إن اكتشاف الطباعة ثلاثية الأبعاد يعدُّ انعطافة كبيرة في مجال تصميم الأدوات وإنتاجها، وعلى الرغم من أن هذه الانعطافة تمنح الفُرَص الإيجابية في الحياة، إلا أنها تكشف -في الوقت ذاته- عن بعض السلبيات والمخاطر غير المتوقَّعة على حياة الإنسانية.
أبناؤك يطبعون في غرفتهم اللعبة الجديدة -هي الروبوت المتحوِّل- بطابعة ثلاثية الأبعاد.. اِبنتُك، تطلب الفستان الذي تراه على شبكة الإنترنت بأبعاده الثلاثية.. وغيرها من الأمور التي تبدو خيالية إلى حدٍّ ما في واقعنا.. واعلمْ أنه مضى حوالي خمس سنوات، على استبدال معظم أواني الطبخ بثلاثية الأبعاد؛ حيث تم اكتشاف طابعات طعامٍ محمولة بثلاثية الأبعاد (ICOOK3D) تقدِّم تشكيلات من الطعام وبنكهات عديدة أو تنفث أحبارًا صالحة للأكل تكفي لثلاثة أشهر.. وقد يبدو السرور على ملامح جيرانك الجدد وهم يعيشون في منزلهم المطبوع بثلاثي الأبعاد، بينما أنت حزين لأنهم نسخوا بيتك الجميل الذي بذلت قصارى جهدك لبنائه بتصاميم فريدة متميزة.. وعلى شاشة تلفازك الثلاثي الأبعاد، الذي اشتريتَه الأسبوع الماضي من متجر الطباعة، تشاهد نشرة الأخبار التي تنقل لك نبأ التحقيقات التي أجراها رجال الأمن حول عضو حي طُبع بثلاثي الأبعاد في السوق السوداء.
قد تظن أن ذلك كله فيلمًا خياليًّا، ولكن نقول إن الإنسانية بالفعل، قطعت أشواطًا كبيرة في سبيل تحقيق هذا الحلم والخيال العلمي. إن الطباعة ثلاثية الأبعاد (أو التصنيع المضاف)، هي عملية تصنيع أدوات ثلاثية الأبعاد من صورة رقمية على الحاسوب، وذلك باستخدام مواد البلاستيك أو المعدن. وبينما تعتمد تقنيات التصنيع المضاف التقليدية (العمليات الطرحية) على إزالة المواد عن طريق الحفر أو القطع، فإن الطباعة ثلاثية الأبعاد تعتمد على تقنية الإضافة في العمل، فتصنع أداة عن طريق إضافة طبقات متتالية من المواد. ولا شك أن هذه التقنية ستتيح للجماهير، الحصول على العديد من الأفكار والأدوات الجديدة وبطريقة أسرع.
وبالتالي يرى العلماء والباحثون أن الطباعة ثلاثية الأبعاد ستحدث -في الأمد القريب- ثورة جذرية في حياتنا اليومية؛ من التصنيع والنقل إلى التسوق والاستهلاك إلى أشياء عديدة لم تخطر على بال بشر. وقد بدأ العلماء بالفعل أن يتناولوا التغيرات التي ستحدث مستقبلاً، ويدرسوا مدى تأثيرها على مجتمعاتنا وحياتنا الصحية وعاداتنا اليومية.
ودعونا نبدأ أولاً بالتصنيع.. تتيح الطباعة ثلاثية الأبعاد نماذج أولية رخيصة، وتتيح كذلك إنشاء منتجات دقيق للغاية. وبينما كان الصانعون يستخدمون الطباعة ثلاثية الأبعاد في نمذجة تصاميمهم لسنوات، فإننا نتوقع أن نرى آلات طباعة ثلاثية الأبعاد في المصانع على المدى القريب جدًّا لتسريع هذه العملية. ثمة بعض المكونات المخصصة للغاية يتم إنتاجها بأسعار معقولة وبعدد أكبر على طابعات ثلاثية الأبعاد، وذلك لأن قدرات هذه الطابعات تحسنت على مدى السنوات الخمس الماضية، وبدأت المصانع تقوم بدمج عمليات التصنيع الهجينة من خلال دمج الطباعة ثلاثية الأبعاد في خط الإنتاج وسلاسل التوريد.
هذا ويمكن تقليص خطوط التجميع وسلاسل التوريد في العديد من المنتجات، بمساعدة الطباعة ثلاثية الأبعاد؛ حيث يمكن طباعة الهياكل المعقدة والتصاميم بخطوة واحدة، ومن ثم القضاء على عمليات التصنيع المنفصلة، وعلى الشحن، وتجميع الآلاف من الأجزاء الصغيرة للمنتجات مثل السيارات، كما يمكن تصنيع المنتجات وقطع الغيار عند الطلب، مما يجنبنا الحاجة إلى بناء مخزون، وبذلك ستكون مرافق التصنيع قادرة على طباعة مجموعة واسعة من المنتجات دون إعادة تجهيز.
