اعتبر ابن خلدون التاريخ فنًّا من الفنون التي تتداولها الأمم، يقول في هذا السياق: “إن فن التاريخ، من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، وتشد إليها الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال”، ويواصل القول معلنًا أن: “فن التاريخ فن عزيز المذهب، جم الفوائد شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا”.
والتاريخ عند ابن خلدون، في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، لذلك فهو أصيل في الحكمة عريق.
لقد أعطى ابن خلدون لحوادث الدول عللاً وأسبابًا، وسلك في مقدمته مسلكًا غريبًا: فقد شرح فيه “من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها”.
إن حركية التاريخ عند ابن خلدون هي حركة انتقال مستمرة من البداوة إلى الحضارة على شكل دورة، وهذا الانتقال يتم عبر الدولة على خمس مراحل، ولكنها مراحل لا تعدو ثلاثة أجيال؛ جيل البداوة وجيل الحضارة، وجيل الترف الذي تسقط في عهده الدولة.
فابن خلدون ساقته مشاهداته وتأملاته العميقة لشؤون الاجتماع الإنساني، إلى القول بأن الظواهر الاجتماعية لا تشذ عن بقية ظواهر الكون، وأنها محكومة بقوانين طبيعية تشبه القوانين التي تحكم ظواهر الفلك والطبيعة والكيمياء، ولاحظ أن كثيرًا من المؤرخين لا يتجاوزون في كتابتهم التاريخية النقل المباشر عن سابقيهم وكأن التاريخ حكاية عن السلف، مع أن التاريخ في جوهره فلسفة عميقة لقوانين الاجتماع.. وبهذا النهج عارض من سبقه من المؤرخين الذين جمعوا الروايات دون نظام منهجي خاص يفرق بين الحقيقي والأسطوري من الأخبار.
المنهج التاريخي لابن خلدون
يعتبر كتاب “المقدمة” من أوائل الكتب التي تعرَّضت لذكر القواعد العامة لفهم التاريخ، فهو بحث تاريخي نقدي، يعارض فيه مؤلفه ابن خلدون مَن سبقه من المؤرخين الذين اكتفوا بجمع الروايات دون تمحيصها لتمييز الأسطوري عن الحقيقي من الأخبار. فكانت الأحداث تروى على علاتها دون تدقيق، فالأغلبية الساحقة من المؤرخين العرب السابقين، استوعبوا بلا نقد مادة التاريخ المنقولة إليهم بطريقة الإتباع، فهم حسب ابن خلدون استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، ونقلوها كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع ولم يراعوها، فالتحقيق قليل، إذ إن أغلب المؤرخين يحصرون علمهم في حشد الروايات وتوثيق السند، دون القيام بنقد الأخبار على أساس طبائع العمران.
فلئن كان فضل المؤرخين القدامى يتجلى في أمانة النقل وغزارة المادة التي صنعوا منها كتبهم، فإن ابن خلدون -وعلى النقيض منهم- أضاف فضلاً آخر في ناحيتين اثنتين، الأولى في تفريقه بين التاريخ وفلسفته، والثانية في تساؤله الدؤوب عن العلل والأسباب للحوادث، ومحاولة الوصول إلى إجابات منطقية مستمدة من معرفته بطبائع العمران. يقول ابن خلدون: “لقد أنشأت في التاريخ كتابًا، رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجابا، وفصلت فيه الأخبار والاعتبار بابًا بابًا، وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسبابًا، وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكًا غريبًا، واخترعته من بين المناحي مذهبًا عجيبًا، وطريقة مبتدعة وأسلوبًا، وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها، حتى تنزع من التقليد يدك، وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال وما بعدك”.
ابن خلدون ساقته مشاهداته وتأملاته العميقة لشؤون الاجتماع الإنساني، إلى القول بأن الظواهر الاجتماعية لا تشد عن بقية ظواهر الكون، وأنها محكومة بقوانين طبيعية تشبه القوانن التي تحكم ظواهر الفلك والطبيعة والكيمياء.
كتب ابن خلدون مقدمته من أجل وضع معايير بيد المؤرخ، يعتمدها في معالجة الوقائع التاريخية، وقد أجرى تحقيقات نقدية عمت تراث أسلافه من المؤرخين كابن هشام، والواقدي، والبلاذري، وابن عبد الحكم والطبري، والمسعوديـ وابن الأثير.. فاستبعد بعضًا من رواياتهم على اعتبار أنها محض اختلاق لتعارضها مع طبائع الأشياء وقوانين العمران، وشكك في صحة كثير منها. وقد بنى هذه الأحكام على ما قرره في مقدمته بصدد الاجتماع الإنساني ومناهج البحث العلمي وقواعد التحري التاريخي، فالفيصل الذي يميز الوقائع التاريخية الحقيقية من الدعاوى الكاذبة، هو معرفة مدى مطابقتها لأحوال العمران، فاستنبط بذلك قانون المطابقة للنواميس الاجتماعية.
