في مقام البيان، ينشأ من هرمِ النفسِ البشرية أمورٌ ثلاثة، تربطها أواصر ووشائجُ قوية، وتتناسق فيما بينها أيّة تناسُق، وهذه الأمور الثلاثةُ هي القُدرةُ والعلمُ والحُبّ، ويتفرّعُ منها ما يتفرعُ من أغصانٍ وأوراق، ليكتمل هذا العلم العميق المعقّد.
فهناكَ أشياءٌ تدفعُ الإنسانَ إلى التطلّع والبحثِ، وهناك أشياءٌ تدفعهُ إلى التكيّفِ للبقاء على وجه البسيطة، وهناك أمورٌ تشُدُه إلى التملّك، وهذا ليسَ بالعيبِ! إنّما هي طبيعة هذه النفس، فهي تحبُّ التكيّفَ والبقاء والتملّك، وتسعى إلى الكمال أيضًا في طريقها لإيجادِ نفسها.
وعلى الرّغمِ من أنّ كلّ إنسانٍ فريدٌ من نوعه كما قال فرانك شيلين إلّا أنّه توجدُ حالاتٌ من التشابه الكبير في السلوك العام، فهم يتشابهون كثيرًا في التصرّفات وربما الميول والرغبات، فيكون لديهم متطلبات متشابهة ويتحركونَ بالدوافعِ والمُحرّضاتِ ذاتها! وقد عرَفَ هذه النظريّة الفيلسوف اليوناني أبقراط قبل أكثرَ من ألْفَيْ عَام.
والقرآن الكريمُ قد بيّن هذه الغرائز وأكّد عليها من حيثُ وجودها في النفسِ الإنسانية، وما تتحكّمُ بهذه الغرائزِ إلّا العواطف والمشاعر والانفعالات والشهوات. فقد أشار إلى عددٍ من الغرائز، منها: غريزةُ التفاخر، والبقاء، وأيضًا حبُّ الظهور والتكبّر، كما قال تعالى في كلامِ لقمان الحكيم وهو ينصحُ ابنه: (وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)(لقمان:18)
فمن التفاسير من أوّلها على التكبر ومنهم من أوّلها على الإعراضِ بالوجهِ عن الناس، وفي ذلكَ كلِّهِ معنى الكِبر، وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواطنَ عديدة في كتابه الخالد.
الإسلامُ –بكونِه دينًا إلهيًّا قد ربّى الغرائِزَ وعمِل على جذبها نحو المنهج القويم
وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكِبرِ، وأنذر بسوءِ عاقبته، ومآلِ صاحبه يوم القيامة، فقال: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ”. (رواه مسلم)، ثمّ إنّ الإمام الغزالي –رحمه الله- وهو العالمُ بالنفسِ والساعي لإصلاحها، في كتابه الإحياء يذكر الغرور ويبيّن أنّها صفةٌ مهلكةٌ فيقول: “فَالْغُرُورُ هُوَ سُكُونُ النَّفْسِ إِلَى مَا يُوَافِقُ الْهَوَى وَيَمِيلُ إِلَيْهِ الطَّبْعُ عَنْ شُبْهَةٍ وَخُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ”.
فالتكبّرُ في علمِ النفسِ وعند علماء هذا الفن غصن يتفرّع منه عدد من الصفات كالغرور، والاستعلاء، وادّعاء العلمِ والمعرفة، وغير ذلك من الأوصاف، وقد درسها علماء النفس في مجال دراسة الشخصية، وتفرّعوا فيها وتناولوها من كآفّة جهاتها.
ثمّ إن هذه الدراسات التي أجريت في ميادين علم النفس والتي خرجت بأفكارٍ ونظريات وصيغ، مثل صيغة هيغل (وعي الذات الشهوانية)، وصيغة ماركس حول مقارنة الإنسانِ بالسلطة، وصيغة كولي (مرآةُ الأنا)، نجدها تدورُ وتنادي بأنّ الإنسانَ كـــشخصية يتحدّدُ كروحٍ أو عالم.
ويجيبُ ديكارت على سؤال: “ماذا تعني الأنا؟” بقوله: “شيءٌ يُفكِّر”، وهل هذا قانون؟ نعم، حيث يجيبُ لوك: لأنّه من خلال هذا التبدّل تتمُّ المحافظةُ على استمراريّة ووحدة الوعي، وبالنتيجةِ فإنّ الــــ”أنا” مرتبطةٌ بالوعي.
وما أكثرَ الغرائز التي في نفس الإنسان، وما أشدّها من سلاحٍ يدفعُ ذلك الكائن نحو الرغبة في الحصول على المُراد.
ألَا ترى أنّ حُبّ البقاءِ عند الكائن الأوّل قد دعاهُ إلى الوصولِ إلى أيةِ طريقةٍ ممكنةٍ للنجاةِ، وما أكثر الأفلام التي نشاهدها هذه الأيام يظهرُ فيها العجزُ بدايةً ثم يتوصّل ذلك العقل –والذي هو نعمةٌ ما بعدها نعمةٌ لاستكشافِ حقائق الكون ومُجرياته- إلى نتيجةٍ يستطيعُ بها الخلاصَ من المشكلة التي وقع فيها.
