البسملة هي مفتاح كل عمل في الدين والدنيا، وباب الدخول إلى كل عبادة، والطريق إلى نيل السعادة، وهي سبب البركة لكل الأعمال، وتركها موجب للمحق والقطع ونقص بعد الزيادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:”كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع”.(رواه بن حبان)
ولهذا فقد أدرك الإمام بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله فضل البسملة، ووقف على أسرارها الدفينة، ومعانيها السامية، وتعمق في قوة تأثيرها الروحي على النفس البشرية، ومما تميز به الإمام النورسي في كتاباته ورسائله هو ضرب الأمثال والقصص التي يستخلص منها الإنسان العبر والدروس في حياته الدنيوية وفي مآله يوم القيامة، فكل كلمة من كلماته رحمه الله تحمل في طياتها أمثالاً بديعة، ومعاني جليلة، وليس بمستغرب على من تبحر في أعماق كلام الله تعالى، وسبر أغوار معانيه، أن يغفل عن أهمية القصص والأمثال في القرآن الكريم.
يقول رحمه الله في مستهل كلمته الأولى مخاطبًا نفسه وموجها خطابه لجموع المؤمنين والمؤمنات: “فإن كنتِ راغبة في إدراك مدى ما في “بسم االله ” من قوة هائلة لا تنفد، ومدى ما فيها من بركة واسعة لا تنضب، فاستمعي إلى هذه الحكاية التمثيلية القصيرة: إن البدوي الذي يتنقل في الصحراء ويسيح فيها لابد له أن ينتمي إلى رئـيس قبيلـة، ويدخل تحت حمايته، كي ينجو من شر الأشقياء، وينجز أشغاله ويتـدارك حاجاتـه، وإلاّ فسيبقى وحده حائرًا مضطربًا أمام كثرة من الأعداء، ولا حد لها من الحاجات وهكذا..، فقد توافق أن قام اثنان بمثل هذه السياحة؛ كان أحدهما متواضعاً، والآخـر مغروراً، فالمتواضع انتسب إلى رئيس، بينما المغرور رفض الانتسـاب، فتجـولا في هـذه الصحراء.. فما كان المنتسب يحل في خيمة إلا ويقابل بالاحترام والتقدير بفضل ذلك الاسم وإن لقيه قاطع طريق يقول له: “إنني أتجول باسم ذلك الرئيس “.. فيتخلى عنه الشقي. أمـا المغرور فقد لاقى من المصائب والويلات ما لا يكاد يوصف، إذ كان طوال السفرة في خوف دائم ووجل مستمر، وفي تسول مستديم، فأذلّ نفسه وأهانها، فيا نفسي المغرورة! اعلمي!.. أنك أنت ذلك السائح البدوي، وهذه الدنيا الواسعة هي تلك الصحراء. وأن “فقرك” “وعجزك” لا حد لهما، كما أن أعداءك وحاجاتك لا نهاية لهما. فما دام الأمر هكذا؛ فتقلدي اسم المالك الحقيقي لهذه الصحراء وحاكمها الأبدي، لتنجـي من ذُلّ التسول أمام الكائنات، ومهانة الخوف أمام الحادثات(1)، فهذا تشبيه بليغ، وتمثيل رفيع لصنفين من العباد، أحدهما استمسك بحبل الله المتين، وتسلح باسم الله العظيم، سائرًا في الدنيا سير المطمئن بنجاته من كل ما يعترض طريقه، وموقنا أنه ملتجئ إلى باب الآمان والسلام، ومتكئ إلى ركن شديد لا تصل إليه يد العبيد، فهو مثل ذلك الجندي الذي انخرط في سلك الجندية يتكلم ويعمل باسم الدولة، فلا يمكن لأحد أن يعارضه أو يمتد إليه بسوء.
وأما الآخر فهو مغرور بنفسه وقوته، فلا ينتسب إلى رئيس دولة، ولا يتكلم باسم زعيم قبيلة ليحمي نفسه، ويدافع عنها من بلايا الطريق، ومكر الأعداء، فكانت النتيجة أن صادف من المتاعب ما لا يوصف، وسار في طريقه خائفًا مرتعشًا، حتى أمسى ذليلاً ضعيفًا.
إن كل المخلوقات تنطق باسم الله خالقها العظيم، وتسبح بحمده وتمجده في كل لحظة، فما بال هذا الإنسان يتلكأ في الانصياع لأوامر خالقه المتفرد بالعظمة، ويستعطف غيره من المخلوقات الضعيفة، ويترك الاعتصام باسمه الأعظم.
وهكذا يخاطب بديع الزمان النورسي هذه النفس المغرورة فيقول لها:
“فيا نفس… إن شئت ألا تقعي في مثل هذه البلاهة؛ فلتعطي باسم الله.. ولتأخذي باسم الله..ولتبدئي باسم الله..ولتعملي باسم الله(2).
أمر للنفس وإرغام لها على ذكر الله في كل وقت، وعند بدء كل عمل حسن، وتوطينها عن الغفلة عن ذكره سبحانه، لأن الإنسان الذي يغفل عن ذكر الله، ويترك نفسه تجره إلى الجحود بالنعم، مصيره هو الهلاك والخسران.
وفي ختام كلمته الأولى، يتساءل الإمام سعيد النورسي رحمه الله مع نفسه، مبديًّا استنكاره فيقو: “إننا نبدي احترامًا وتوقيرًا لمن يكون سببًا لنعمة علينا، فيا ترى ماذا يطلب منـا ربنا الله صاحب تلك النعم كلها ومالكها الحقيقي؟
الجواب: إن ذلك المنعم الحقيقي يطلب منا ثلاثة أمور ثمنًا لتلك النعم الغالية الأول: الذكر.. الثاني: الشكر.. الثالث: الفكر .. فـ”بسم الله” بدءًا هي ذكر، و”الحمد الله” ختامًا هي شكر، وما يتوسـطهما هـو “فكر” أي التأمل في هذه النعم البديعة، والإدراك بأنها معجزة قدرة الأحد الصـمد وهـدايا رحمته الواسعة… فهذا التأمل هو الفكر(3).
فالبسملة إذن، تحمل معاني الذكر والشكر والتفكر، فبدايتها ذكر لله سبحانه وتعظيم لاسمه، وأوسطها فكر أو تفكر في نعمه الظاهرة والباطنة، وختامها شكر وحمد له على ما أنعم وتفضل ووهب من عطايا.
الهوامش:
(1) -الكلمات، من سلسلة كليات رسائل النور، بديع الزمان النورسي، ترجمة: إحسان قاسم الصالحي، ص1 – 2.
(2) -كلمات صغيرة، للمؤلف نفسه، مؤسسة وقف الخدمة، إسطنبول آذار (مارس) 2014، الطبعة الثانية، ص11.
(3) -الكلمات، ص3.