قانون المطابقة للنواميس الاجتماعية
يعتبر ابن خلدون أول من استنبط قانون المطابقة للنواميس الاجتماعية، فوضع بذلك علم العمران، وهو علم مستقل بذاته، وكان من أهم أسباب إنشاء هذا العلم الجديد حرصه على تخليص الكتب التاريخية من الأساطير، وإصلاح وتقويم ما نقل سلف المؤرخين من أوهام وأخطاء. فقد كان ابن خلدون واعيًا كل الوعي بأنه كان مجددًا في ما تناوله من قضايا بكتابه المشهور باسم “المقدمة”، فقد أعطى للحوادث عللاً، فكما أن للطبيعة قوانين معينة تسير حوادثها وفقها، فكذلك العمران البشري أو الاجتماع الإنساني له عوارضه الذاتية الخاصة به، ويقصد ابن خلدون بـ”العوارض الذاتية”، ما نقصده نحن اليوم من كلمة “القوانين”.
إن تطبيق ابن خلدون لقانون المطابقة جرَّه إلى الكشف عن القوانين الاجتماعية، وذلك لكي يجعل منها بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه، معيارًا صحيحًا يتحرى به المؤرخون طريق الصدق و الصواب فيما ينقلونه.. فإذا كان أهل الحديث -مثلاً- يركزون جهودهم على النقد الذاتي باتباع منهج الجرح والتعديل، فقد اكتشف ابن خلدون أهمية النقد الباطني، فإذا كانت الشريعة جملة إنشاء، فإن التاريخ محض خبر يحتاج إلى منهجية خاصة به، وبسبب هذا رفض رفضًا قاطعًا كل الروايات غير الموافقة لأحوال العمران.
التاريخ عند ابن خلدون، في ظاهره لا يزيد عن أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق.
وقد أعطى نماذج من تطبيقه لقانون العمران الذي ابتكره، وقد أورد فيه أمثلة لأخبار مستحيلة الحدوث وردت في كتب المؤرخين السابقين.. فهو يرى أن ما أورده المسعودي وغيره من أن جيوش النبي موسى قد بلغت ستة آلاف مقاتل، لا يثبت أمام النقد الباطني لأسباب جغرافية وإستراتيجية، كما اعتبر دخول “افريقش” المغرب خرافة، وغزوات التبابعة لبلاد المغرب من الأخبار الواهية، يفندها بأدلة عقلية وجغرافية وسياسية؛ يقول ابن خلدون في هذا الصدد: “ومن الأخبار الواهية للمؤرخين، ما ينقلونه كافة من أخبار التبابعة ملوك اليمن وجزيرة العرب أنهم كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى أفريقية والبربر من بلاد المغرب.. وهذه الأخبار كلها بعيدة عن الصحة، عريقة في الوهم والغلط، وهي أشبه بحديث القصص الموضوعة، وذلك أن ملوك التبابعة إنما كان بجزيرة العرب، وقرارهم وكراسيهم بصنعاء باليمن، وجزيرة العرب يحيط بها البحر من ثلاث جهاتها، بحر الهند من الجنوب، وبحر فارس الهابط من البصرة من المشرق، وبحر السويس الهابط منه.. من أعمال مصر من جهة المغرب كما تراه في مصور الجغرافيا”.
ومن الأخبار المستحيلة عند ابن خلدون، ما نقله المسعودي أيضًا في تمثال “الزرزور” الذي تجتمع إليه الزرازير في يوم معلوم من السنة حاملة للزيتون ومنه يتخذون زيتهم.. وأمثال ذلك كثير، وتمحيصه إنما هو بمعرفة طبائع العمران، وهو أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار، وتمييز صدقها من كذبها. ويضيف في هذا السياق أمثلة كثيرة للتدليل على أهمية استحضار النواميس والعلل المنطقية في التعامل مع الروايات التاريخية.
التعاقب الدوري في نظرية ابن خلدون
يعد ابن خلدون مؤسس نظرية التعاقب الدوري للدول في تاريخ الفكر الإنساني، وقد توصل إلى فكرة التعاقب في الحضارة، وقارن في دائرية التغيير بين الإنسان والمجتمع، فأكد أن للمجتمع في عُمر يمر به مقيسًا ذلك على عمر الشخص الذي يولد ثم يكتمل نموه، ثم يهرم فيموت.. وعلى هذا الأساس جعل للدولة ثلاثة مراحل تمر منها: بداوة ثم ازدهار فتدهور.
لقد أعطى ابن خلدون لحوادث الدول عللاً وأسبابًا، وسلك في مقدمته مسلكًا غريبًا: فقد شرح فيه “من أحوال العمران والتمدن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية، وما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها”.
