العمل التطوعي سواء أكان تبرعًا بالمال أو بالمنفعة، له مقاصد شرعية معتبرة وذلك على مستوى الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات؛ فإن العمل التطوعي قد يكون واجبًا عينيًّا إذا كان لتحقيق مقصد واجب، وهكذا باقي الأحكام التكليفية، لذلك فإن العمل التطوعي ليس له حكم تكليفي واحد، وإنما تعتريه مجموعة من الأحكام.
ولتوضيح هذا الدور المقاصدي الذي يقوم به العمل الخيري التطوعي، سأعتمد في ذلك على ما ذهب إليه رائد علم المقاصد الإمام الشاطبي رحمه الله (ت 790هـ)، ففي تناوله للمقاصد وتفصيله لها يقول الشاطبي في الموافقات: “تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذا المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام، أحدها أن تكون ضرورية، والثاني أن تكون حاجية، والثالث أن تكون تحسينية”.
العمل التطوعي سواء أكان تبرعًا بالمال أو بالمنفعة له مقاصد شرعية معتبرة وذلك على مستوى الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات
والضروريات تعود إلى حفظ خمسة أمور، لا يمكن استقامة حياة الإنسان في الدنيا وضمان سعادته في الأخرى إلا بها وهي: “حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل”، وتسمى الكليات الخمس التي تختل الحياة بفقدان إحداها، ويوضح المراد منها الشاطبي رحمه الله فيقول: “المصلحة التي لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين”.
والأدلة التي تدل على وجوب المحافظة على هذه الأمور الخمسة كثيرة جدًا، وقد بيّن الإمام الغزالي (ت 505هـ) رحمه الله تعالى في كتابه “المستصفى” أهمية المحافظة على هذه المصالح فقال: “…لكننا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة: هو ما يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يضمن هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، لأن الله أمر بكل خير دقه وجُلّه، وزجر عن كل شر دقّه وجُلّه. فإن الشر يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح”. وهذه هي مقاصد الشريعة وأهدافها فتوجيهات الشريعة تهدف إلى المحافظة على دين المسلم ونفسه ونسله وماله وعقله، وجعلت ذلك من الضروريات التي يجب المحافظة عليها، وحاطتها بالمحافظة على الحاجيات والتحسينيات. وقد بين الشاطبي رحمه الله ــ “أن الشريعة جعلت المحافظة على الضروريات الخمس يكون بأمرين أحدهما: ما يقيم أصل وجودها على سبيل الابتداء والإبقاء على سبيل الدوام، والثاني: ما يدفع عنها الاخلال الذي يعرض بدفع القواطع”، فتكون هذا المراعاة متعلقة بجانبي الوجود والعدم.
أولاً: حفظ الدين
يتجلى حفظ الدين في نظام التبرعات والعمل الخيري التطوعي من خلال تشيد المساجد، وكفالة الأئمة والمؤذنين والدعاة وطلاب العلم، والتصدي للمذاهب الهدامة المضلِّلة التي تهدف إلى تشكيك المسلمين في عقيدتهم، ودحض الشبهات والتيارات والأفكار الهدامة. والعمل على إحياء نفائس التراث الإسلامي المخطوط وإشاعة العلوم الإنسانية عن طريق الحلقات الدراسية، إضافة إلى دروس الوعظ والإرشاد.
ثانيًّا: حفظ النفس
تهدف الشريعة إلى المحافظة على مصلحة النفس من جانبي الوجود والعدم من خلال تقديم المساعدات الإغاثية بجميع أشكالها -الدواء والطعام والكساء- للمسلمين المتضررين من الكوارث والحروب، وكفالة الأيتام والأسرة الفقيرة، والتقاط اللقطاء ورعايتهم، وكفالة الأطباء والصيادلة والممرضين العاملين في إغاثة المحتاجين، وتنمية مهارتهم.
