لقد دخلنا في هذه الأيام مع الأمم والشعوب المرتبطة بنا في سلسلة من التحوّلات والتغيّرات.
محور التوازن
وإذ نسير نحو مستقبل حافل بتحوّلات متلاحقة وتقلّبات متتالية، فإنه من الأهمية بمكان الحفاظُ على روح الأمة وهويتها الذاتية، وإقرارُ الفرد والجماهير على محور التعقّل والتبصّر والاتزان في التفكير والتخطيط والتدبير، وعدم إتاحة الفرصة لأيّ نوع من أنواع التفكير الفوضوي والسلوك الاستفزازي الذي من شأنه أن يثير الحشود الجماهيرية إلى تصرفات عشوائية مجهولة العاقبة.. وفي حال وجود بؤر استفزازية ينبغي التصدّي لها فورًا.
ينبغي التصدي للنفوس المغامرة حتى لا تعبث بمقدرات الأمة؛ وبالمقابل توجيهُ الأنظار إلى أبطال مخلصين يمثلون روح الكتاب المجيد.
وإنّ اتباع هذه الخطوات واتخاذ تلك التدابير مهم جدًّا بقدْر أهمية الإرشاد إلى الله والجهاد في سبيله، بل قد يكون أهم منهما وأخطر في الظرف الراهن بالذات.
ولا يَغيبنّ عن البال أبدًا أنه من السهولة بمكان، أن تتحوّل الجماهير الحاشدة من الألفة إلى البغض، ومن الوحدة إلى التفرّق، ومن التحرّك المشترك إلى الفوضى والتمزّق. لذا ينبغي ألا تتاح الفرصة لأفراد الحشود العشوائية في أن يجرفوا أنفسهم والأمة التي ينتمون إليها، نحو عواقب مأساوية بسبب معالجات متعجلة متسرعة، أو تحت تأثير بعض النفوس المولعة بالمغامرات.
أجل، ينبغي التصدي لتلك النفوس المغامرة حتى لا تعبث بمقدرات الأمة؛ وبالمقابل يتطلب الموقف توجيهَ الأنظار باستمرار إلى أبطال مخلصين يمثلون روح الكتاب المجيد وجوهر السنة النبوية الشريفة.
شعور بالمسؤولية
وإنك لتلمح في سلوك هؤلاء الأبطال الذين يُعتبَرون ركنًا نورانيًّا أساسيًّا من أركان “الوعي الجمعي” الذي يدور في مدار الوحي الإلهي التواضع والانمحاء ونكران الذات بدل السعي وراء الشهرة والمناصب، والإيثارَ بدل الاستئثار، والحرصَ على مصالح المجتمع بدلاً من المصلحة الذاتية.
رجال الوعي الجمعي يسعون دائمًا إلى أن يكونوا متوافقين متآلفين مع السنن الكونية.
إن هؤلاء الأبطال يحملون في جوانحهم هموم المجتمع كله.. هموم يومه وغده.. يشعرون في أعماقهم بمسؤولية تاريخية تجاه حاضر الأمة ومستقبلها. فبينما تجدهم يزأرون بأفكارهم بشجاعة منقطعة النظير حينًا، تلقاهم في حين آخر وقد اعتراهم الهمّ المقلق، وأصابهم الأرق المضني، وذهبت بهم التوجسات مذاهب شتى حرصًا على حياة “البراعم الناشئة” من الضياع. مَثَلُهم في ذلك مثل الدجاجة الحضون تبسط أجنحتها على بيضاتها، تشمل أفراخها بالمحبة، تموت وتحيا من أجلها في اليوم مائة مرة.
إنهم إذ يتعرّضون إلى أشنع أنواع التشويه والإهانات لا يردّون عليها ولو بكلمة، بل يتحمّلونها على مرارتها معتصمين بصبر جميل؛ وإذ تتفجر براكين العواطف وتثور نيران الانفعالات في أعماقهم لا يأبهون لها، بل يكظمونها ويحبسونها في صدورهم، ثم يمضون في سبيلهم كأن لم يحصل شيء.