إن الدولة كانت المحور الأساسي الذي تدور حوله أبحاث ابن خلدون ونظرياته، إذ قاسها قياسًا تامًّا على عمر الفرد ومراحل تطوره، وجعل لها أعمارًا كما للأشخاص، وهي النظرية التي تمثل جوهر فكره في الدورة العضوية للدولة؛ يقول ابن خلدون في “المقدمة”: “الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص”. ويرى “أنها لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال، والجيل هو عمر شخص من العمر الوسط فيكون أربعين، الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته”، مستدلاًّ بقول الله تعالى في سورة الأحقاف: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً).
إن حركية التاريخ عند ابن خلدون هي حركة انتقال مستمرة من البداوة إلى الحضارة على شكل دورة، وهذا الانتقال يتم عبر الدولة على خمس مراحل، في المرحلة الأولى تنشأ الدولة على أنقاض دولة سابقة لها، وفي المرحلة الثانية ينفرد صاحب السلطان بالحكم بعد أن يكون قد تخلَّص ممن اشتركوا معه في تأسيس الدولة، وفي المرحلة الثالثة تزدهر الدولة وتسود الدعة والسكينة، وفي المرحلة الرابعة تتحول الراحة والطمأنينة إلى قناعة وسكون ومسالمة، وتأتي المرحلة الخامسة تتمة للمرحلة السابقة ونتيجة لها حيث تفقد الدولة هيبتها فتتحلل وتزول. وتتميز هذه الأطوار الخمسة بما يلي:
الطور الأول: طور الظفر والاستيلاء على الحكم.
الطور الثاني: طور الاستبداد والبطش.
الطور الثالث: طور الفراغ والدعة والتمتع بملذات الدنيا، مما تنزع إليه طباع البشر من تخليد الأثر وتحصيل المال والإسراف في الشهوات.
الطور الرابع: طور القنوع والسكون، ويكون صاحب الدولة في هذا مقتنعًا بما حقق سابقوه وما أنجزوه من أعمال، فلا يضيف شيئًا.
الطور الخامس: طور الإسراف والتبذير، ويكون صاحب الدولة مخرِّبًا لما بناه سلفه، وهادمًا لما كانوا يبنون.. وفي هذا الطور تحصل في الدولة طبيعية الهرم، فتتعرض للانقراض والزوال على يد دولة جديدة.
إذا كانت الدولة تمر بأطوار خمسة حسب ابن خلدون، فإنها لا تعدو ثلاثة أجيال، جيل البداوة وجيل الحضارة، وجيل الترف الذي تسقط في عهده الدولة.
يتميز جيل البداوة بخشونة العيش والبسالة والتماسك الاجتماعي والاشتراك في المجد، فلا تزال بذلك صورة العصبية محفوظة فيهم، والبدو من خصالهم الاقتصار على الضروري من العيش في أحوالهم، لكنهم سرعان ما يتطورون؛ إذ يتحول حالهم من البداوة إلى الحضارة والعمران بفعل المُلك مع الجيل الثاني.. والحضارة إنما هي تفنن في الترف وأحكام الصنائع المستعملة، وبناء القصور والاستمتاع بأحوال الدنيا، وإيثار الراحة على المتاعب، فيتحول الاتجاه نحو الترف الذي هو غاية الحضارة، وهو يزيد الدولة في بدايتها قوة، إلا أنه العلة الأساسية لبداية الانحلال، وهو المؤذن بخراب العمران.
فالحضارة تفسد طباع البداوة، إذ يتجه أصحاب الدولة إلى الإسراف في التنعم، ويزهدون في العمل، ويخلدون إلى الراحة والشراب، ويكثرون من النساء ومعاقرة الخمر، فتزول هيبة السلطة من النفوس، وتكثر القلاقل والفتن.. فيفقدون بذلك حلاوة العز والعصبية بما هم فيه من ملكة القهر، ويبلغ فيهم الترف غايته فتفسد أخلاقهم وطباعهم، فينقلب التناصر بينهم إلى تنافر، والتعاضد إلى تخاذل، فيظهر الظلم إلى جانب الترف، وهما مظهران من مظاهر خراب العمران وسقوط الدولة، وإلى ذلك يشير قوله تعالى في سورة الإسراء: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).
خلاصة
الدولة عند ابن خلدون طور طبيعي، فالتمدن غاية البداوة، ولكن البدو عندما يتطورون في أساليب العيش، ويتقدمون في الصنائع فإنهم ينتهون إلى الفناء، لأن الحضارة تحمل في طياتها بذور نهايتها، فتهرم الدولة وتسقط. والهرم عند ابن خلدون مسألة طبيعية في الدولة إذ يقول: “وهو من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواءها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي، والأمور الطبيعية لا تتبدل”. وعليه فزمام الأمور لا بد أن تنفلت، وتبدأ الدولة المنهارة في السقوط، فتفسح المجال لجماعة أخرى من البدو تسعى إلى الملك والريادة فتحل محلهم، وتحذو حذوهم، تمر بنفس الأطوار والمراحل.
(*) كاتب وأكاديمي مغربي.