إن السياق المحيط بالإنسان يعد بمثابة فاعل مؤثر وموجة بدرجة كبيرة في الإنسان الذي يصير كأنه مفعول به يتلقى أثر هذا الفاعل عليه، والإسلام الذي جاء لينظم حياة الفرد وينظم سلوكه قد ترك أثرًا قويًّا في العملية الأدبية لدى أجدادنا العرب ظهر ذلك جليًّا في قرض قصيدة الشعر التي تأثرت كثيرًا على مستوى المحتوى الذي يبثه صاحبها إلى المتلقي بهذه العقيدة التي جاءت رحمة للعالمين، نرى ذلك في أحوال الشعراء محمودي الفِعال الذين يمكن القول: إنهم يسكنون بعد أداة الاستثناء (إلا) في نص سورة الشعراء: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء 227:224)، لقد انتقلوا بالإسلام من حال إلى حال ليس فقط على مستوى الواقع المعيش، بل على مستوى الفن المصنوع كذلك، يتضح هذا الترقي كشمس ساطعة إذا ما نظرنا إلى نماذج مثل: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحه رضي الله عنهم أبجدية الشاعر الحطيئة في طريق الالتحاق بهؤلاء الكرام مر البعض بعثرات ومحطات مظلمة يمكن نعتها بالسلبية حتى هداهم الله إلى الوصول إلى محطة الخشوع والتقوى في ميعاد قدره، من هؤلاء الحطيئة( جرول) الذي ولد لأم كانت ملك أوس بن مالك العبسي، ولعل لقب الحطيئة لم يكن بعيدًا عن أمور تتعلق بهيئته الظاهرة التي لم تكن تروق للناظرين، ووضعيته الاجتماعية الدنيّة، وهي مؤثرات وصلت إلى شخصيته من عالمه الخارجي وتركت أثرها في تشكيل حالة نفسية ناقمة رافضة متمردة؛ نحن إذًا بصدد أزمة وقع الشاعر ضحية لها، هل سيتوقف صاحبها مهزومًا أمامها؟ أم سيسعى إلى تجاوزها والتغلب عليها؟ وكيف؟
البداية ستكون بصحبته للشاعر الفحل زهير بن أبي سلمى يتعلم منه ويقوي موهبته الشعرية بملازمته له؛ فإذا كان وضيع المنزلة بحكم هيئته الاجتماعية فسيعالج ذلك برد فعل هو الإبداع الذي له منزلة في قلب العربي عاشق اللغة والاستخدام الجميل لها بالشعر وبالنثر يظهر الإسلام في شبه جزيرة العرب فلا يتبعه الحطيئة، ولم لا إنه الشاعر المتمرد الرافض الذي بقي قلبه مغلقًا دون نور الإيمان والهدى، لا يكتفي فقط بعتبة الرفض والإنكار، بل يوظف لسانه الناطق بالشعر ليهاجم الدعوة ونبيها وأهلها..وتتأخر محطة النور في حياته كثيرا حتى اختلف الرواة في ذلك؛ هل قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة يشهر إسلامه بين يديه؟ أم أنه تأخر في اعتناقه حتى توفي الرسول صلى عليه وسلم ذاهبًا إلى جوار ربه؟ ودليل ذلك مسارعته إلى الردة، معينا بشعره المرتدين ضد أبي بكر وخلافته، حتى ليقول:
إنها مرحلة الظلمة إذًا في حياة إنسان، وبقول ثان مرحلة النار في حياة صاحبتها. وكان لهذه المرحلة مظاهر تجلت في لسان شتام بالشعر، هجَّاء يتوجه كسياط ضارب على ظهور من يهجوهم، ومن هؤلاء الزبرقان بن بدر الذي قال فيه شاتما:
دَعْ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها***واقعدْ فإنَّك أنت الطاعمُ الكاسي
حتى قيل عن هذا البيت إنه من أقسى ما قيل في الشتم والنيل من كرامة إنسان؛ لأنه شبه فيه رجلاً بامرأة وخلع عنه رداء نوعه الذي خلقه الله به؛ فمعروف أن الطاعم الكاسي أحوال لا تليق إلا بالنساء في ثقافة العربي اللاتي يجلسن في بيوتهن منتظرات عطاء الرجل الراعي وثمار سعيه وعمله وترحاله.
