تقوم العلاقة بين الإنسان والكون على التوافق والانسجام، فمنذ هبط الإنسان إلى الأرض وقد ارتبط تطوره العقلي والحضاري بحسن توافقه وتكيفه مع الآخر من حوله، وحسن استخدامه وانتفاعه بمفردات الحياة.
والمسلم يتعامل مع مخلوقات الله سبحانه وتعالى من منطلق الشعور بالمساواة معها والمشاركة في العبودية لإله واحد. فهو يتوجه بالحب إلى الله، ومن خلال ذلك الحب يتوجه بالحب إلى ما أبدع وصنع، ولذلك نراه يستوي عنده ضعف المخلوقات وقوتها، حقارتها وعظمتها؛ لأن نظره لا يتعلق بها، بل يتعلق بخالقها القوي الحكيم. فالمسلم يقدِّس من عالم الأشياء المصحف، والكعبة، وقبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونحوها، لمكانتها عند الله عز وجل، وتقديسه لها يجمع بين الاحترام والحب.
ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين درسًا في حب الجماد، والتفاعل معه ومجاوبته حينما حنَّ إليه الجذع ومال؛ فعن جابر رضي الله عنه أنه قال: كان المسجد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم مسقوفًا على جذوع من نخل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر فكان عليه، فسمعت لذلك الجذع صوتًا كصوت العشار، حتى جاءه النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليها فسكن. (رواه البخاري)
الجماد له احترامه في تصور المسلم للوجود، وقد تعلقت كثير من العبادات بالمكان والزمان، والإنسان وجميع الموجودات خاضعون لقانون واحد وسنة واحدة تتحكم في تحركهم وسكونهم، وهذا النظام يعبّر عن وحدة الخالق.
وعندما مر النبي صلى الله عليه وسلم على جبل أحد، وعلى الرغم من أنه كان موطنًا أصاب المسلمين فيه قرح وأصاب النبيَّ جرح، واستشهد عليه عمه حمزة بن عبد المطلب فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، إلا أنه أشار إليه وقال: “هذا جبل يحبنا ونحبه” (صحيح البخاري).. فالجبل أحب المسلمين، والمسلمون يحبون هذا الجبل على الرغم من أن ما حدث في موقعة أُحد كان أدعى أن يتشاءم المسلمون منه.
وفي موقف آخر يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم جبل أُحد ويغمزه برجله حينما اهتز من تحته؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فضربه برجله قال: “اثبت أُحد، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيدان”. (رواه البخاري)
ولم يكن هذا الأمر من التفاعل مع الجماد في البيئة الإنسانية مقصورًا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بعثته، بل وقبلها؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أُبعث إني لأعرفه الآن” (رواه مسلم). فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه لم يتجاهله بعد البعثة، بل ظل يعرفه ويتعلق به، ليس إلا أنه مخلوق لله أحبه وعظَّمه، وكان يسلم عليه قبل بعثته مبشرًا له ومعلمًا بما سيُكلَّف به النبي من تحمل الرسالة وأدائها.
ومثل ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته وابتدأه بالنبوة، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تَحَسَّر عنه البيوتُ، ويُفضي إلى شعاب مكة وبُطونِ أوديتها، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. (رواه البيهقي)
وفي ليلة الجن التي خرج فيها النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فاجتمع نفر من الجن يستمعون القرآن، ثم انصرفوا إلى قومهم منذرين.. سئل ابن مسعود: مَن أخبر رسول الله بحضورهم، فقال: آذَنَتْه بهم شجرةٌ. (رواه مسلم)
ولقد نبع الماء بين أصابعه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وسبح الطعام بين يديه فسمعه أصحابه؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنا نعدّ الآيات بركة، وأنتم تعدّونها تخويفًا، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فقلّ الماء فقال: “اطلبوا فضلة من ماء”، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء ثم قال: “حي على الطهور المبارك والبركة من الله”، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. (صحيح البخاري)
وذراع الشاة المطهية تحدَّثت لرسول الله تحذّره من السمّ الذي دسَّتْه اليهودية فيها؛ فإن يهودية من أهل خيبر سمَّتْ شاة مَصْلِيَّة، ثم أهدتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ رسول الله الذراع فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ارفعوا أيديكم”، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية فدعاها، فقال لها” “أسممت هذه الشاة؟” فقالت اليهودية: مَن أخبرك؟ قال: “أخبرتني هذه التي في يدي” وهي الذراع، فقالت: نعم، قال: “فما أردت إلى ذلك؟” قالت: قلت إن كان نبيًّا فلن يضرّه، وإن لم يكن استرحنا منه، فعفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان التراب سلاحًا ناجعًا استجاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عزوة بدر وغزوة حنين فعشي أعين المشركين؛ فعن ابن عباس رضي الله عنه: أن الملأ من قريش اجتمعوا في الحِجْر، فتعاقدوا باللات والعزّى ومَناة الثالثة الأخرى ونائلةَ وإسافٍ، لو قد رأينا محمدًا لقمنا إليه مقام رجل واحد، فلم نفارقه حتى نَقتُله، فأقبلت ابنته فاطمة تبكي حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هؤلاء الملأ من قومك تعاقدوا عليك، لو قد رأوك قاموا إليك فقتلوك، فليس منهم رجل إلا عرف نصيبه من دمك. قال: “يا بُنيَّةُ ائتني وَضوءًا” فتوضأ ثم دخل المسجد، فلما رأوه قالوا: ها هو ذا، وخفضوا أبصارهم، وعفروا في مجالسهم، ولم يرفعوا إليه أبصارهم، ولم يقم إليه منهم رجل، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام على رؤوسهم، وأخذ قبضة من التراب وقال: “شاهت الوجوه”، ثم حصبهم بها، فما أصاب رجلاً منهم من ذلك الحصا حصاة إلا قُتل يوم بدر كافرًا. (رواه الإمام أحمد).
