لو تأملنا أركان الدين الخمسة بكاملها، وتأملنا سواها من الفرائض والنوافل، لوجدناها تصبّ كلها في اتجاه واحد هو “تكوين المؤمن القوي”.
1 – الشهادة في تكوين المؤمن القوي
“لا إله إلا الله”، تحرّر العبد مما سوى الله مطلقًا، فلا يبقى لغير الله عليه سلطان.. تحرر العبد لله سبحانه وتعالى، واتباعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. تجعله كذلك مؤتمًّا بشرع لا يلتفت إلا لمن اتبع ذلك الشرع.. وتجعل الأمة جميعًا تدور حول أمر واحد وحيد هو حبل الله عز وجل وهو شرع في عباده وبين عباده.
2 – إقامة الصلاة في تكوين المؤمن القوي
إقامة الصلاة، تجعل العبد أقوى ما يكون في التغلب على جميع الصعوبات؛ لينظم حياته، ويأتمر بأمر الله تعالى، ويستطيع أن يمسك نفسه بقوة لتذْكر ربها في الصلاة على أي حال كان أمرها قبل الصلاة: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي((طه:14). إن الذي يستطيع بتكبيرة الإحرام أن ينتقل من عالم كانت نفسه منشغلة فيه بتجارة أو غير ذلك، إلى الحضور بين يدي الله عز وجل استحضارًا تامًّا، واتجه إليه وأعرض عما سواه. نعم، إن الذي يستطيع هذا الانتقال السريع؛ من ذكر غير الله إلى ذكر الله فقط، فهو قوي حقًّا، وإنه قوي جدًّا في قدرته على الاستحضار، وقوي على التمكن من نفسه لتوجيهها الوجهة التي ينبغي أن تتّجه إليها.
إن الإسلام يهتم بالمعاني الخارجية، ولكن المعاني الداخلية عنده أهمُّ؛ وإنما تعتبر المعاني الخارجية وسائل ومساعدات لتحصيل تلك المعاني الداخلية.. فالوضوء وشكل الصلاة، إنما يهدف أساسًا لذكر الله عز وجل، أما إذا توضأ العبد وقام وركع وسجد وفعل أفعال الصلاة بصفة عامة، ولكنه كان داخلها غائبًا غيْر حاضر، فما صلّى.
الصيام في تكوين المؤمن القوي
الصيام أيضًا، يحرر العبد من الشهوات، ولا يبقى لها سلطان عليه، حتى الحلال، لأننا في الصيام لا نصوم عن الحرام، إن هذا الأمر نصوم عنه في غير رمضان، لكن في رمضان نتدرب على ترك الحلال، ونتدرّب على الصيام عن الحلال، وعن الشهوات الحلال؛ لترقية عزم المؤمن، وترقية شخصيته، وتقوية إرادته.. لأن كثيرًا من الخلْق يعبدون أهواءهم: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)(الجاثية:23). ما أكثر من يعبد هواه، هؤلاء أكثرية مَن على الأرض فأكثرهم عبَدة الشهوات.
الزكاة في تكوين المؤمن القوي
الزكاة أيضًا، تقوّي المؤمن بدَفعه لأن يصبح معطيًا لا آخذًا، لأن “اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى”، واليد العليا هي المنفقة. المفروض أن تكون أكياس القمح والطحين تذهب من العالم الإسلامي إلى الخارج لا العكس، لا أن تأتي أكياسهم وألبستهم ومصبَّراتُهم ليُعينوا بها عجزة العالم الإسلامي وبلاد المسلمين، هذا وضع منكوس معكوس.
الإسلام جاء لينتج الأقوياء في المال أيضًا، ولينتج الذين تتم لهم أركان الإسلام بأن يصيروا مزكّين منفقين بعضًا مما آتاهم الله عز وجل معطين له إلى الذين يحتاجونه حتى ولو كانوا كفارًا: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)(البقرة:272).