ثالثًا: حفظ العقل
يأتي حفظ الشريعة لمصلحة العقل من جانبي الوجود والعدم من خلال الأمر بالتعلم والحث عليه، وإنشاء المدارس والمعاهد لتعليم أبناء المسلمين المحتاجين، وكفالة معلميهم، وتدريبهم وتأهيلهم، وطباعة الكتب والمقررات وتوفير المجلات العلمية المتخصصة والمناسبة، وإجراء البحوث والدراسات التي تسهم في النهوض بالمستوى التعليمي للمحتاجين، بما يتناسب مع المستجدات المعاصرة، إضافة إلى عقد ندوات وملتقيات علمية وكذا الإسهام في مكافحة المخدرات وكل ما يخدر العقل ويخرجه عن وظيفته الأساسية.
الأعمال الخيرية التطوعية لها ارتباط قوي بحفظ الكليات الخمس التي عليها مدار الإسلام وجميع الأديان السماوية
رابعًا: حفظ المال
لما كان المال من الضروريات التي تقوم بها الحياة، فقد أمر الشارع الحكيم بحفظه، وذلك بالعمل على استثماره وتنميته، كما نهى سبحانه عن ضياعه من خلال تحريم الربا والظلم والسرقة، وأكل مال اليتيم، والإسراف والبغي.
ومن الوسائل التي تهدف إلى المحافظة على مصلحة المال في الأعمال الخيرية التطوعية مثل: تدريب أبناء المسلمين المحتاجين وتأهيلهم لإقامة المشاريع التنموية الزراعية، وتعليمهم الحرف والمهن التي تعود بالنفع عليهم وعلى أسرهم ومجتمعهم، ويحتاجها سوق العمل، ليتمكنوا من المحافظة على أموالهم وتنميتها، وليعولوا أنفسهم وأسرهم وينهضوا بمجتمعهم.
خامسًا: حفظ النسل
من الوسائل التطوعية التي تهدف إلى المحافظة على مصلحة النسل: مساعدة المعوزين والمحتاجين على الزواج، وذلك بتعريس المستضعفين من الرجال والنساء والمكفوفين، بل فكر المحبسون في خدمة هذه الضرورة من خلال توفير دور خصصت لاستقبال العروس حين لا تجد مكانا تقيم به عرسها، ومن جملة ذلك ما وجد بمدينة فاس، قصر يحمل اسم دار الشيوخ واقع عند زقاق رياض جحا بين الصاغة ورحبة قيس أُعِدَّ لتعريس المكفوفين الذين لا سكن لهم، فكلما اقترن كفيف بكفيفة أقاما بهذه الدار مراسيم الزفاف إلى جانب ثياب وحليّ يليق بالعريس، “وكان الهدف الرئيس من هذا العمل الخيري الوقفي هو العمل على تحصين الشباب الذين لا يجدون قدرة على إقامة العرس، وحثهم على المبادرة إلى الزواج من خلال تقديم المساعدات الاجتماعية، كما تم إنشاء أربعة دور وقفية تبتدئ من دار بدرب السعود في حي الجزية، وهذه الأخيرة خصصت لسكنى الضعفة المتوسطين الذين يريدون التزوج ولا يتوفرون على سكن يتسع لهذه المناسبة، وقد جهزت كل واحدة منها بالفرش والأثاث اللائق بوليمة التزويج”.
وإذا كان حفظ ضرورة النسل من جانب الوجود تمثل في مساعدة الشباب على الزواج تحقيقًا لمقصد تكثير سواد الأمة؛ فإن إصلاح ذات البين، وعلاج المشكلات الاجتماعية التي تقع بين الأزواج أسهم في حفظ هذه الضرورة في شقها العدمي، وفي هذا الصدد نذكر مؤسسة “دار الثقافة” التي تهتم باللائي حصل بينهن وبين أزواجهن خلاف، فيقمن: “بهذه الدار آكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن، وبين أزواجهن من النفور”، وقد أسهمت هذه في لمِّ شمل الكثير من الأسر التي يحصل فيها الشنآن بين الزوجين، فكان لهذه المؤسسة الاجتماعية أثرها الاجتماعي في إزالة الشحناء، والمساهمة في الحفاظ على مصلحة النسل من الخطر الذي يتهدد أبناء هذه الأسر من الضياع بعد طلاق الزوجين أو تدمير حياتهم من خلال ما يقع بين الزوجين من خلافات وخصومات.
وبإمعان النظر فيما سبق ندرك جليًّا أن الأعمال الخيرية التطوعية لها ارتباط قوي بحفظ الكليات الخمس التي عليها مدار الإسلام وجميع الأديان السماوية.