الموجودات تتشابه في أطوار التكوين وتتابعها بين الضعف والقوة والنقص والكمال، ولكل موجود أجل وعمر مقدَّر لا يتقدم عليه لحظة ولا يتأخر، ينتهي دوره في الكون بانتهاء أجله.
وعن العباس بن عبد المطلب: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَصيَات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال: “انهزموا ورب محمد”، فما هو إلا أن رماهم بحَصيَاته، فما زلتُ أرى حَدَّهم كليلاً وأَمْرَهم مُدْبرًا. (رواه مسلم)
وقال سلمة بن الأكوع وقد شهد مع رسول الله حنينًا: فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوهم فقال: “شاهت الوجوه”، فما خلق الله منهم إنسانًا إلا ملأ عينية ترابًا بتلك القبضة فولوا مدبرين. (رواه مسلم)
ولم يكن تفاعل عالم الجماد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصورًا على العالم الأرضي، بل والسماوي، فنجد القمر ينشق نصفين معجزة له؛ فإن أهل مكة سألوا رسول الله أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر. قال الخطابي: انشقاق القمر آية عظيمة لا يعادلها شيء من آيات الأنبياء، لأنه ظهر في ملكوت السماء، والخطب فيه أعظم والبرهان به أظهر، لأنه خارج عن جملة طباع ما في هذا العالم من العناصر.
وقد استجاب الله لنبيه فسخر السماء والسحاب لاستسقائه صلى الله عليه وسلم؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “أصابت الناس سنة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم فمُطِرْنا يَومَنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره، فقال: يا رسول الله، تَهدَّم البناء وغَرِق المال فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: “اللهم حَوَالَيْنا ولا عَلَيْنا” فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوبَة وسال الوادي قَناةُ شهرًا، ولم يَجِئْ أحد من ناحية إلا حدَّث بالجَوْد. وفي رواية: وخرجنا نمشي في الشمس”. (رواه البخاري).
هناك تشابه في التكاثر بين المخلوقات، حيث خلق سبحانه وتعالى من كل شيء زوجين متجاذبين تتولد الطاقة أو الحياة من التقائهما، فالحياة كلها تعتبر آية ساطعة على التوحيد
فالجماد له احترامه في تصور المسلم للوجود، وقد تعلقت كثير من العبادات بالمكان والزمان، وأوضح مثال على ذلك حركة المسلم في طوافه حول الكعبة، فإنها حركة تشبه كثيرًا حركة النجوم والأجرام السماوية في أفلاكها حول مركزها، وتشبه أيضًا حركة الإلكترونات في مساراتها حول النواة داخل الذرة، مما يعكس صورة رمزية لوحدة البناء بين أعظم المخلوقات وأدقها، فينطق بأنه سبحانه خالق كل شيء، وأن الكون عبارة عن مسجد كبير اشتركت فيه الكائنات سجودًا وتسبيحًا لخالقها.
والإنسان وجميع الموجودات خاضعون لقانون واحد وسنة واحدة تتحكم في تحركهم وسكونهم، وهذا النظام يعبّر عن وحدة الخالق، وتظهر فيه سنن الله في خلقه. فلكل موجود ممكن دورة حياة تبدأ بالوجود ثم النماء ثم الضمور فالموت، وهو أمر يصيب كل شيء من حولنا، سواء في ذلك الجماد والحيوان والإنسان، حتى النجوم والمجرات لها أعمار وآجال، بانتهائه تدخل في دورة حياة كائنات أخرى، وتفقد صورتها الأولى وتتحول إلى صور أخرى متعددة.
قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ)(الزمر:21).
وقال تعالى: (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(الروم:54).
فالموجودات تتشابه في أطوار التكوين وتتابعها بين الضعف والقوة والنقص والكمال، ولكل موجود أجل وعمر مقدَّر لا يتقدم عليه لحظة ولا يتأخر، ينتهي دوره في الكون بانتهاء أجله.
وكذلك فهناك تشابه في التكاثر بين المخلوقات، حيث خلق سبحانه وتعالى من كل شيء زوجين متجاذبين تتولد الطاقة أو الحياة من التقائهما، فالحياة كلها تعتبر آية ساطعة على التوحيد، تظهر على وجه الكائنات صغيرها وكبيرها، قال تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(الذاريات:49).
(*) مفتي الديار المصرية السابق.