تجد عند بعض الناس -وخاصة الغيورين على هذه الأمة- خوفًا شديدًا على الدين ومستقبل الإسلام والمسلمين، خوفًا شديدًا مبالغًا فيه.
نعم، للخوف المعتدل الذي يحملك على العمل، وعلى الإنجاز، وعلى المشاركة، وعلى طلب العلم، وعلى أن تكون عنصرًا فعالاً وبناءً في الأمة، هذا الخوف لا إشكال فيه.
لكن الإشكال، في ذلك الخوف المفرط الذي قد يتحول إلى خوف مَرَضيّ يضرّك ويضر الآخرين. فهذا الخوف يُقعِد عن العمل، لأن من تلبّس به، أصبح يائسًا قانطًا، يرى أنه ليس ثمة مجال للإصلاح، وأن الأمة قد تُودّع منها، ولم يبق إلا أن ننتظر.
ولذلك فكثير من الناس يحملهم هذا الخوف على عقدة سميتها “عقدة الانتظار”؛ فتجدهم ينتظرون المهدي أن يخرج من الأرض، أو عيسى أن ينزل من السماء.
نحن نؤمن أن عيسى عليه السلام سينزل من السماء. ونحن نؤمن بأن المهدي سوف يخرج في هذه الأمة، لكننا نؤمن -أيضًا- أن الله عز وجل لم يتعبدنا قط بانتظار أحد، وإنما تعبدنا بأن نقوم نحن بالأعمال الصالحة التي كلفنا بها، من الدعوة والإصلاح، والخلق الجميل، وطلب العلم النافع، والقيام بالعمل الصالح، والعبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، والسعي في تكامل المسلمين.. فهذا ما تعبدنا الله وأمرنا به. أما أن نبقى في الانتظار، فهذا نتيجة خوف أفرط فولّد قنوطًا وعجزًا.
إن الله عز وجل لم يخبرنا أن مهديًّا سوف يخرج في عام كذا، أو أن عيسى عليه السلام ينزل في سنة كذا، وإنما تعبدنا بما ذكرنا، مما هو من قطعيات الدين وضرورياته، ونصوص القرآن والسنة المحكمة في هذا الباب.
فالخوف الشديد والقلق المفرط، يحمل الإنسان على أن يبالغ في هذه الأشياء، فيكون عنده نوع من القنوط ومن اليأس، وربما يكون هناك تأثير آخر سلبي أيضًا نتيجة هذا القلق، وهو أن يكون عند الإنسان إحساس مفرط بالمسؤولية عن هذا الدين.
إن بعض الناس، قد يؤدي به الخوف الزائد إلى القعود والقنوط، وبعضهم يؤدي به الخوف إلى الشعور المضاعف بالمسؤولية عن هذا الدين، حتى يظن أن الدين كله مسؤوليته هو، وأن عليه أن يحفظ هذا الدين، وأن يحميه، وأن يقوم به.
وهذا الشعور يفرز عند الإنسان ما يسميه بالوصاية على الدين وأهله، وعلى الدعوة والدعاة، وهذا يضر به؛ لأنه يجعله يتحرك بطريقة غير طبيعية ويضر بالآخرين، لأنه يكلفهم ويتعامل معهم بطريقة ليست سوية.
وهذا كله، نوع من اضطراب المعايير، يولّد عند الإنسان قدرًا من عدم الانضباط، ويفرز إلحاحًا على بعض المسائل والقضايا.
هناك شيء يسميه المختصون: بـ”الفوبيا”، وترجمتها: الخوف المرضي. هو نوع من الخوف الذي لا يبرره الواقع، لكنها تختلف عما سميته بالقلق العصابي. إن الفوبيا خوف من الواقع، أما القلق فهو خوف من المستقبل. ولذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ من الهمّ والحَزَن.
فالهمُّ يتعلق بالمستقبل، وهو ما نعبر عنه بالقلق العصابي؛ يخاف عندما يريد أن يتزوج، يخاف عندما يريد أن يتخرج أين يوظف؟ يخاف عندما يريد أن يسافر. أما الفوبيا أو الخوف المرضي، فهو ما يتعلق بالحاضر، وهو ما يعبر عنه بالحزن أو الغم. فيكون الإنسان مغمومًا، ضيق الصدر، يخاف من أشياء حاضرة لا يبرر الواقع الخوف منها.
والغربيون يخافون من الإسلام، وخصوصًا دوائر الإعلام والدراسات والمراكز وغيرها. فيسمي بعض الدارسين خوف الغرب من الإسلام “فوبيا الإسلام”؛ أي الخوف المرضي من الإسلام، لأن الواقع أن الإسلام دين صحيح قوي وصلب، ومقاوم.
لكن واقع الأمة الإسلامية لا يوجب خوف الغرب خوفًا مسعورًا، وإنما هذا الخوف -كما يعتبره بعضهم- نوعًا من الفوبيا، أي المبالغة في الخوف.
وقد تكون هذه المبالغة منهم، مقصودة من أجل صنع عدو للغرب، كما كانت الشيوعية عدوًّا للغرب في فترة من الفترات. كما يمكن أن نقول -في بعض الأحيان- إن خوف المسلمين من الغرب، يصل إلى درجة هذه الفوبيا إلى حد ما.
إن الإسلام دين قوي وراسخ وصلب، وقد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الدين: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9).
ولم يجعل الله عز وجل أمر حفظ الدين إلى أحد من خلقه حتى ذكر الله عز وجل وفاة نبيه صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(آل عمران:144). فالدين محفوظ، والأمة باقية إلى قيام الساعة، والشريعة خالدة لا زوال لها حتى يأذن الله تعالى.
وقد أخبر الله عن ذلك فقال: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(التوبة:33).
وفي الآية الأخرى: (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا)(الفتح:28).
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن آخر هذه الأمة، وما جاء فيها من الخيرات والبركات، وما يجريه الله عز وجل على يد أبطالها ورجالها وأئمتها وعلمائها، من النصر والعز والتمكين.
وإذا كان لدينا خوف من الغرب؛ فإن هذا الخوف ينبغي أن يكون معتدلاً، لا يضعف بحيث نكون لقمة سائغة، ولا يزيد بحيث نصبح ضحايا هذا التخوف ونتيجة لذلك نملك التمييز بين النافع والضار، ولا نقع أسرى الرفض المطلق لكل شيء على اعتبار الشعور بالعجز الذاتي والاستهداف.
من صور الخوف المرضي؛ الهمُّ كما أشرت إليه. والمهموم تجده يستعيد همومه ومتاعبه باستمرار، ويتذكرها لحظة لحظة دون أن يصل إلى حل لهذه الهموم، وهذا تعب لا ينفع. ولذلك قيل لبعض بني أمية: أين كنت يوم قتل عثمان رضي الله عنه؟
قال: شغلني الغضب له عن الحزن عليه.
وهكذا.. نحن نريد أن نقول لأنفسنا ولإخواننا: يجب أن يشغلنا الغضب للإسلام وللمسلمين عن الحزن عليهم، فإن تحولنا إلى مجرد نُعاة وبكّائين وأصحاب نياحة، فإن هذا لا ينفع شيئًا ولا يغني شيئًا. وإنما الذي يغني، هو أن نعمل ولو قليلاً، وأن تضيء شمعة، خير من أن تلعن الظلام ألف لعنة.