ثمّ إنّ هناكَ اختلافًا في مستوى الغرائزِ لدى الإنسانِ، قد ساعدهُ في ذلك مرورهُ بالخبرات السابقة التي شكّلت جزءًا أساسيًّا في ارتفاعِ مستوى الغريزةِ عنده، فهي مرتبطةٌ بالعالمِ، أي أنّ هناك نسبيّةً بينهما، فإنّ “ذاتي ليست نتاجُ إرادتي، بل على النقيض… إنّ إرادتي هي نتاجٌ لذاتي؛ لأنّ وجودي قد سبقَ وعيي”، وبحسبِ ما قال فيورباخ: “ويمكنُ وجودُ الحياةِ بدون إرادة، ولكنّه لا توجدُ إرادةٌ بدون حياة”.
والإسلامُ –بكونِه دينًا إلهيًّا يسعى إلى إسعاد البشرية جمعاء- قد ربّى هذه الغرائِزَ وعمِل على جذبها نحو المنهج القويم، وربّى هذه النفوس أيّما تربية بالعلمِ والإخلاصِ، والطاعةِ وبذل ما يحبُ المرء في سبيلِ إحياءِ كلمةِ الله تعالى في شتى بقاعِ الأرض.
وقد تأثّرَ العديد من المفكّرين المسلمين بغريزةٍ مختلفةٍ نادرةِ الوجودِ في البشرية، لا يملكها إلا كلُّ قلبٍ نقيٍ يكتسبُ السعادةَ والسرورَ عند قيامِه بفعل الخير للغير، وهي غريزةُ الـــ”هو” –وهي الغريزةُ العليا- ونشروا عبر ذلك ما أمكنهم من المعرفةِ والعلمِ، أسعدتْ قلوبَ المشتاقين إلى فعل الخيرات، وردِّ المنكرات.
ومن الأمثلةِ على ذلك المجدّدون من علماءِ هذه الأمّة الذين قد بشّر بهم النبي العظيم صلى الله عليه وسلم فقال: “إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مِئة سنةٍ من يُجَدِّدُ لها دينَها”.
فهم وارثوا ذلك السّرّ الإلهي، الذين ملأ النقاءُ قلوبهم، وأُفعِمَت بمشاعر الرأفة والشفقة تجاه الإنسانية ويُفكِّرون ويَشْتغلُون في الوقتِ نفسِهِ بإحياءِ الآخرين وحياتهم أكثر من حياتِهم أنفسهم قد تخلّوا عن جميعِ رغباتهم وشهواتهم لله عزّ وجل، قال تعالى في وصفِهم: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر:9)، ومن هؤلاءِ الجبلُ الأشمُّ بديعُ الزمان النُورْسِي، حيث يقول: “أيظنونني رجلًا مهمومًا بحاله يبغي إنقاذ نفسه؟ لقد افتديت دنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ ايمان المجتمع”.
فقد حاصروا ظلم البنادق والمتارسِ ببناءِ المعاهد والمدارس، وأطفئوا نيران الفتنِ والحروبِ بالكلماتِ والحروف، فهم في نظرِ بعض الخَلقِ مجانين يعشقونَ هذه الغريزة عشقًا لا نهايةَ فيه، فليس فيهم كمثَلِ جماعةٍ يشجّعون فريقًا ثم إن انقلب الزمان بهم تخلوا عنهم؛ إنّما ذلك فيهم فطرةً وسجيةً.
فلو عرفوا أنّ أرضًا لا إسلامَ فيها سخّروا أنفسهم تاركين أهليهم وذراريهم سعيًا إلى تعليمهم هذا الدين وما يحويه من سعادةٍ وحسن مُعاملة، مُتبَسمين للسعِ الآلام، باعثين فيهِم أمَل الحياة الأبديّة، فهم من تربية ذلك السيّد الأستاذ الذي ربّى جماعةً تحبُّ الخدمة في سبيل الله تعالى، ونشر تعاليم رسوله الخالد صاحب الرّسالة الخالدة.
ولم يترك الشيخ الدكتور فريد الأنصاري –رحمه الله- شيئًا للكلامِ عنهم، ثمّ إنّ افعالَهم في أماكنِ تواجُدِهِم تدلُّ عليهم، كأنهم جبالٌ راسية يقولون للناظر إليهم نحنُ هنا، ساعينَ بكلِّ جُهدنا وعشقنا الأبديّ.
فأنْ تمتلكَ مثلَ هذه الغريزة ليسَ سهلًا، فمالكُها هو نموذج الإنسانِ الخالد الذي سيفتحُ العالم، ويُدخلُ الإسلامَ في كلّ بيتِ مدرٍ ووبر.