وفي مرحلة الظلمة هجاء للأهل والعشيرة، وهجاء لنفسه التي لم يجد غيرها ذات يوم ليسبه فسبها هي:
أَرَى ليْ وجْهًا شوَّه اللهُ خلقه***فقُبِّح من وجهٍ وقُبِّح حَامِلُهُ
لكن هذه المرحلة لم يشأ الله أن تكون وحدها الملونة لحياة صاحبها بلون الضلال والبعد عن طريق مستقيم السير عليه ينجي صاحبه بين يدي ربه ويكتب له بإذنه النجاة والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، إنها إرادة الله التي يهيأ لها أسباب تمكينها على الأرض، ففي مرايا شعرة يمكن النظر إلى ذلك العروج والارتقاء النفسي والقلبي الذي انعكس ظاهرا في كلمته المُبدَعة؛ فهذا قوله لمن أسدى إليه خيرا فصادف من لسانه شكرًا وبرًا:
فلْيَجْزه الله خيرًا من أخي ثقةً***وليهده بِهُدى الخيراتِ هاديْها
إنه الله الذي يستحضره ويدعو به ويجعله نصب عينيه فيما بينه وبين عباده، هذا الارتباط به يعني الانتقال من مرحلة الغضب والانفعال الذي يظهر من بين ما يظهر في الملفوظ بالقول إلى مرحلة الحكمة التي تنطلق من قلب مؤمن بها باحثة عن سامع يحيلها إلى سلوك يبني نفسه ويبني غيره، وربما مبَلَّغٍ أوعى من سامع؛ فهو القائل:
منْ يفعلْ الخيرَ لا يُعدمْ جوازيَه***لا يذهبُ العرفُ بين اللهِ والنَّاسِ
حتى لقد قال الراوي عمرو بن العلاء: لم تقل العرب بيتًا أصدق من بيت الحطيئة. وربنا الذي يقول في التقوى: (وتزودوا فإن خير الزَّادِ التَّقوى واتَّقُونِ يا أولي الألباب)(البقرة: 197)، هاهو ذا الحطيئة (جرول) تتلقى نفسه هذه الآية ويتدبرها قلبه، والقلب سلطان الجوارح فنجد اللسان يردد بالشعر عاكسًا هذه الحال بين عبد وشئ من كلام ربه:
ولستُ أرى السعادةَ جمع مالٍ***ولكن التقيَّ هو السَّعِيْدُ
وتقوى الله خيرُ الزادِ ذُخْرًا***وعند الله للأتقى مزيـدُ
كأنها إذًا عتبة النور التي أفضى إليها نفس إنسان وهذه تجلياتها، فلا شك في أن القلب الذي تخلص من شواغل الدنيا وشوائبها من حب مال ومنصب ومن رياء وسمعة بحثًا عن مخافة الله ومراقبته بحق هو قلب يرجو السلامة التي تنجي صاحبه من خزي الآخرة.
وفي هذا الترقي نجدنا أمام صفتين للإنسان في ابتعاده واقترابه من ربه:
الأولى: أرضي
الثانية: ربَّاني
إن ما يتلفظ به الإنسان لديه رقيب عتيد؛ ومن ثم فإن مسئولية الكلمة تقتضي من المهمومين بالدعوة والتربية إدراك ذلك بوعي كلٌ في موقعه؛ فالشاعر الحريص على أن يؤدي دورًا بالكلمة الجميلة يقدر أن الأدب على تعدد أنواعه رسالة بناء في جوهرها وغايتها لا مجرد إحداث أثر إمتاعي قد يتلاشى بمرور الوقت؛ فإذا كانت الوسيلة صياغة بإيقاع يهتز له القلب فيجب ألا نستغرق في الوسيلة بالوقوف عندها والابتعاد عن الغاية المرجوة، ألا وهي القيمة التي يُراد لها الوصول إلى وعي مستقبلها لتستأنف بذلك مسيرًا جديدًا في الحضور والانتشار على يد هذا المتلقي بما تحمله من فضيلة تربي وتعلِّم.
إذًا فإن الإنسان بصفة عامة يتحرك في دنياه حركة بلاغية بديعية سمتها الجناس؛ فمن الكفر أو المعصية إلى الإيمان والقرب من الله ومراقبته وتقواه.
إن العبد الذي تشغله دنياه ويتسلط عليه هواه هو لا شك عبد أرضي انحاز لغير الله في دنياه أو في بعض أوقات حياته، أما الصفة الثانية فهي التي يتغياها كل راغب وباحث عن الرضا والسعادة في الدارين: الدنيا والآخرة..هكذا يمنحنا لقاء قصير بإنسان مرت عليه دنياه بحالتين تأتي إحداهما مغايرة تمامًا للأخرى مفردات يتبين من خلالها بجلاء هذا الخط الرأسي الواصل بين إنسان أسكنه الله في أرضه، وسماء يتضرع إلى خالقها ويستحضره في حركاته وسكناته، وبالتوازي مع هذا الخط الرأسي الواصل بين سماء وأرض، بين عبد ورب، يأتي خط أفقي يعكس علاقة هذا الإنسان بالكون الذي يحتضنه وما فيه من بشر وأشياء تسهم علاقته بما فيه ومن فيه في تشكيل ملامح حياته وفيما يحمله كتابه الذي سيُحاسب عما فيه بين يدي ربه.