سألني مرة أحد زملائي الطيبين “أجيبيني بصراحة هل تعتقدين أنك لو ولدت في أسرة غير محافظة ستكونين على ما أنت عليه الآن”؟.
لم يكن أول شخص يطرح علي هذا السؤال، فعند دخولي الجامعة التقيت أصنافًا مختلفة من الناس وأكثرهم كان يحترم الشخص “الملتزم” كما يبدو عليه ظاهره، وكثير منهم كان يَعْجَبُ من حاله ويعزو ما هو عليه إلى أسرته المحافظة، طبعًا أنا لا أعرف الغيب لكني أجبت زميلي بطرحي لسؤال أكبر وأهم “هل سيقبل الله عُذْري إن سألني يوم ألقاه أن عذري أني لم أولد في بيئة محافظة؟ بالطبع لا فهذا عذر مرفوض فأنا أملك عقلاً مُمَيِّزًا، ولو كان ذلك العذر مقبولاً لكان فرعون أعذَرَ مني وقوم لوط وقوم صالح، وكفار قريش كلهم وُلدوا ونَشؤوا في بيئة لا تمُت ليس للالتزام فقط بل للإيمان كله بأية صلة، لكن الله سبحانه وتعالى أهلكهم وتوعدهم بالعذاب الأليم.
هذا السؤال البسيط دفعني للتفكير في نعمة عظيمة أتقلب فيها ليل نهار ولا ألقي لها بالاً، نعمة العيش في بيئة ملتزمة بيئة تدفعك إلى الصلاح، إنها فعلاً نعمة لا تقدر بأي ثمن، فعلاً عندما أتذكر حديث والداي عن التزامهما وكيف أنهما اختارا طريق الالتزام في مقتبل شبابهما منعزلين بذلك عن النظام السائد آنذاك: نظام اجتماعي كان يمجد الغرب ويرى التحضر في تقليده، مجتمع كان فيه الالتزام يُصَنَّف انعزالا ورِجْعية، لقد عملا جاهدين في بناء هذه الثروة العظيمة.
بيئة كلما عدت إليها أنسى أني “مختلفة” بعض الشيء عن الآخرين، بيئة تدفعك لتكون أفضل ولا تيأس أبدًا، لم يكن بناء هذه الثروة أمرًا هينًا فلطالما تلقيا انتقادات لاذعة وأصنافًا من السخرية والاحتقار لأنهما اختارا طريقًا مختلفًا أو ربما معاكسًا للتيار السائد، حتى وصل الأمر ببعض معارفهم إلى هجرهما! أخبراني عن جهادهما لنفسيهما كي يغيرا ما ألفاه من ألفاظ وطريقة كلام ومن أفكار وقناعات وغيرها من الأمور التي لا تتلاءم وطريق الالتزام، أخبراني كيف بذلا جهدًا عظيمًا في التربية كيف أنهما قرآ العديد من الكتب معًا وبحثا عن أهل التجربة للإفادة منهم، كيف أن مشروعهما الأكبر كان أسرة ملتزمة وأبناء صالحين مُصلحين! وكيف استماتا من أجل زرع المبادئ في نفوسنا.
عندما أتذكر كل هذا أشعر أني كابن ولد في عائلة شديدة الثراء، ليس بالمعنى المادي لكلمة الثراء لكنها ثرية وغنية بما تملكه من مبادئ وقيم راسخة، العائلات الملتزمة تملُك ثروة نادرة من طراز خاص جدًا، عائلات عندما تعود إليها تشعر بالأمان لا الاغتراب، تشعر أنك تسلك الطريق الصحيح، كما أن الجميع لا يولدون أثرياء لكن لا شك أن الجميع يطمع في الثروة ورغد العيش والرفاهية، فلماذا ينحصر هذا الطمع عندما يتعلق الأمر بثروة المبادئ والقيم؟، لماذا لا نَجِدُّ في تحصيل هذه الثروة كما نَجِدُّ في الحصول على الثروة المادية؟، لماذا تصيبنا القناعة ونرضى بالواقع إذا تعلق الأمر بثروة القيم والمبادئ، الثروة التي لا تباع ولا تشترى، ثروة لا يملك مخلوق أن يسلبك إياها أو يحول بينك وبينها!.
إن أسرتك ليست ملتزمة ليس عيبًا لكنه أيضا ليس عذرًا، فكما نبني ذواتنا بالبحث عن وظائف محترمة ودخل مريح فالأولى أن نبني نفوسنا بتشبيعها بالقيم والمبادئ وجعلها خطوطًا حمراء عريضة يعرفنا الناس من خلالها، هل نفكر في تأمين آخرة أبنائنا كما نفكر في تأمين دنياهم؟ لا أنسى أبدًا سؤالَ زميلي مرة “لماذا لا تحاولين الحصول على دخل أكبر؟، ألا تنوين السماح لأبنائك بالسفر إلى الخارج والحصول على المتعة، المال الوفير يمكنهم من أسباب السعادة، هل ستقفين في وجهم إن اختاروا غير طريقك وكانت أحلامهم أن يكونوا مثلا مغنيين أو ممثلين؟ لا نستطيع ضمان النتائج فيما يتعلق بتربية الإنسان فنحن محاسبون على ما نبذله من أسباب لا على ما سنجنيه من نتائج، فابن نوح عليه السلام وامرأته كانا كافرين، وامرأة لوط عليه السلام كذلك ووالد إبراهيم عليه السلام وعم النبي صلى الله عليه وسلم كلهم كانوا كافرين، وماتوا على كفرهم رغم كل ما بذله هؤلاء الأنبياء عليهم أزكى الصلاة والسلام في سبيل هدايتهم، لكن النتيجة أتت على غير ما يحبون فلم يغنوا عن ذويهم شيئًا، هذا يَسُرُّ ولا يَغُرُّ. البيئة الملتزمة والأسرة المبنية على القيم والمبادئ يشد بعضها بعضا، هذه الثروة العظمى ليس من السهل بناؤها ولا الحفاظ عليها، عليك أن تخوض من أجلها العديد من المعارك وتصيبك الكثير من الجراح، كيف لا تكون ثروة عظيمة وقد حفظ الله -سبحانه- بصلاح الوالد -ويقال إنه الجد السابع ليتيمين في المدينة- كنزهما بسور يقيمه بعد أن كان يوشك أن ينقض، وليان من أولياء الله: موسى والخضر عليهما السلام.
علينا إعادة النظر في أولوياتنا والتركيز على الأهم، فالباقي أولى من الفاني، فالثروة ليست امتلاك بيت أو سيارة أو مبالغ ضخمة مكدسة في البنوك، الثروة الحقيقية ما تزرعه في نفسك ونفس أبنائك ونفوس من حولك من مبادئ وقيم، أن تكون ثروتك الإنسانية كلها، فلأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس فكيف بك لو جمعت الحُسْنَيَيْن هداية وقرابة؟.