ترحل نهاد عبر دكاكين العرافين والأولياء الصالحين وحوانيت العطارين، وما أن تهم في سرد حكايتها إلا ويخترقها ذاك البريق المنبعث من أعين هؤلاء الرجال.
ذات يوم أوقفتها الشجون وفاطمة صاحبتها في هذه الترحالات عند هذه البقعة من الأرض، حين اشتاقت الروح وتاقت واستظلت بظلال القباب والمآذن تعلن التوحيد للواحد الأحد، ولا تمل نهاد من الولوج والخروج من تلك الأماكن ، وعلى حين غفلة صادفت رجلا ً يلبس جلبابًا رائق اللون كلون الماء الرقراق في بحر هدأ واستسلم للقهار، ذو لحية بيضاء يفيض من وجهه بهاء ورضاء، منكب على أوراق يحنو عليها برقة وعذوبة في غرفة عتيقة بالمبنى، تعلوا بجدرانها تتنسم الحرية والانعتاق من المقيد والمحدود، تعلوا وتفخر بوجودها في ذلك المسجد الذي تجتمع عنده فنون الأولين والمتقدمين، دخلت تلك البنية الندية المملوءة بحكايات لا نهايات لها، وما أن بدأت تُظهر ما في مكنون نفسها من روايات انهكتها، باحثة عن معين لتلك الحكايات التي تصر ألا تكتمل، حتي ملأ البريق عين الرجل وطغى وأفاض على جميع ملامح الوجه واليدين والكلمات، فبرقت عينا نهاد لهذا البريق الذي عبق به المكان، وصمتت نهاد، ولكن صاحبنا لم يصمت بل أوضح وأبان وكأنه كان قد حبس عن الكلام منذ ألف عام، واغرورقت عيناه بدموع غزيرة، وأفاض في شرح اللطائف الإلهية، ويحك نهاد ماذا فعلت بهذا الرجل أيبكيك أم يبكي من!؟، وتبتعد نهاد من هذا المكان وهذا الزمان حين قال الرجل “إن الإنسان ضعيف”، وتتركه بمخيلتها وهو ينتحب نحيب الطفل الذي فقد أمه، وتتراءي أمامها تلك الزرافة الحبيبة إلى قلبها، ذلك المخلوق الذي يبدو أنه صاحب كبرياء وعدم خضوع، حين كانت واقفة لا تتكلم ولا تتأوه، لا تساعدها إحدى الزرافات ولا تنادي القابضات، بل تتطلع إلى الوهاب الرحيم، تعلوا برقبتها وعينيها إلى السماء وكأنها تناجي رب العالمين، وفي هدوء ينزل الوليد من بعد كبير عن الأرض، فهي تلد وهي واقفة، وما أن وطأت قدما الصغير الأرض حتي وقف؛ بل جرى نحو أمه. يا ألله ويا لطف معارفك، ويا إنسان ما أتفهك وما أعجزك، تولد ضعيفًا ولا تكاد تبين ولا تقدر على الفعل وتشب وما أن يتقدم بك العمر حتى تضعف وتضعف ولا يرحمك إلا الرحمن الرحيم.
أفاقت نهاد عندما وقف الشيخ وانتحي جانبًا ليحضر لنهاد كوبًا من الماء لتنعش به نهاد جمودها؛ مازالت فاطمة تجهش بالبكاء، وبين كل حين وآخر تحاول فاطمة أن تكاشف الرجل بمكنون قلبها ولكن بلغة الاستدارة والالتفات إلى شخص آخر، ولكن لا يعيرها إلا قدرًا يسيرًا من الانتباه، فتذكرت نهاد أنه حين دخولهما إلى هذا المكان، نصحتها صاحبتها بأن تقول إنها تري أشياء مخيفة ولكن نهاد أبت وقالت لا أقول سوي الحقيقة، لقد أصابت الحقيقة الرجل في صميم القلب والروح، فانفجرت العينان تدعونا ويدعو نفسه إلى الولوج إلى عالم الملك والملكوت، ونرى الأنعم العديدة التي أنعم الله بها علينا.
وقفت نهاد فأوجس الشيخ خيفة من انصراف نهاد ولكنها كانت تستأذن لتجلس في مواجهته تمامًا، فقام يرتب لها المكان وإن كان مرتبًا، أفاض الشيخ طويلا ونهاد تسأل نفسها أكل هذا البكاء من أجلي، أم أنه يبكي أمسه وحاضره، يبكي نفسه وروحه، وكلما تقدم بينا الحديث يذكرنا أنه شيخ ٌ تجاوز الستين، أيا شيخنا تٌذَ كّر من بالله عليك؟ تذكر من؟ من ماذا أنت خائف!؟، أتخاف الحب حين يأتيك رحمة من رب العالمين؟ أنت تدعونا للولوج مع فتوحات العارفين للحب الإلهي، أليس الحب يطغي ويشف ويملأ كل أرجاء الكون ويتخلل نفسك وروحك في توق متماوج يملأ كل الأراضين والسموات؟، يلتفت الشيخ إلى أوراقه وتمضي نهاد وصديقتها، ما زالت اللطائف التي أفاض بها الشيخ وبريق عينيه تنفذ إلى أعماقها؛ تحاورها، لقد رأيتك ِ في منامي بل في يقظتي ،أتيتِ سريعا ً أشتاق إليكِ واشتقتُ إليك ، ولكنّي تجاوزت الستين، يسألها ما اسمك فتقول” نهاد”، وكلما مضي في الحديث يعاودها بالسؤال فتردد “نهاد القلب”، وكأنه يريد أن يتأكد أنه هو الاسم الذي انبلج له مع نسيم الفجر، وظهر له بين دفات كتابه يعبر سريعًا فوق أوراقه وهو دائمًا متبسمًا يهمس مع العبير “متي اللقاء؟”.
تقف نهاد فجأة عند حوانيت العطارين وتسأل عن دواء يشفي بريق العينين والذهاب إلى الأماكن التي جبناها طويلاً، فيرددون نفس الكلمات والحروف، يا بنيتي تسألين عن دواء لمعارج لا يصل إليها إلا القليل ولا نعلم عنهم شيئًا، فلترحلي وتسافرين عبر المجرات والأفلاك وبين الشمس والقمر وداخل البحور، وكلما أضاءت لك العيون وأطلعت على بريقها لا تنظرين إلى الأرض، بل أعبري مع العابرين إلى الرؤي وعالم الملك والملكوت.