الحج في تكوين المؤمن القوي
والحج أيضًا، وجه آخر لتكوين القوي.. وجه آخر تجتمع فيه تلك الوجوه السابقة؛ فيه تحرير العبد لله حتى في الشكل حين يُحرِم ويلبس خرقة يلف نفسه فيها كأنها كفن، فيتحرر من الشهوات ويتحرر لله عز وجل، ويظل يدور حول بيت الله رمزًا لشرع الله وحبْله معتصمًا به سبحانه وتعالى، وينفق في سبيل ذلك كما يفعل في “الزكاة”، ويضحي ويترك الشهوات كما يفعل في “الصيام”، ويتم الاستحضار الكامل والعبودية الكاملة كما هو أمر “الصلاة”. كل ذلك يتجمع في صورة جماعية لجمع كلمة المسلمين على أقصى حد وعلى أكبر صورة.
فالإسلام إذن بصفة عامة، إنما جاء ليكوّن الأقوياء وليخرج الأقوياء.. لأن الإسلام أمانة ثقيلة. فكيف تعطى الأمانة لضعيف؟! أرأيتم لو أُعْطِيت أو وُجدت في يد ضعيف، هل يستطيع حملها حين تعطى له؟ لا يحمل الأمانة ولا يُبلغ الرسالة، إلا القوي. القوة إذن، هدف لهذا الدين من جميع شرائعه، والسبب يرتبط برسالة هذه الأمة التي هي الشهادة على الناس، وهي إظهار دين الله في الأرض كلها.
لقد التحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى ولمّا يتجاوز الإسلام الجزيرة العربية بعدُ، ولكنه هو رسولٌ إلى الناس كافة. فمَن الذي يحمل الأمانة مِن بعده؟ مَن الذي يبلّغ دين الله لمَن لم يبْلغه؟ لا بد أن يكون الحمَلة أقوياء. ولذلك استطاع الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم ومَن بعدهم مِن التابعين، تبليغ هذا الدين إلى العالم. ولكن بماذا؟ بوجود القوة بالله. إن صفة “القوة بالله” كانت عالية فيهم، فاستطاعوا بها أن يبلّغوا دين الله إلى أقاصي المعمورة. وما انحسر وما ضعف ذلك المدّ الإسلامي، إلا حين ضعف معنى القوة الشرعية في المسلمين.
حين ضعف معنى “القوة”، بدأنا نرى تراجع الفتوحات الإسلامية وقد كانت تدق أبواب باريس من الجهة الغربية، وأبواب فيينا من الجهة الشرقية، حين ظهرت هاته المعاني على يد محمد الفاتح وجيشه، حيث ظهرت معاني القوة الشرعية.
كيف تُكتسب هذه “القوة” إذن؟ سمعنا فيما سمعنا وفيما يتلى علينا اليوم، أن موسى عليه السلام قال له الله عز وجل حين أُعطيت له الألواح: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)(الأعراف:145)، وقال ليحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)(مريم:12)، وقال لأتباع موسى عليه السلام ضاربًا لنا المثل بهم إذ هم المؤمنون في وقتهم: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ((البقرة:63).
لا سبيل للمسلمين إلى القوة إلا إذا أخذوا ما آتاهم الله عز وجل بقوة، وتمسكوا به بقوة: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ)(الأعراف:170)، ليس “يُمْسِكون” بالكتاب، بل “يُمَسِّكُون”؛ أيْ يأخذون الكتاب بقوّة، أيْ أن يتعاملوا مع كل الأوامر على أنها واجبة التنفيذ، وكل النواهي على أنها واجبة الاجتناب.
والسر هو موقع الإنسان من الله، موقع المسلم من ربه عز وجل أنه عبدٌ لله، فالعبد يجب أن يطيع سيده دون مناقشة: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(النساء:65). هذا ربِّي إذا صدر منه الأمر يسبق كل أمر.. هذا هو الشرع، وبهذا جاء الدين، وبهذا يمكن اكتساب القوة من جديد، إذ الجميع في هذا الدين محفوظ موقعُه بشرع الله.
فالإمام طاعته واجبة بشرع الله ما دام مطيعًا لشرع الله، إنما الطاعة في المعروف، والطاعة واجبة؛ لأن الجميع لا يطيع غير الله، الكل يطيع شرع الله.
