حتى تبلغ المدينة غير كيلو واحد، القفة المحشوة بحزم البقدونس والكرَّات ثقيلة، الرقبة المشدودة تعين الرأس على حملها، القدمان الحافيتان تهبطان في بحيرات الماء وتدوسان الحصى وتخوضان في النفاية، أسرعت تلف السوق، ربنا يسترها مع سليم العسكري كده أنا قاعدة رجل جوة ورجل برة..، علمت نفسها أن تجلس والقفة لا تزال على رأسها دون معاونة، هبطت أولا على ركبتيها كالجمل…، ثم سحبت ساقا من تحتها فأصبحت أمامها وسحبت الأخرى وربعت…، ثم وضعت الرضيع في حجرها. تذكرت بهانة أن اليوم عمدة بلدهم عنده (ليلة) سيقيم حضرة وذِكر وسيذبح عجلاً كالعادة، يا ريتك يا بني تيجي علشان تتقوت بحتة لحم، أحست بالتعب فجأة يخدر أعضاءها.. تبخر كل أثر للإرهاق وهي تمني نفسها بالعودة المبكرة كي تستعد لزوجها وتراه بالشريطة الثالثة وابنها الذي سيجيئ اليوم من مصر.. فجأة هبت العاصفة، وقبل أن تنحني على مالها تحميه وتستنقذه كان الحذاء الرهيب قد بعثر القفة على الطريق وتمرغت الحِزَم في التراب.. فزعت الطفلة وصرخ الرضيع حين ألقته أمه على الأرض.. “.
بهانة في عالم فؤاد قنديل القصصي نموذج مأخوذ من الواقع لكل إنسان يمشي في مناكب الحياة محملاً بمعاني التعب والشقاء ليدرك في النهاية القليل.. وهو في هذه الدراما يسير ملازما له إحساس بالخوف يساوي إعاقة وعدم قدرة على الوصول إلى مبتغاه.
قد تفتح هذه الرؤية المجال أمام مقارنات بين هذا الحال عند بهانة، ومن يقرأ حكايتها كما يقدمها الراوي عند قنديل؛ فالحياة قاسم مشترك بيننا وبين بهانة نعيشها جميعا بلحظاتها الحلوة ولحظاتها المرة، لكن صوت الراوي عند فؤاد قنديل يقدم لنا هذه الحياة من خلال وجهها المأساوي، من منطقة الأزمة فيها.
إن بهانة نموذج نقف عنده لنتواصل معه إيجابيًّا، وفي الوقت نفسه لنهرب منه حتى لا نعيش في جلبابه مستقبلا.
ماذا لو رُفعت الباء من اسم البطل “بهانة” ووضعت بدلا منها الميم المضمومة، أو المفتوحة لتصبح “مُهانة” أو “مَهانة”، إن هذه التسمية تعبر عن الوضع الدرامي للشخصية بشكل دقيق.
إن الشخصية (مُهانة) اسم مفعول؛ ومن ثم فهي ضحية فاعل سلبي أدى بها إلى ذلك الحال.. ويبدو أن أثر هذا الفاعل السلبي سيمتد عندما نلج مع راوي فؤاد قنديل القصة الثانية التي تحمل عنوان “عصر بهانة”.
- رحلة الأب
عادت بهانة إلى قريتها تخدم في بيت العمدة منتظرة عودة زوجها الشاويش محفوظ وابنها القاهرة : “اندفعت بهانة تشعل باجورا خامسا.. وضعت فوقه حلة كبيرة ثم دخلت حجرة العجين لتطمئن عليه.. مضت إلى الفرن.. فجأة أم.. أم.. الحقي يا أم.. انتفضت بهانة على صوت ابنها أبويا جابوه العساكر متصاب وراسه مربوطة بشاش”.
باستطاعة محفوظ أن يقتحم أية مظاهرة.. ويبهر رؤساءه.. اطمأن الجنود الذين يرافقون محفوظا إلى أن المظاهرة سلمية، لكنهم بعد دقائق أحسوا أنها ليست سلمية على الإطلاق.. الأوامر تتردد في جهاز الاسلكي الذي يحمله الضابط.. وتهبط من رتبة إلى رتبة ثم تحملها الرتبة الأخيرة إلى رتبة أقل.. إلى أن تصل إلى ..لكن الطلبة هبوا فجأة وانهالوا على الجميع بالحجارة.. ثم سمع الضابط صوت ارتطام قريب وفوجئ بالدم ينفجر في رأس محفوظ..”.
إن “شخصية محفوظ” امتداد للزوجة بهانة؛ إنه يحيا في أسفل الصفحة هو الآخر، لا يعدو أن يكون قدم سلطة تركل بها من تريد.. وتوظفها بطريقتها الخاصة.