لن تُحجِم هذه النفوس المتدفقة بمشاعر سامية عن أن تُقبِل على الموت بابتسام، أو أن تضحّي بأرواحها من أجل الآخرين ببسالة مذهلة، أو أن تزجّ بنفسها وسط النيران كإطفائي شجاع بكل سعادة لإنقاذ من يستغيث بها. وهي إذ تقوم بهذه البطولات الفريدة يتوهج ألق الشعور بالمسؤولية على ملامحها، وتتجلى لذة العبودية وخشوعها على سلوكها.
الإخلاص والأمل
إنهم لا ينتظرون جزاءً ولا شكورًا مقابل تضحياتهم النبيلة، بل لو استنجدهم أحد فلم يسرعوا إلى نجدته في الحال عدُّوا ذلك جريمة لا تغتفر، واعتبروا أنفسهم غير أوفياء، وبادروا إلى محاسبة أنفسهم وتعنيفها.
قلوب هؤلاء المخلصين تخفق بالأمل في كل وقت. لا يقصّرون أبدًا في استثمار الطاقات والإمكانات المادية والروحية التي تدعم مشاريعهم وتحقق خططهم التي رسموها وفقًا لخريطة آمالهم واعتبروا إنجازها أسمى أمانيهم.
إنهم يتعرّضون إلى أشنع أنواع التشويه ولكن لا يردّون عليها ولو بكلمة، بل يتحمّلونها معتصمين بصبر جميل.
وهم في كل ذلك لا يبتغون سوى مرضاة الله تعالى والتحقق بمعاني الإخلاص المحض؛ حتى إذا ما مُنِحوا -دون سؤال منهم- مكافأةً مادية أو تنزّلت عليهم مواهبُ روحية وموارد وجدانية لقاء خدماتهم أو مكابداتهم، فسوف يترددون بين هواجس الخوف من أن يكون ذلك استدراجًا من الله وابتلاء، وبين فرحة نوال النعمة العظمى والإعلان عنها؛ فتجد عباراتهم تترواح بين مشاعر الخوف والرجاء.. فهي وجِلة مرتعشة متعثرة عند شعورهم بالخوف.. مشرقة مبتهجة ممتلئة ثقةً بالله عند إحساسهم بالرجاء. وهم بين هذه المشاعر وتلك يواصلون حياتهم أبطالاً للمراقبة ورموزًا للتبصّر واليقظة.
الحكمة والتبصر
هؤلاء المتيّمون ليسوا رجالاً مستسلمين متواكلين سلبيّين أبدًا. فبالإضافة إلى توكلهم الكامل على الله، وتسليمهم الخالص له، وتفويضهم التام إليه، فهم منتبهون إلى ما يجري حولهم من وقائع أشد ما يكون الانتباه، حساسون تجاه ما يحدث في الساحة من تحوّلات وتقلّبات أشد ما تكون الحساسية؛ بل ويتخذون إزاءها مواقف واضحة وحاسمة، ويتفاعلون معها تفاعلاً حكيمًا وبصيرًا.
فهم لا يتعثرون بعواطفهم أبدًا، لا في شؤونهم الدنيوية ولا في شؤونهم الأخروية.. يزِنون كل حركاتهم وسكناتهم بموازين الأوامر الإلهية.. يراعون مستوى الفهم البشري في مقولاتهم وخطاباتهم وتفسيراتهم، ومن ثَمَّ تأتي قراءتهم ورؤيتهم لحقيقة الكون منسجمة مع الفهم البشري.
يدرك هؤلاء الحكماء موقع الإنسان من الكون حقّ الإدراك، ويعرفون مكانته حقّ المعرفة. يبتعدون عن كل فعل يؤدي إلى الاصطدام مع فطرة الأشياء وطبيعة الأحداث، ويسعون دائمًا إلى أن يكونوا متوافقين متآلفين مع السنن الكونية.
المصدر: مجلة حراء، العدد 25، المقال الرئيس
ملاحظة: عنوان المقال من تصرف محرر الموقع