إن أخْذ الكتاب بقوّة، يقتضي أن يُتعامل معه على أنه أكبر من أي شيء آخر؛ يأتي إلى الإنسان يخاطبه، يطلب منه أن يفعل وأن لا يفعل، فيجب الإقبال على الكتاب والسنة، وعلى العلم بالشرع لمعرفة ما يطلب الله عز وجل منّا، فنفعل ذلك ونُربّي عليه أهلنا وأولادنا، وندعو إلى ذلك.
والشرع، ضَمِن جميع الحقوق من خلال أمره بجميع الواجبات، وهناك علاقة تلازمية بين الواجبات والحقوق. فلا يوجد حق إلا وهو واجب في عنق آخر؛ حقّ الزوجة هو واجب في عنق الزوج، وحق الزوج على الزوجة واجب في عنق الزوجة، وحق الآباء على البنين واجب في حق البنين، وحق البنين على الآباء واجب في حق الآباء، وحق الرئيس على المرؤوسين واجب في حق المرؤوسين، وحق المرؤوسين على الرئيس واجب في حق الرئيس.. وهكذا.
فهذا التلازم يعني أن الإسلام ضمن جميع حقوق الناس كيفما كانت نوعيتهم، ضمنها من خلال ضمانة الواجبات، لأنه فرض واجبات. والمطلوب أداء الواجب قبل المطالبة بالحق. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إنه ستكون بعدي أثَرة” أيْ أنه سيأتي زمان يُؤثر الناس فيه أنفسهم على الآخرين، أي يحبّون أن يستبدّوا بالمسائل كلها، ويؤدُّوها لأنفسهم. و”الأثَرة” هي ضدّ “الإيثار”؛ فـ”الإيثار” يعني أن الإنسان يُؤثر الآخرين على نفسه رغم أنه محتاج، أما “الأثرة” هي أخذ الشيء للنفس دون الآخرين، قال صلى الله عليه وسلم: “إنها ستكون بعدي أثَرَة وأمور تنكرونها”. قالوا: “يا رسول الله، كيف تأمر مَن أدرك منا ذلك؟”، قال: “تؤدُّون الحقّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم” (رواه مسلم).
إذن، ها هنا ترتيب “الحق” و”الواجب”؛ فالواجب أولاً؛ فكل صاحب حرفة واجبه أن يؤدي الواجب أولاً، ثم يطلب الحق الذي يترتب على ذلك الواجب.
فـ”أخْذ الكتاب بقوة”، هو السبب في كل خير يأتي بعده. لماذا؟ لأنه يأخذ الكتاب بقوة. فعندما يأخذ الإنسان الدين بقوّة، يصير غير عادي، ويصير إنسانًا نُفخت فيه روح القرآن، ونفخت فيه روح الإيمان.. ذلك الكتاب أعطى أثَره فيه فأصبح غير عادي، إذ ذاك يدفعه الشرع دفعًا إلى أن يطلب جميع أنواع القوة الأخرى.
ما هي أنواع القوة الأخرى وعناصرها؟
ففي زماننا هذا، وفي غير زماننا، كانت القوة تتمثل في “العلم” بالله، والعلم بالشرع، والعلم بالدعوة.. وتتمثل في “المال”، لأن المال أساس دعمها. ثم في قوة “الإعلام”، لأن الإعلام هو التبليغ للدعوة بالحِكمة، ودفْع النفوس لحملها بقوة كل هذه العناصر للقوة يجب طلبها، وهي مضمنة في الأركان الخمسة للإنسان -لو يتدبر- ومتضمنة في جميع شرع الله، لأنها هي من مظاهر القوة أيضًا، ويدفع إليها دفعًا أخذ الكتاب بقوة، أي أخذ الدين بقوة.
1– قوة العلم وأولوياته
يقوم الإنسان بطلب العلم، فينهض ليتعلّم العلم ويعلّمه غيره. وطلب العلم رأسه “العلم الشرعي” وهو العلم الحقيقي: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)(البقرة:120).
ولكن حتى العلم التسخيري الذي به يسخر الكون هو -كذلك- مطلوب في الشريعة: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ )(الحج:65). كيف نسخر الهواء، كيف نسخر الضوء والمعادن والبحار والجو، وكل شيء من حولنا هو كذلك له نظام موجود في هذا الكون.