إن محفوظ اسم مفعول هو الآخر مثل بهانة المهانة، لكن لماذا محفوظ ؟ لأنه معلوم ومعروف ومحكوم ومحدد وموضوع في قالب لا يمكنه الخروج عنه, قالب صبه فيه فاعل يحركه؛ إنه يعرف أبعاده ويدرك تماما أنه أداة طيعة لتنفيذ ما يريد وإلا لما كانت هذه المواجهة التي أفضت إلى ” أبويا جابوه العساكر متصاب وراسه مربوطة بشاش”..
– رحلة الابن
وتكتمل أركان مثلث هذا البيت المصري المأزوم مع الابن “جلال” في القصة الثالثة داخل مجموعة عسل الشمس التي تحمل عنوان “ابن بهانة”.. إنه طالب نزل إلى القاهرة للدراسة بالجامعة، وحان موعد عودته الإسبوعية إلى قريته وأمه وأبيه فكان القطار هو وسيلته لتحقيق هذه الغاية حتى يتسنى له الوصول عند المغرب:” جلس جلال في أول كرسي وجده خاليا في إحدى عربات الدرجة الثالثة.. استأذن جندي من جلال كي يصعد إلى رف الحقائب.. وحين استقر الجندي في موضعه استقرت فردتا حذائه الضخم فوق رأس جلال.. الحذاء كبير له ملامح فظة.. ما الذي يمكن أن يفعله ليختفي هذا الحذاء من الوجود؟ المشكلة الوحيدة الآن في العالم كله هي هذا الحذاء الذي يسكن بالضبط فوق رأسه.. قال له جلال: ابعد حذاءك.. اهتدى الجندي فجأة إلى حل يرضي جلال أقلعها؟ قال له جلال على الفور: اقلعها.. اندلعت فجأة في أنفه رائحة كريهة بشكل قاتل.. تسللت إلى عينيه فلم يعد يبصر.. اكتشف أن الرائحة التي كهربت الجو كله وسممته هي رائحة جوارب الجندي.. ظل جلال مسيطرا على نفسه.. يكتم أنفاسه إزاء الرائحة الفظيعة رائحة الإنسان حين تنفجر فيه البلادة وينعدم الإحساس”.
ما زلنا أمام ثنائية (الفاعل السلبي والمفعول الضحية) إن كلمة مُهانة قد تجاوزت بأثرها السياق الدرامي الذي ظهرت فيه بدايًة بصحبة البطل “بهانة” لتصل إلى الابن إنه رقم ثلاثة الذي يقبع أسفل الخط في منطقة الهامش في صفحة الحياة؛ هاهو ذا الحذاء الذي تعلق فوق رأسه وهاهي ذي الدرجة الثالثة وليست الأولى ولا الثانية في قطار الرجعة علامتان رمزيتان تؤكدان على هامشية هذه الوضعية في الحياة التي للأب وللأم وللابن.
- عسل الرحلة
إننا أمام أسرة في عالم الفن ترمز وتختزل أسرة مصرية كبيرة في العدد على مستوى الواقع تم إقصاؤها عنوة من منطقة المتن حيث الحياة الكريمة إلى منطقة الهامش حيث الحياة بأزماتها الجاثمة على الصدور في عرض فني سلط فيه الراوي عدسته الراصدة على أحد الأوجه المأساوية للواقع.
وبناء على هذا التشكيل الدرامي للخبر يمكن القول: “إن عالم فؤاد قنديل الذي يبدو من خلال هذه المتوالية القصصية ثلاثية الأركان: الزوجة، الزوج، الابن يبدو متقاطعا – بدرجة كبيرة – مع هذه القصة الشهيرة ليوسف إدريس “النداهة” التي وفق فيها في توظيف موروث شعبي يقوم على الخرافة في بناء فني أسكنه رؤيته الفكرية إزاء مسألة الهجرة من الريف إلى المدينة وما يترتب عليها من مشكلات على مستوى الفرد والمجتمع معًا، هذه الرؤية يمكن الوقوف على مفرداتها من خلال هذا المجمل بدايةَ (العنوان) وما يطرحه من دلالات، ومن خلال الحركة الدرامية للشخصية من الداخل وما ينجم عنها، عندئذ يبدو على الفور خطأ التعامل مع سياق الواقع وبناء رؤى تجاهه بناء على أبعاد ميتافيزيقية ينتفي عنها منطق البحث القائم على علم حقيقي بما فيه قبل أن تتم صياغة أحكام تجاهه سواء أكان ذلك بالقبول أم بالرفض، فتكون النتيجة في نهاية المطاف صناعة الوهم الذي يساوي أزمة واغترابا.