وبالتالي سيصبح التخصيص هو القاعدة الأساسية في التصنيع؛ حيث يتم تخصيص المنتجات ليس فقط من خلال السماح لك بنقش اسمك عليها، بل من خلال توفير خيار لتغيير الحجم واللون والشكل وبيئة العمل أيضًا.
وفي هذا الصدد قامت شركة نايكي (Nike) باستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد لتصنيع منتجاتها النهائية، ويعتبر حذاء فيبور ليزر تالون -لشركة نايكي- هو أخفّ حذاء لكرة القدم في العالم وزنه (159 جرامًا مع الرباط)، وقد تم إنتاجه باستخدام تلبيد انتقائي بالليزر. كما ستتيح الطباعة ثلاثية الأبعاد، المنتجات المخصصة بدرجة عالية، مثل الأحذية التي تناسب تمامًا الهيكل ثلاثي الأبعاد الممسوح ضوئيًّا لأقدام العميل.
ومن الواضح أن الطباعة ثلاثية الأبعاد ستحسن دورة الابتكار وتبسط المسار من التصميم إلى المنتج النهائي، ومن ثم ستوفر النماذجُ الأولية السريعة -المصنوعة بالطابعات ثلاثية الأبعاد- الوقتَ لتحويل التصميم أو المفهوم إلى منتج نهائي، وذلك من خلال السماح للمصممين باختبار العديد من المفاهيم أثناء استخدام موارد محدودة. وهذا بطبيعة الحال سيحسن جميع خطوات دورة التصنيع؛ من التصميم إلى الإنتاج، ومن التعديل إلى إعادة الإنتاج.. وبفضل الاستخدام الأكثر كفاءة للمواد الخامة، سيتم توفير انبعاثات الكربون من منتج معين، والحد من كمية الطاقة المستخدمة، وتقليل الحاجة لشحن المنتجات إلى كافة أرجاء العالم.
ومما لا شك فيه أن ظهور الطباعة ثلاثية الأبعاد، سيتيح لمحلات الطباعة أيضًا فرصة العمل في مراكز التسوق الكبيرة، ولا سيما فرصة عرض الطباعة التي تقدِّم خدمات عبر الإنترنت وتصنِّع المادة بثلاثية الأبعاد مباشرة، وهذا بطبيعة الحال سيشجع على استخدام هذه الآلية بتحميل تصميم وفق مزاجك، أو تحديد المواد وخيارات الإنتاج الخاصة بك، أو طلب طباعة منتج خاص بك لالتقاطه من المتجر المحلي الخاص بك، أو حتى أن يتم شحنه مباشرة إلى منزلك.. وبالتالي سيتمكن تجار التجزئة من التركيز على بيع التصاميم باستخدام منصات الشبكة التفاعلية التي تسمح لك ابتكار تصميم جديد، أو تخصيص التصاميم المختارة.
ومع المزيد من المواد المعتمدة في الطباعة ثلاثية الأبعاد عالية الدقة (البلاستيك والخشب والسيراميك والمعادن وغيرها)، فإن الإصلاحات سوف تكون أسهل وبأسعار أنسب من أي وقت مضى.. وبدلاً من طلب أجزاء، أو استبدال المعدات، أو البحث عن ورشة للتصليح، ستجد الإمكانية في طلب أجزاء أو تصاميم على الإنترنت لتطبعها في بيتك بثلاثية الأبعاد.
لا شك فيه أن ظهور الطباعة ثلاثية الأبعاد، سيتيح لمحلات الطباعة أيضًا فرصة العمل في مراكز التسوق الكبيرة، ولا سيما فرصة عرض الطباعة التي تقدِّم خدمات عبر الإنترنت وتصنِّع المادة بثلاثية الأبعاد مباشرة.
ومن الملفت للنظر أن تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد الحديثة تقدِّم إمكانية الطباعة المجهرية بدقة النانو، وهي أسرع بمئة مرة من عمليات الطباعة التقليدية. كما أن الطباعة ثلاثية الأبعاد لا تُنتِج القطع المعدنية، وهذا ما يجعلها تقوم بدور مهم في تقليل النفايات المادية وتوفير الطاقة؛ فمثلاً، نقوم بالتحليق على متن طائرات بها أجزاء مطبوعة ثلاثية الأبعاد، وهذا -بطبيعة الحال- يجعل الطائرة أخف وزنًا وأكثر كفاءة في استهلاك الوقود. والجدير بالذكر أن وكالة ناسا الفضائية، تقوم باختبار طابعات ثلاثية الأبعاد في الفضاء، وذلك لبناء وإصلاح المركبات الفضائية والأقمار الصناعية.