فالعلم أساس القوة منذ عهْد آدم عليه السلام، به تمّت خلافته.. وكذلك ترونه في أول شرط جعله الله مؤهلاً لطالوت ليكون ملِكًا، قالوا: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ)(البقرة:247).
القوة المادية تأتي بعد القوة المعنوية وبعد قوة العلم.. فالعلم يجب أن يَطلبه المسلمون أولاً، وهو واجب عليهم. وأول ما نزل من كتاب ربّنا هو: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ((العلق:1). هذه الأمّة يجب أن تُصدّر العلماء لا أن تستوردهم، ويجب أن تكون هي الأولى في تسخير الكون لا أن تكون هي نفسها مسخَّرة ضمن بقيّة الكائنات لغيرها.. نعم، لا بد أن نطلب العلم بجميع معاني العلم وبجيمع أشكاله على هذا الترتيب؛ العلم الشرعي أولاً، والعلم الكوني ثانيًا، علم تسخير الكون.
2 – قوة المال
كذلك المال مرتبط بأمر الزكاة، لأن المال قِوام الأعمال؛ “نعْم المال الصالح للعبد الصالح”، به تتم أمور كثيرة. بالمال استطاع الآن المفسدون في الكرة الأرضية أن يقودوا العالم بسهولة.
ولنتأمل قول الله عز وجل عن بني إسرائيل المفسدين في الأرض: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ)(آل عمران:112). هذا الاستثناء معناه؛ أن هاته الذلة تزول بحبل من الله وحبل من الناس.. وهم كانوا تحت ذمة المسلمين وفي ذمتهم، كانت الجزية مضروبة عليهم حسب الشرع: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)(التوبة:29)، والصَّغار هو الذُّل والهوان، وإعطاؤهم الجزية هو نفسه ذُلّ وهوان. فكيف يزول هذا الذل؟ يكون زواله بحبل من الله وحبل من الناس.
وكيف نفهم “حبل الله” الذي سبق حبل الناس: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ)؛ مشيئة الناس تابعة لمشيئة الله عز وجل، نحن انسلخنا من حقيقة الإسلام، ومن وضع الأمة الإسلامية التي كانت خيْر أمة أُخرجت للناس. والأمة الإسلامية الآن رقع، مجزَّؤون ممزّقون.. مفهوم الأمة لا وجود له في الواقع.
هذا حبل الله للمفسدين اليوم، وسهْل قطْعه، وسَهْل انقطاعه والله سبحانه وتعالى يقطعه عنهم. وبسببه يُقطع عنهم حبل الناس، ولكن متى؟ إذا رجع المسلمون وتابوا، وإذا رجعوا إلى الوضع الطبيعي الذي هو التحلّي بالقوّة التي أمرهم الله عز وجل بها، وهي أخذ الكتاب بقوة. فإذا أخذوا الكتاب بقوّة فإن الله عز وجل يقطع حبله عن المفسدين في الأرض، ويقطع بالتبع حبل غيرهم من الناس عنهم كذلك.
والإيمان الحقيقي الذي حدد القرآن الكريم مصطلحاته فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا)(الحجرات:15)، أي عندهم اليقين، ثم: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ((الحجرات:15)؛ فجاهدوا بأموالهم، وجاهدوا بأنفسهم، وليس في سبيل دنيا أو مصلحة أو جاه، بل في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، وإظهار دين الله.
هذه بعض معاني “قوة المال”؛ يعني أن طلب المال هو طلب للقوة، لأن المال قوام الأعمال. إذن يجب أن نكون كاسبين للمال على أقصى ما يكون وجوه الكسب، ونسخّر ذلك لإعلاء كلمة الله عز وجل لا لغير ذلك.
3– قوة الإعلام بين الواقع والمطلوب
إن الإعلام قوّة من أكبر القوى، لأنها تتّجه إلى تكوين عقول الناس وأفكارهم واعتقاداتهم وأذواقهم، بل تتجه إلى غسل أدمغتهم. أما إعلام المسلمين -في الحقيقة- فهو موجَّه لتوعية الناس ولجعلهم يعرفون الحقيقة ولنشر دين الله.. رسالة الإعلام في الإسلام هي إبلاغ وتبليغ الدين على حقيقته، وتبليغ حقائق الواقع كما هي، ليَعرف الناسُ ويتَبيّنوا الصواب من الخطأ والطيّب من الخبيث. فهذا -كذلك- يجب أن يطلب فيه المسلمون القوّة، وأن يكونوا أقوياء فيه، وأن ينافسوا فيه إلى أقصى حدود المنافسة. وهكذا “المال”، وهكذا “العلم”، وهكذا “الإعلام”، ومثل ذلك يقال عن معنى الأمّة المشار إليها سابقًا.
إن المسلمين الآن لا بد أن يشعروا من جديد بمعنى الأمّة الإسلامية، مرّ الوقت الذي نقول فيه هذا سوداني، وذاك تركي، وذاك تونسي.. بل نحن مسلمون وكفى. فأساس العلاقات والارتباطات، وأساس كل شيء، هو “الإسلام”، ولا شيء غيره. فنحن أبناء الإسلام، واللهُ ربُّنا، وأوْلى عباد الله بالله من شكر، كل معنى رفع إلى جانب الإسلام هو مضاهاة، وهو شيء آخر يخشى منه على المسلمين في إيمانهم. إن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما نادى على الأنصار -وكان الأوْسيّون والخزرجيّون على شفا التطاحن والتقاتل- الخزرج، قال لهم صلى الله عليه وسلم: “ما بالُ دعوى جاهلية”، قالوا: “يا رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار”، فقال: “دَعوها فإنها منْتنة” (رواه البخاري).
خلاصة القول
لا بد أن يعرف المسلمون دينهم الحق، ولا بد أن يعرفوا دين الله، فهذه عناصر كبرى للقوة يطلبها الأفراد، وتطلبها الجماعات، وتطلبها الأمة جمعاء.
حين نقول “الأمة”، نقول ذلك على معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (رواه مسلم). كيف يتداعى سائر الجسد بالسهر والحمى إذا لم يكن له إحساس مشترك يحُس بعضهم ببعض؟ وكيف يدعو بعضه بعضًا؟
إن أمة المسلمين ذات واحدة، وأمة واحدة، وجسَد واحد.. إذا أُصيب جزء منها فالكل عليه الدفاع.. هذا هو الأصل، وهذه هي الحقيقة، وهذا هو الدين.. فالقوة هذا سببها ليؤخذ الكتاب بقوة: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ((البقرة:63).
هذه عناصرها الكبرى، يجب أن تطلب ويدفع فيها إلى أقصى الحدود، وذلك لأن الله عز وجل في الأمر النهائي الأخير، أعطى توجيهًا عامًّا بأمره؛ (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ((الأنفال:60)؛ فالقوة هنا نكرة تفيد العموم، وجاء قبلها حرف “من” التي تعني جزء، ومعناه: القوة أنواع كثيرة جدًّا، ولكن كل ما يصلح أن يكون فيه قوة مما أحلّ الله، يجب أن يُعدّ: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ).
فمن أراد أن يكون قويًّا فليُكثر صلته بالقويّ وهو الله سبحانه وتعالى، منه تُستمدّ القوة ومن كتابه، وأخذ كتابه بقوّة يكسب القوّة.. فلنأت البيوت من أبوابها، ولنُقبل على الله وعلى شرعه، ولنتب توبة نصوحًا، ولنعزم عزمة صادقة على الرجوع إلى الله عز وجل، نطلب منه القوة لأنه ضامن القوة.
والذي يجعل القوة الشرعية شيئًا آخر هي “الأمانة”: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ((القصص:26). كلّنا في وظائفنا وأعمالنا مستأجرون، فكل واحد منا عليه أن يكون في عمله قويًّا وأمينًا أيضًا. و”الأمانة” ليس من السهل أن تكتسب، لأن مردها خوف الله عز وجل وتقواه.. فالذي لا يعرف الله حق المعرفة، قد يظهر لك أمينًا في بعض المجالات، ولكن في مجالات أخرى يفتقد إليها؛ بينما المؤمن متّصل دائمًا بالحيّ القيوم سبحانه وتعالى، وهذه الصفة موجودة ما دام الإيمان موجودًا، وكما قال رسول الله : “لا إيمان لمن لا أمانة له”(رواه أحمد).