قام مجموعة من الباحثين بتطوير مادة من البلاستيك الموصل تسمى “كاربومورف”، وهي مادة رخيصة وقابلة للطباعة، ويمكن تحميلها في معظم الطابعات ثلاثية الأبعاد في السوق. كما أن مادة الكاربومورف هذه، تمكِّن من طباعة الأشياء ثلاثية الأبعاد؛ مثل وحدات تحكم اللعبة كاملة مع المسارات الإلكترونية، وأجهزة الاستشعار، والمناطق التي تعمل باللمس.
وليس ببعيد أن تُحدث الطباعة ثلاثية الأبعاد تغييرًا في فضاء التعليم؛ إذ ربما سيقوم المعلم بتكليف الطالب بمهام طباعة ثلاثية الأبعاد في فصول العلوم أو الفنون، ليتمكن من تدريس الأشكال الهندسية المعقدة، أو من مساعدة الطلاب على فهم بنية الجزيء بشكل أفضل.
وعليه، يمكن للطلاب تطوير فكرةٍ والقيام بتصميمها ثم تحويلها إلى حقيقة عن طريق الطباعة ثلاثية الأبعاد. وثمة عدد من المدارس المتوسطة والثانوية في الولايات المتحدة، مجهزة -بالفعل- بطابعات ثلاثية الأبعاد؛ حيث يتم في بعض المقررات دراسة المواد وكيفية دمجها بالطباعة ثلاثية الأبعاد، بل ويتم استخدام قلم الطباعة ثلاثية الأبعاد، ليتمكَّن الطالب من الطباعة على الهواء، ويجمع بين التصميم والإنتاج في آن واحد.
والحق يقال إن الفائدة الكبرى للطباعة ثلاثية الأبعاد نجدها في مجال الصحة؛ حيث بادرت الزراعة الطبية إلى استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد لتحسين صحة الإنسان، وذلك من خلال زراعة العظام والأعضاء الصناعية، بالإضافة إلى الأجهزة الطبية المناسبة والأدوية الشخصية الملائمة.. بل ثمة بحوث ودراسات مستمرة حول الإمكانية في طباعة الأنسجة الرخوة، والجلد، والشرايين والأوردة.
وما زال الدارسون يبحثون عن طريقة تغنيهم عن الحاجة إلى التبرع بالأعضاء، كما لا زالوا يبحثون عن سبل تمكِّنهم من الوصول إلى طباعة أعضاء ثلاثية الأبعاد تناسب جسم الإنسان وتتكيف معه بسرعة. وقد وصلوا خلال بحوثهم إلى ما يسمى بـ”التصنيع الحيوي”؛ وهو طباعة الأعضاء باستخدام الخلايا الحية (الحبر الحيوي) بدلاً من الحبر. ومن ثم وجدوا طابعات تستخدم صمامات متخصصة، للسيطرة على معدل الخلايا المتحررة ووضعها في بنية ثلاثية الأبعاد. والجدير بالاهتمام أن هذه الطابعات قادرة على طباعة الملايين من الخلايا في الدقيقة الواحدة. ولعله في المستقبل القريب، ستكون الأنسجة والأعضاء المطبوعة متاحة في المختبرات للبحث، وإنها من المأمول أن تحل محل زرع الأعضاء.
هذا وتم استخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد -كذلك- في تصميم البندقيات والأسلحة، مما يعني أن الأسلحة ستكون متاحة للجميع بتحميلها وطباعتها بطابعات ثلاثية الأبعاد. وبهذه التقنية نجح العلماء مؤخرًا بطبع بندقيات لها مخزن بسعة 30 طلقة بعيار 15 ملم، مما سبب قلقًا كبيرًا لدى الآخرين على سلامة الإنسانية وأمنها.
ولكن على الرغم من هذه السلبيات وغيرها من المشاكل غير المتوقعة، يمكن القول بأن الطباعة ثلاثية الأبعاد ستظل موضع اهتمام يدور حوله العلماء والباحثون للإتيان بالكشوفات الجديدة والابتكارات، في مجال الطب والعلوم والتكنولوجيا والتعليم.. تمامًا كما أحدث جهاز الحاسوب والإنترنت تغيرات جذرية على مدى العشرين سنة الماضية. ونحن بحاجة إلى وجود مَن يدعم هذه الابتكارات مع معالجة المخاوف التي تصاحب التغيرات.
(*) كاتب وباحث متخصص في مجال الصحة / الولايات المتحدة الأمريكية. الترجمة عن الإنجليزية: بدران حامد.